الموسوعة الفقهية

المطلب الثاني: من يجِبُ عليه تكفينُ المَيِّت


الفرع الأول: إذا كان للمَيِّتِ مالٌ
إذا كان للمَيِّت مالٌ فكَفَنُه أو ثَمَنُ كَفَنِه؛ مِن مالِه.
الأدلَّة:
أولًا: من السُّنَّة
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((أقبَلَ رجلٌ حرامًا مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فخَرَّ مِن بَعيرِه، فوُقِصَ وَقْصًا، فمات، فقال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: اغْسِلوه بماءٍ وَسِدْرٍ وألْبِسُوهُ ثَوْبَيْه )) [7743] أخرجه البخاري (1265)، ومسلم (1206) واللفظ له.
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أَمَرَ أن يُكَفَّنَ فى ثَوْبَيْه، وقَدَّمَه على الميراثِ وعلى الدَّيْنِ، ولم يسألْ عن وارِثِه، ولا عن دَيْنٍ عليه، ولو اختلَفَ الحالُ لسأَلَ [7744] ((زاد المعاد)) لابن القيم ( 2/240).
ثانيًا: من الإجماع
نقل الإجماعَ [7745] قال ابنُ المنذر: (واختلفوا في الكَفَنِ مِن أين يخرجُ، فقال أكثر أهل العلم: يخرُجُ من جميعِ المالِ... وفيه قولان شاذَّان: أحدهما قول خلاس بن عمرو: أنَّ الكفَنَ مِنَ الثُّلث، والآخر قول طاوس: أنَّ الكَفَن من جميعِ المال، فإن كان المالُ قليلًا فمِنَ الثُّلُث). ((الإشراف)) (2/335). على ذلك: النوويُّ [7746] قال النووي: (محل الكَفَنِ تَرِكَةُ المَيِّت؛ للحديثِ المذكور، والإجماعِ). ((المجموع)) (5/188). ، وابنُ القَطَّان [7747] قال ابن القطان: (وأجمعوا أنَّ ما يُوارَى به المَيِّتُ واجِبٌ مِن مالِه). ((الإقناع في مسائل الإجماع)) (1/185).
ثالثًا: لأنَّ حمزةَ ومُصْعبًا رَضِيَ اللَّهُ عنهما لم يوجَدْ لكُلِّ واحدٍ منهما إلَّا ثَوْبٌ، فكُفِّنَ فيه [7748] ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (2 /338).
رابعًا: لأنَّ لِباسِ المُفْلِس مُقَدَّمٌ على قضاءِ دَيْنِه؛ فكذلك كَفَنُ المَيِّتِ [7749] ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (2 /338).
الفرع الثاني: إذا لم يكن للمَيِّتِ مالٌ
إذا لم يكُنْ للميِّتِ مالٌ، وَجَبَ كَفَنُه وسائِرُ مُؤَنِ تجهيزِه على من تَلْزَمُه نفقَتُه؛ من والدٍ وولدٍ وسيِّدٍ [7750] وسيأتي الكلام عمَّا يتعلَّق بالزوج قريبًا. ، وهذا باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنفيَّة [7751] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي، مع ((حاشية الشِّلْبِيِّ)) (1/238)، ((مراقي الفلاح)) للشرنبلالي (ص: 215). ، والمالِكيَّة [7752] ((التاج والإكليل)) للمواق (2/218). ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/120). ، والشَّافعيَّة [7753] ((المجموع)) للنووي (5/190)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/338). ، والحَنابِلَة [7754] ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/104). ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/389،388).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّ ذلك يَلْزَمُه حالَ الحياةِ؛ فكذلك بعد الموتِ [7755] ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (2/338).
ثانيًا: لأنَّ الوَلَدَ تجِبُ نفقَتُه بالقرابةِ، ولا يَبْطُل ذلك بالموتِ [7756] ((المغني)) لابن قدامة (2/388).
ثالثًا: لأنَّ المملوكَ تجِبُ نفقَتُه بحَقِّ المِلْك لا بالانتفاعِ [7757] ((المغني)) لابن قدامة (2/388).
الفرع الثالث: إن لم يكن للمَيِّت مال وليس له من تلزَمُه نفَقَتُه
إن لم يكن للمَيِّت مال وليس له من تلزَمُه نفَقَتُه، وجَبَتْ مُؤنةُ تجهيزِه في بيتِ المالِ، باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنفيَّة [7758] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي، مع ((حاشية الشِّلْبِيِّ)) (1/238)، ((مراقي الفلاح)) للشرنبلالي (ص: 215). ، والمالِكيَّة [7759] ((التاج والإكليل)) للمواق (2/218). ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/120،121). ، والشَّافعيَّة [7760] ((المجموع)) للنووي (5/190)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/338). ، والحَنابِلَة [7761] ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/104). ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/389).
وذلك للآتي:
أولًا: لأنَّ بيتَ المالِ للمصالحِ، وهذا مِن أهَمِّها [7762] ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/354).
ثانيًا: قياسًا على نَفَقَتِه في حياتِه [7763] ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/104).
الفرع الرابع: إذا لم يكن في بيتِ المالِ مالٌ
يجب كَفَنُ المَيِّت وسائِرُ مُؤَنِ تجهيزِه على عامَّةِ المسلمين، إن لم يكن له مَن تلزَمُه نفقَتُه، ولم يوجَدْ مالٌ في بيتِ مالِ المسلمينَ [7764] وكذا من مات في غير بلاد المسلمين. ، وهذا باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنفيَّة [7765] ((حاشية ابن عابدين)) (2/206)، ((مراقي الفلاح)) للشرنبلالي (ص: 216). ، والمالِكيَّة [7766] ((التاج والإكليل)) للمواق (2/218). ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/121). ، والشَّافعيَّة [7767] ((المجموع)) للنووي (5/190)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/338). ، والحَنابِلَة [7768] ((الإقناع)) للحجاوي (1/221)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/104). ؛ وذلك قياسًا على كُسوَةِ الحيِّ [7769] ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/354).
الفرع الخامس: هل يجِبُ على الزَّوْجِ كفَنُ امرأتِه؟
اختلف أهلُ العِلْمِ في: هل يجبُ على الزَّوجِ كفنُ امرأتِه أو لا؛ على قولينِ:
القول الأول: يجبُ على الزَّوجِ كفنُ امرأتِه، وهو مذهَبُ الحَنفيَّة [7770] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي، مع ((حاشية الشِّلْبِيِّ)) (1/238)، ((مراقي الفلاح)) للشرنبلالي (ص: 215). ، والأصَحُّ عند الشَّافعيَّة [7771] ((المجموع)) للنووي (5/189)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/338). ، وقولٌ للمالكيَّة [7772] ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (1/414)، ((منح الجليل)) لعليش (1/490). ، واختارَه ابنُ عُثيمين [7773] ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/305).
الأدلَّة:
أولًا: من الكتابِ
عمومُ قولِه تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء: 34]
ثانيًا: لأنَّ نفقَةَ الزوجَةِ واجبةٌ على زَوْجِها حالَ حياتِها؛ فكذلك التكفينُ وتَجْهيزُها بعد مماتِها [7774] ((حاشية ابن عابدين)) (2/206).
ثالثًا: لأنَّ هذا مِن العِشْرةِ بالمعروفِ، ومِن المكافأةِ بالجميلِ [7775] ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/305).
رابعًا: لأنَّ علائقَ الزوجيَّة لم تنقطِعْ [7776] ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/305).
القول الثاني: يجِبُ كفنها مِن مالِها، وهو مذهَبُ المالِكيَّة [7777] ((التاج والإكليل)) للمواق (2/218). ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/120). ، والحَنابِلَة [7778]  ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/104). ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/388). ، ووجهٌ عند الشَّافعيَّة [7779] قال النووي: (إذا ماتت مُزَوَّجةٌ، فهل يلزم الزَّوجَ كفَنُها؟ فيه وجهان (أصحُّهما) عند جمهورِ الأصحابِ: يجِبُ على زوجها. وصحَّح الماوردي والشيخ أبو محمد الجويني في الفروق، والجرجاني في التحرير، وجوبَه في مالِها). ((المجموع)) (5/189). ، وهو قولُ محمَّدِ بنِ الحسَنِ مِنَ الحَنفيَّة [7780] قال الطحطاوي: (وعلى الرجُلِ تجهيزُ امرأته» أي تكفينُها ودَفْنُها.. وقال محمد: ليس عليه تكفينُها). ((حاشية الطحطاوي)) (ص: 574). ، وقولُ بعضِ السَّلَف [7781] قال النوويُّ: (الأصحُّ عندنا أنَّه على الزَّوجِ، وبه قال مالك وأبو حنيفة، وقال الشعبي ومحمد بن الحسن وأحمد: في مالها، ورُوِيَ عن مالك). ((المجموع)) (5/149). ، واختارَه ابنُ حَزْمٍ [7782] قال ابن حزم: (وكفَنُ المرأةِ وحَفْرُ قَبْرِها مِن رأسِ مالها، ولا يلزَمُ ذلك زوجَها؛ لأنَّ أموالَ المُسلمين محظورةٌ إلا بنصِّ قرآن أو سنَّةٍ، قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ دماءَكم وأموالَكم عليكم حرامٌ)). وإنما أوجب تعالى على الزَّوجِ النَّفَقة والكُسوة، والإسكانُ، ولا يُسَمَّى في اللغة التي خاطَبَنا اللهُ تعالى بها الكَفَنُ: كسوةً، ولا القبْرُ: إسكانًا). ((المحلى)) (3/345).
وذلك للآتي:
أولًا: لأنَّ النَّفَقةَ والكُسوةَ وَجَبتا في النِّكاحِ للتَّمكينِ مِنَ الاستمتاعِ؛ ولهذا تسقُطُ بالنُّشُوزِ والبينونَةِ، وقد انقطَعَ ذلك بالموتِ، فأشبَهَتِ الأجنبيَّةَ [7783] ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/104).
ثانيًا: أنَّ اللهَ تعالى أوجَبَ على الزَّوجِ لِزَوْجَتِه النَّفقَةَ، والكُسوة، والإسكانَ، ولا يُسَمَّى في اللُّغةِ التي خاطَبَنَا اللهُ تعالى بها الكَفَنُ: كُسوةً، ولا القبرُ: إسكانًا [7784] ((المحلى)) لابن حزم (3/345).

انظر أيضا: