موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: الرَّدُّ على الجَهْميَّةِ في قَولِهم بفَناءِ الجنَّةِ والنَّارِ


تنوَّعت وجوهُ الرَّدِّ على مقالةِ الجَهْميَّةِ بفَناءِ الجنَّةِ والنَّارِ، ومن ذلك:
الوَجهُ الأوَّلُ: إخبارُ اللهِ تعالى عن دوامِ الجنَّةِ والنَّارِ وأهلِهما
‌‌قال أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ عن الجَهْميَّةِ: (زعَموا أنَّ اللهَ هو قَبلَ الخَلقِ، فصَدَقوا، وقالوا: يكونُ الآخِرَ بَعدَ الخلقِ، فلا يبقى شيءٌ ولا أرضٌ ولا جنَّةٌ ولا نارٌ ولا ثوابٌ ولا عقابٌ ولا عَرشٌ ولا كُرسيٌّ. وزعموا أنَّ شيئًا مع اللهِ لا يكونُ، هو الآخِرُ كما كان، فأضلُّوا بهذا بشرًا كثيرًا. وقُلنا: أخبَرَنا اللهُ عن الجنَّةِ ودوامِ أهلِها فيها، فقال: لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ [التوبة: 21] . فإذًا قال جلَّ وَجهُه: مُقِيمٌ، وقال: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [النساء: 57] ، وقال: أُكُلُهَا دَائِمٌ [الرعد: 35] ، فإذًا قال اللهُ: دَائِمٌ لا ينقطِعُ أبدًا. وقال: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر: 48] ، وقال: وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر: 39] ، وقال: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت: 64] ، وقال: مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا [الكهف: 3] ، وقال: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران: 107] ، وقال: وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنوعَةٍ [الواقعة: 32 - 33] . ومِثلُه في القرآنِ كثيرٌ.
وذكَرَ أهلَ النَّارِ فقال: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [فاطر: 36] ، وقال: أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي [العنكبوت: 23] ، وقال: لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ [الأعراف: 49] ، وقال: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف: 77] ، وقال: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم: 21] ، وقال: خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة: 6] ، وقال: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا [النساء: 56] ، وقال: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا [السجدة: 22] ، وقال: إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ [الهمزة: 8] . ومِثلُه في القرآنِ كثيرٌ.
وأمَّا السَّماءُ والأرضُ فقد بادتا؛ لأنَّ أهلَها صاروا إلى الجنَّةِ والنَّارِ، وأمَّا العَرشُ فلا يَبيدُ ولا يذهَبُ؛ لأنَّه سَقفُ الجنَّةِ، واللهُ عليه، فلا يَهلِكُ ولا يَبيدُ) [285] ((الرد على الجهمية والزنادقة)) (ص: 168- 170). .
وقال الماتُريديُّ: (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنونَ [البقرة: 38] ... هذه الآيةُ والتي تليها، وهو قَولُه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 39] تنقُضُ على الجَهْميَّةِ؛ لأنَّهم يقولونَ بفَناءِ الجنَّةِ والنَّارِ، وانقطاعِ ما فيهما) [286] ((تأويلات أهل السنة)) (1/ 441). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ جَهْمًا قال: إذا كان الأمرُ كذلك لزِمَ فَناءُ الجنَّةِ والنَّارِ، وأنَّه يَعدَمُ كُلُّ ما سِوى اللهِ، كما كان ما سِواه معدومًا. وكان هذا ممَّا أنكَرُه السَّلَفُ والأئمَّةُ على الجَهْميَّةِ، وعدُّوه مِن كُفرِهم، وقالوا: إنَّ اللهَ تعالى يقولُ: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [ص: 54] ، وقال تعالى: أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا [الرعد: 35] ، إلى غيرِ ذلك من النُّصوصِ الدَّالَّةِ على بقاءِ نَعيمِ الجنَّةِ) [287] ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 310). .
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ شُبهتَهم في امتِناعِ وُجودِ ما يتناهى من الحوادِثِ مُخالِفةٌ لأهلِ الإسلامِ
قال ابنُ تيميَّةَ: (التَّسلسُلُ في المُستقبَلِ جائِزٌ عِندَ جماهيرِ المُسلِمينَ، وغيرِهم من أهلِ المِلَلِ وغيرِ أهلِ الملَلِ؛ فإنَّ نعيمَ الجنَّةِ وعذابَ النَّارِ دائمانِ مع تجدُّدِ الحوادِثِ فيهما، وإنَّما أنكر ذلك الجَهْمُ بنُ صَفوانَ، فزعم أنَّ الجَنَّةَ والنَّارَ يَفنيانِ، وأبو الهُذَيلِ العَلَّافُ زعم أنَّ حركاتِ أهلِ الجَنَّةِ والنَّارِ تنقَطِعُ، ويَبقَونَ في سكونٍ دائمٍ، وذلك أنَّهم لمَّا اعتقدوا أنَّ التَّسلسُلَ في الحوادِثِ ممتَنِعٌ في الماضي والمُستقبَلِ قالوا هذا القَولَ الذي ضلَّلهم به أئمَّةُ الإسلامِ) [288] ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 146). .
وقال أيضًا: (هذا قاله جَهْمٌ؛ لأصلِه الذي اعتقَده، وهو: امتناعُ وُجودِ ما يتناهى من الحوادِثِ، كما بُسِط الكلامُ عليها في غيرِ هذا الموضِعِ [289] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (1/146-148) و (1 /310). . وهو عُمدةُ أهلِ الكلامِ الذين استدلُّوا على حُدوثِ الأجسامِ وحُدوثِ ما لم يخْلُ من الحوادِثِ بها، وجعَلوا ذلك عُمدتَهم في حُدوثِ العالَمِ، فرأى الجَهْمُ أنَّ ما يمنعُ من وجودِ ما لا يتناهى يمنعُه في المُستقبَلِ، كما يمنعُه في الماضي، فيلزَمُ أن يكونَ الفعلُ الدَّائمُ ممتنعًا على الرَّبِّ في المستقبَلِ كما كان ممتنِعًا عليه في الماضي) [290] ((الرد على من قال بفناء الجنة والنار)) (ص: 44). .
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّ مبدَأَ ضلالِهم أنَّهم قاسوا أمورَ اليومِ الآخِرِ وسائِرِ الغيبيَّاتِ على أمورِ الدُّنيا، وتلك أقيِسةٌ فاسِدةٌ.
ومن ذلك:
1- قياسُهم الجَنَّةَ والنَّارَ على سائِرِ الأمكنةِ التي يجِدونَها في دارِ الدُّنيا
قال ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ أهلَ الجَنَّةِ ونحوَهم لا نهايةَ لوُجودِهم، وأمَّا الحيِّزُ المقدَّرُ والمكانُ الموجودُ فإنَّه موجودٌ في وقتٍ واحدٍ، لا يُوجِدُ شيئًا بَعدَ شيءٍ، فلا بدَّ له من حَدٍّ وحقيقةٍ، ولا يمكِنُ وجودُ مكانٍ لا نهايةَ له ولا جِسمٍ لا نهايةَ له... ولهذا كان الجَهْمُ وأبو الهُذَيلِ -وهما إماما الجَهْميَّةِ- وغيرُهما لمَّا قاسوا النِّهايةَ في الذَّاتِ والمكانِ على النِّهايةِ في الوُجودِ والزَّمانِ عدُّوا حُكمَ هذا إلى حُكمِ هذا، وحُكمَ هذا إلى حُكمِ هذا، فقال بأنَّ المخلوقَ تَثبُتُ له النِّهايتانِ جميعًا... فقال الجَهْمُ بفَناءِ الجَنَّةِ والنَّارِ، وقال أبو الهُذَيلِ بفَناءِ الحركاتِ كُلِّها، وقالوا بأنَّ الخالِقَ تعالى لا تَثبُتُ له النِّهايتانِ جميعًا، فكما لا نهايةَ لابتداءِ وُجودِه وانتهائِه، فلا يكونُ لذاتِه نهايةٌ) [291] ((بيان تلبيس الجهمية)) (5/180). ويُنظر أيضًا: ((منهاج السنة النبوية)) (1/146-148) و(1/310)، ((الرد على من قال بفناء الجنة والنار)) (ص: 44)، كلاهما لابن تيمية. .
2- قياسُ حوادِثِ لا نهايةَ لها على عَدَمِ وُجودِ حوادِثَ لا أوَّلَ لها
فقد ادَّعى الجَهْمُ أنَّ الرَّبَّ يمتنِعُ عليه إيجادُ حوادِثَ لا أوَّلَ لها؛ مخافةَ تعدُّدِ الآلهةِ إذا قُلْنا بوجودِها، ثُمَّ قاس هذا على نهايةِ الحوادِثِ، فكما أنَّه يستحيلُ عِندَه وجودُ حوادِثَ لا أوَّلَ لها، فكذلك يمتنِعُ القَولُ بوُجودِ حوادِثَ لا آخِرَ لها؛ لأنَّ اللهَ وَحدَه هو الأوَّلُ والآخِرُ. وقد ظنَّ أنَّ هذا من تنزيهِ اللهِ تعالى، وهو في الواقعِ إساءةُ ظَنٍّ بقُدرةِ اللهِ تعالى، ولم يعلَمْ أنَّ ما أراد اللهُ البقاءَ فإنَّه يمتنعُ عليه الانتهاءُ، فإنَّ الجَنَّةَ أراد الله لها البقاءَ والنَّارُ كذلك، فيستحيلُ أن تَفنَيا، وإلَّا كان فناؤهما تكذيبًا لكِتابِ اللهِ تعالى وسُنَّةِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّ القرآنَ الكريمَ مملوءٌ بالأخبارِ عن بقائِهما إلى الأبَدِ [292] يُنظر: ((فرق معاصرة)) لعواجي (3/1154). .

انظر أيضا: