تعقيب موقع الدرر السَّنيَّة على الدكتور حاتم العوني

7 ذو القعدة  1436هـ

 

صدَر قَبلَ أسبوعين تقريبًا للدكتور حاتمٍ العونيِّ كتابٌ بعنوان (تَكفيرُ أهل الشَّهادتَينِ)، وبعدَ الاطِّلاعِ عليه رأينا فيه خللًا كبيرًا في مَسائلَ خطيرةٍ، فنَقَدْناه نقدًا مُختصرًا، وذلك في صفحة (كتاب الشَّهر: عَرْض ونَقْد)؛ تحذيرًا ونُصحًا،  وما هي إلَّا ساعاتٌ حتَّى ردَّ عليه الدكتورُ في صفحته على (الفيسبوك) ردًّا غاضبًا بعنوان (عَرْض ونقْد للَّذي تمخَّض عنه موقِعُ الدُّرر السَّنية حول كتابي (تكفير أهل الشهادتين)، ضَمَّنه عباراتٍ وكلماتٍ لا تَليقُ بأستاذٍ جامعيٍّ، حيثُ اتَّهم فيه الناقِدَ (موقعَ الدُّرر السَّنية) بالجَهلِ والتعالُمِ، والكذبِ والافتراءِ، والجَهالةِ والتعصُّبِ للمذهبِ، والسَّخَفِ وقِلَّة الدِّيانة، وعَمَايةِ الهَوَى، والإفسادِ بالجَهْل، وشِدَّة الانحرافِ؛ كلُّ هذه الاتِّهاماتِ في ردٍّ لا يتجاوز ثلاثَ أو أربعَ صَفحاتٍ!

ثم كتَب مرَّةً أخرى في أقلَّ مِن صفحةٍ مُتِّهمًا موقِعَ الدُّرر السَّنية بأنَّه يُقرِّرُ تقريرًا خطيرًا جاهلًا هادمًا يُشكِّك في القرآنِ أشد مِن تَشكيكِ المستشرقين! فيا سُبحانَ اللهِ؛ رمَتْنِي بدائِها وانسلَّتْ!

وقدْ أَرَدْنا في هذِه العُجالةِ أنْ نُبيِّن لِمَن قرَأ كلامَه حَقيقةَ الأمرِ؛ حتَّى لا يَغترَّ به، وسنكتفي بثلاثةِ مواضع من ردِّه، وقد نقلْنا كلامَه بحروفِه وجَعلْناهُ بين معكوفتين [ ] باللون الأزرق.
 

الموضِع الأوَّل: قال الدكتور في ردِّه على النقد [تعقَّب المعترض قولي هذا بقوله: ((وماذا عن الأحاديثِ الواردةِ في فَضْلِه والتي يُكذِّبها هذا المخالِفُ؟! فالخَلَل الكبيرُ الذي وقَعَ فيه المؤلِّفُ أنه يُريد محاكمةَ الرافضةِ بمذهَبِهم الباطِل وتأويلاتِهم الفاسدةِ، وهذا لو سُلِّمَ له فلنْ تُكَفَّرَ طائفةٌ مهما غَلَت؛ فالجهميَّة والنُّصيريَّة والإسماعيليَّة وغيرهم؛ لهم أدلَّتهم الملفَّقة، وتأويلاتهم الفاسدة؛ فهل نُقيمُ الحجَّةَ عليهم بأدلَّتنا الصَّحيحة الثابتة أم بأدلَّتهم المُلَّفَقة؟ !)) .

هذا نموذج للسَّخَف في التعقب: فقد قررتُ في كتابي أنَّ هذا الصِّنف من المكفِّرات (وهو الصنف الثاني) لا يصحُّ التكفيرُ بها إلَّا بعدَ إقامة الحُجَّةِ الصحيحة وإزالة الشُّبهة؛ فمن أين جاء المعترضُ بهذا القول : ((فالخَلَل الكبيرُ الذي وقَع فيه المؤلِّفُ أنه يُريد محاكمةَ الرافضة بمذهَبِهم الباطِل وتأويلاتِهم الفاسدة)) ؟!! هذا كذبٌ صريحٌ عليَّ، ولا يقَعُ فيه إلا قليلُ الدِّيانة، أو معمي الهوى، أو جاهلٌ مُفسدٌ بجهله ].

فهو هنا يقول: [مِن أين جاء المعترض بهذا القول: (فالخَلَل الكبيرُ الذي وقع فيه المؤلِّفُ أنه يُريد محاكمةَ الرافضة بمذهَبِهم الباطِل وتأويلاتِهم الفاسدة)] ونحن نقول له: أَتَيْنا به مِن مُوضعَينِ مِن كتابِك  صفحة 103، وها نحن نَنقُلهما هنا بحُروفِهما؛ ليعلمَ القارئُ هل كذَبْنا عليه كما يقولُ أم لا؟:

الأوَّل؛ قال الدكتور: [فلا نُكفِّر هذا المخالِفَ بتكذيبِ قوله تعالى :  {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، إذا كان المخالِفُ يتأوَّل الآيةَ تأويلًا باطلًا يعتقدُ هو صِحَّتَه في أنَّ الآيةَ نزلَتْ في غيرِ أبي بكرٍ رضي الله عنه، أو نازَعَ في معناها نزاعًا باطلًا يعتقدُ هو سلامَتَه، فزَعَم عَدَم إثباتِها الشَّرَفَ والفضلَ له رضِي الله عنه .].
 

والثاني؛ قوله: [أنْ يكونَ تكفيرُهم (رضوانُ الله عليهم) قد ترتَّبَ عليه عندَ مُكَفِّرهم اعتقادُ ضياعِ الدِّين]، وسيأتي الكلامُ عنها في الموضِع الثاني.
 

الموضع الثاني: قال الدكتور في ردِّه على النقد: [ثم نقَل المعترض قولي في ذِكري لأَحد مَناطات تكفيرِ مَن كَفَّر الصحابةَ: ((أنْ يكون تكفيرُهم (رضوان الله عليهم) قد ترتَّبَ عليه عند مُكَفِّرهم اعتقادُ ضياع الدِّين؛ لأنَّه إذا كَفَّرهم جميعًا، واعتقد أنَّهم قد فرَّطوا أو تعمَّدوا (بسبب كفرهم) عَدَمَ نَقْلِ الدين، وتعمَّدوا تحريفَه التحريفَ المُضَيِّع لِمَا به يصِحُّ الإسلام = فهذا قد حَكَمَ على نفسه بعَدَمِ الإسلام؛ لأنَّه هو نفسه يعتقد عدمَ وجود دينِ الإسلام))، ثم تَعقَّب المعترض بقوله : ((ما هذا الشرطُ العجيب؟! وكأنَّه يَعمِدُ إلى تبريرِ عدم تكفيرِ مَن يُكَفِّر عامَّةَ الصحابة، ويشترط مع تكفيرِهم جميعًا أن يعتقدَ هذا الذي كَفَّرَهم جميعًا أنَّه يترتَّب على ذلك عند مُكفِّرهم ضياعُ الدِّين! والمؤلِّف يعلَمُ أنَّه ليس هناك طائفةٌ في الدُّنيا تُكفِّر جميعَ الصَّحابة؛ حتى الخوارج إنَّما كَفَّرَ بعضُهم الصَّحابةَ في زمنهم، ولم يُكَفِّروا مَن مات قبل ظهورهم، والرَّافضة كذلك لا يُكفِّرون جميع الصحابة، ثم هل الدِّين لا يَضيع إلَّا إذا كُفِّرَ جميعُ الصحابة؟! وما الفرق بين من كَفَّرَ جميعَ الصحابة ومن كفَّر عامَّتَهم، ولم يَسلَمْ من تكفيره إلا قلَّةٌ يُعَدُّون على الأصابع؟ أليس في ذلك ضياعٌ للدين؟! هل بعد تكفير مَن رَوَوْا لنا أحاديثَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، بل مَن حَفِظُوا لنا القرآنَ العظيم؛ هل بعد تكفيرهم تبقَى للدِّين قائمة؟! أليس في تَكفير المُكْثِرين مِن رُواة الحديث: كعائِشَةَ وأبي هريرة وابن عمر وغيرهم رضِيَ اللهُ عنهم  ((....

وكأنَّ المعترض يظنُّ تَعجُّبَه كاف [كافيًا] للردِّ وبيان الخطأ! فأين الردُّ في كلامِه السابق؛ إلَّا هذا التعجُّب !!]
 

وللأسف الدكتورُ يُسيءُ إلى نفْسه وينقُلُ كلامَ الناقدِ ولا يُكمله، ويَضَعُ مكانَه نِقاطًا ثم يقول [فأين الردُّ في كلامِه السابق؛ إلَّا هذا التعجُّب] فيظنُّ القارئ ويُصدِّق أنَّ الناقد اكتَفَى بالتعجُّب فقط، وإليكم تكملةَ الكلامِ الذي لم يَنقُلْه الدكتور: (أليس في تكفير المُكْثِرين مِن رُواة الحديثِ: كعائِشَةَ وأبي هريرة وابنِ عُمرَ وغيرِهم رضي الله عنهم؛ (توقَّف الدكتور هنا ووضَع نِقاطًا) ضَياعٌ للدِّين، فضلًا عن تكفيرِ أئمَّة الصَّحابة؛ كأبي بكر وعمر وعثمان رضِي الله عنهم جميعًا؟!، لكن هناك شرطٌ عجيبٌ آخَرُ عند المؤلِّف لا نَعرِفُ أحدًا سَبَقه إليه = وهو اشتراطُه أنْ يكون تكفيرُ عامَّةِ الصحابةِ يترتَّبُ عليه عندَ مُكفِّرهم ضياعُ الدِّين وليس عندنا- نحنَ أهل السُّنَّة والجماعة!! ولو كان عِندَهم فيه ضياعٌ للدِّين ما كَفَّروهم، بل هم يَرَوْن أنَّ ضياعَ الدِّين إنَّما يكونُ باعتقادِ إسلامِهم؛ لذلك كفَّروهم حتى يَسلَمَ الدِّينُ من الضَّياعِ بزعمهم).

فلماذا حذَفَ الدكتورُ هذا الكلام؟ ولنفترض أنَّ الناقد اكتفَى بالتعجُّب فقولُ الدكتور [أن يكون تكفيرُهم (رضوان الله عليهم) قد ترتَّبَ عليه عند مُكَفِّرهم اعتقادُ ضياع الدِّين] خطأٌ بَيِّنٌ يُغني إيرادُه عن الردِّ عليه، ولو بدون تعجُّب.
 

الموضع الثالث: قال الدكتور في ردِّه على الناقِد (موقعِ الدرر السنية):   [يقول المعترض : ((مناطُ تَكفيرِ مَن اعتقَدَ تحريفَ القرآن الكريم عندَ المؤلِّف ليس هو القولَ بتَحريفِ القرآن، واعتقادَ النقص والزِّيادة فيه بعد إقامة الحجَّة عليه، بل مناطُه عنده اعتقادُه أنَّ تحريفَه فيه إضاعةٌ للدِّين؛ لأنَّه بهذا سيكون مكذِّبًا أو معاندًا، أو مُعرِضًا أو شاكًّا في دَلالة الشهادتين، وهذا ما صَرَّح به في كتابِه، والذي أَوْقَعَه في هذا الخَللِ هو عَدَمُ التفريقِ بين مَن أنْكَرَ كلماتٍ في كتاب الله قَبْل جَمْع المصحف وإثباتِه بالتواتُر لجَهْله بها؛ كما حصَل لبعضِ الصَّحابة، وبَيْنَ مَن يعتقد نُقصانَه أو الزيادةَ فيه بعد جَمْعِه في عهد عثمانَ، وإجماعُ الصَّحابةِ رضي الله عنهم جميعًا والأمَّة كلِّها مِن بَعْدِهم على أنَّ هذا القرآنَ هو كلُّ ما نزَلَ على النبيِّ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وإجماعُهم على كُفْرِ مَن قال بتحريفِه أو نَقْصِ حَرْفٍ منه أو زِيادة حَرْف عليه ...)) .

هذا هو الجهلُ والتعالُم الذي يُوقِعُ صاحبَه في شرِّ أعماله! فعِند المعترِضِ أنَّ القرآنَ لم يتواتَرِ المسلمونَ عليه إلَّا بعدَ جمْعِ عُثمان (رضِي اللهُ عنه)؛ فلا كان القرآنُ متواترًا ولا قَطعيَّ الثُّبوتِ ولا مَعلومًا من الدِّينِ بالضرورةِ في حياةِ النبيِّ (صلَّى الله عليه وسلَّم)، ولا في حياةِ أبي بكرٍ، ولا في حياةِ عُمر، ولا في صَدْرِ خِلافةِ عُثمانَ... حتى تم الجمْع، ثم بعدَ مُدَّةٍ مِن الجَمْعِ صارَ متواترًا!! أيُّ طعنٍ في القُرآنِ أشدُّ مِن هذا الطَّعن؟! وأيُّ نقْضٍ لتواتُرِه ولقطعيَّةِ ثُبوته أعظمُ خطرًا مِن هذا التقريرِ الجاهلِ؟! ألَا يعلم المعترِضُ أنَّ شرْطَ التواتُر استمرارُ القطعِ والتواتُرِ في جميعِ طَبقاتِ النقل: مِن مبتدأ النقل إلَّا مُنتهاه؟! ألم يسأل نفْسَه: إذا كان النبيُّ (صلَّى الله عليه وسلَّم) قد تُوفِّي، وأبو بكر وعمر، والقرآنُ ما زالَ غيرَ مقطوعٍ به؛ فما المقطوعُ به مِن الدِّين إذنْ؟ !!))
 

وقال أيضًا: [موقع (الدُّرر السَّنية) الذي يَتبنَّى الفكرَ السلفيَّ المعاصِر يُقرِّر ما مُؤدَّاه أنَّ القرآنَ الكريمَ لم يَكُن معلومًا من الدِّين بالضرورةِ، حتى لقُرَّاء الصحابةِ (كابن مسعود) ولفُقهائهم (كأبي الدَّرداء): على امتدادِ فترةِ حياةِ النبيِّ (صلَّى الله عليه وسلَّم)، وفترة خِلافة أبي بكرٍ وعُمر (رضي الله عنهما)، وحتى الفترة الأولى مِن خِلافة عثمان (رضي الله عنهم)، وأنَّه ما أصبح معلومًا من الدِّين بالضرورةِ إلَّا بَعْدَ جمْع عُثمان رضِي الله عنه، وبعدَ انقراضِ الاختلافِ حولَ ذلك الجَمْع !!]
 

ويقول: [سَلُوا القائمين عليه: هل يَعلمون أنَّهم يُشكِّكون في القرآنِ بمِثلِ هذا التقريرِ كَتشكيكِ المستشرقين وأشدَّ؛ لأنَّهم بذلك يَجعلون تواتُرَ المسلمين لا على القرآنِ الذي نزَلَ على محمَّد (صلَّى الله عليه وسلَّم)، وإنَّما تَواتَروا على جمْع عُثمانَ (رضي الله عنه)]

ونحن نأسُف لهذا الإسفافِ في الكلامِ والتُّهم الجُزاف، ونتحدَّى الدكتور أنْ يُثبِتَ صِحَّة اتِّهامِه وقوله: [موقع (الدُّرر السَّنية) الذي يَتبنَّى الفكرَ السلفيَّ المعاصِر يُقرِّر ما مُؤدَّاه أنَّ القرآنَ الكريمَ لم يَكُن معلومًا من الدِّين بالضرورةِ]، ولماذا لم يَنقُلْ كلامَنا بحُروفِه بدلًا مِن أنْ يقول: [يُقرِّر ما مُؤدَّاه]، بل إنَّنا لم نتطرَّقْ في الردِّ مِن أوَّله إلى آخِرِه لمسألةِ أنَّ القرآن لم يكُن معلومًا مِن الدِّينِ بالضرورةِ عندَ الصحابة أصلًا!
 

ولْيَعلمِ القارئُ أنَّ القرآنَ الكريمَ نزَلَ على نبيِّنا محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم مُفرَّقًا، وكانتِ الآياتُ تَنزِلُ ويَتْلوها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على مَن عِندَه مِن الصَّحابةِ، فيَحفظُها مَن يَحفَظُها مِنهم، ومات صلَّى الله عليه وسلَّم وليس كلُّهم كان يَحفَظُ القرآنَ كلَّه؛ فمِنهم مَن هو أقرأُ مِن غيرِه، والقرآنُ كلُّه- بلا شكٍّ- كان مُتوتِرًا في زمَن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم والصَّحابةِ عندَ جَميعِهم، وهذا مَعلومٌ مِن الدِّينِ بالضرورةِ، لكن ليس بالضروةِ أنْ تكونَ كلُّ آيةٍ في القرآنِ متواترةً عِندَ كلِّ صحابيِّ؛ لذلك لم يقُلْ أحدٌ مِن المسلمين بتكفيرِ مَن أنكرَ حَرفًا فيه منهم أو زاد أو نقَص، وإنْ كانوا قدْ أجمعوا على تكفيرِ مَن أنكر حرفًا منهم بعدَ جمْع عُثمانَ رضِي اللهُ عنه القرآنَ في مصحفٍ واحدٍ، وأمَرَ بحَرْق بقيَّةِ المصاحِفِ، فصار هذا إجماعًا للصحابةِ جميعهم، أَطبقَتْ عليه الأمَّةُ ؛ ولم يَختلفْ المسلمون في شيءٍ منه، يَعرِفُه الجاهل كما يَعرِفُه العالم، وأَوْرَدْنا هناك قول القاضي عِياض في الشفا (1102-1103): (وقد أجمعَ المسلمون أنَّ القرآنَ المتلوَّ في جميع أقطار الأرض، المكتوب في المُصحَف بأيدي المُسلمين؛ مِمَّا جَمَعَه الدَّفتانِ مِن أول "الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" إلى آخِر "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ": أنهَّ كلام الله، ووحْيُه المنَزَّل على نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنَّ جميعَ ما فيه حَقٌّ، وأنَّ مَن نَقَصَ منه حرفًا قاصدًا لذلك، أو بدَلَّه بحَرفٍ آخَرَ مكانه، أو زادَ فيه حرفًا مِمَّا لم يشملْ عليه المصحَفُ الذي وقَع الإجماعُ عليه، وأُجْمِع على أنَّه ليس مِن القرآن عامدًا لكلِّ هذا؛ أنَّه كافِرٌ)ا.هـ .
 

ونُضيف هنا كلامَ الإمام أبي عُبَيدٍ القاسمِ بنِ سَلَّام في كتابه ((فضائل القرآن)) (325) وهو يتحدث عن المصحفِ الإمام: ((يُحكَمُ بالكُفرِ على الجاحدِ لهذا الذي بَينَ اللَّوحينِ خاصَّةً، وهو ما ثبَت في الإمامِ الذي نَسخَه عثمانُ بإجماعٍ مِن المهاجرين والأنصار، وإسقاطٍ لِمَا سواه، ثم أَطبقَتْ عليه الأمَّةُ؛ فلم يُختلفْ في شيءٍ منه، يَعرِفُه جاهلُهم كما يَعرِفُه عالِمُهم، وتوارَثَه القرونُ بعضُها عن بعضٍ، وتَعلَّمه الوِلْدانُ في المكتب، وكانت هذه إحْدى مناقبِ عُثمانَ العِظام، وقد كان بعضُ أهل الزيغِ طَعَن فيه ثمَّ تَبيَّن للناسِ ضلالُهم في ذلك)).

والكلام الذي يعنيه الدكتور وبنى عليه تهمًا جزافًا وجعل موقع الدرر يشكك في القرآن الكريم أشد من تشكيك المستشرقين هو قولنا هناك أنَّ الدكتور لم يفرق (بين مَن أنْكَرَ كلماتٍ في كتاب الله قَبْل جَمْع المصحف وإثباتِه بالتواتُر لجَهْله بها؛ كما حصَل لبعضِ الصَّحابة) فظنَّ أو هكذا فهِم أنَّنا نقول إنَّ القرآن لم ينقل بالتواتر إلا في عهد عثمان رضي الله وعنه وكلامُنا عمن جهل من الصحابة تواتر آية أو سورة، ومَن زَعَم أنَّ الصَّحابيَّ الذي أنكر آيةً مِن القرآن أنَّها عنده متواترةٌ فقد اتَّهمه في دينه، وما أحسنَ ما قاله الحافظُ ابن حجر في ردِّه على الرازي مؤكِدًا هذا الأمر، قال رحمه الله في  ((فتح الباري)) (8/743): (وكذلك ما نُقِل عن ابن مسعود في المعوِّذتين، يعني أنَّه لم يَثبُتْ عندَه القطعُ بذلك، ثم حصَلَ الاتفاقُ بعدَ ذلك، وقد استشكلَ هذا الموضعَ الفخرُ الرازيُّ فقال: إنْ قُلنا: إنَّ كَونَهما من القرآنِ كان متواترًا في عَصرِ ابن مسعود، لزِمَ تكفيرُ مَن أَنكرهما، وإنْ قُلنا: إنَّ كونَهما مِن القرآن كان لم يتواترْ في عصرِ ابن مسعودٍ لَزِمَ أنَّ بعضَ القرآن لم يتواترْ، قال: وهذه عُقدةٌ صعبةٌ. وأُجيب باحتمالِ أنَّه كان مُتواتِرًا في عَصرِ ابن مسعود، لكن لم يتواتَرْ عند ابن مسعودٍ، فانَحلَّتِ العقدةُ بعونِ اللهِ تعالى) أ.هـ، عساها تنحل عند الدكتور بإذن الله.

وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّة مُقرِّرًا هذا المعنى أيضًا في ((مجموع الفتاوى)) (12/ 493): (وبَعضُهم كان حَذَف المُعوِّذتين، وآخرُ يَكتُب سُورةَ القُنوت. وهذا خطأٌ معلومٌ بالإجماعِ والنَّقلِ المتواتِر، ومع هذا فلمَّا لم يَكُن قدْ تَواتَرَ النقلُ عِندَهم بذلك لم يَكفُروا، وإنْ كان يَكْفُرُ بذلك مَن قامَتْ عليه الحُجَّةُ بالنَّقلِ المتواتِرِ)، وهذا النقل نقلناه هناك لكن الدكتور لم يلق له بالًا وتجاهله!.
 

ونُنبِّه هنا على أنَّه مَهْما قِيل عن أنَّ بَعضَ الصَّحابةِ أخطأ وأَنْكَرَ حرفًا أو كلمةً أو آيةً أو سورةً من القرآن -لم تَثبُتْ عِندَه بالتواتُر- فإنَّ هناك فَرْقًا شاسعًا بين هذا، وبَيْن زَعْم بعضِ الرافضةِ التحريفَ في القرآنِ؛ فلا يقيس الخطأ على القولِ بالتحريف إلا جاهل، فالقائِلون بالتحريفِ منهم يقولون: إنَّ التحريفَ في القرآنِ بلَغَ حدَّ التواتُرِ، وأنَّ هذا الذي بَينَ أَيْدي الناس ليس هو القُرآنَ الذي نَزَل على مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم بتَمامِه، وبَعضُهم يقول: إنَّه سقَطَ منه أكثرُ مِن الثُّلُثِ! وآخَرون يَتحدَّثون عن مُصحَفِ فاطمة! وبعضُهم يقول: إنَّ القرآنَ الذي جاءَ به جِبريلُ عليه السَّلامُ سَبعَةَ عَشرَ ألْفَ آيةٍ! إلى غير ذلك مِن الكُفرِ الصَّريح.
 

فمِن التَّدليسِ على الأُمَّةِ أنْ نأتيَ عندَ الحَديثِ عن القولِ بتحريفِ القرآنِ الكريمِ عند هؤلاءِ، ونَزعُمَ أنَّه ليس كُفرًا ما لم يُعتقَدْ ضَياعُ الدِّين بهذا التحريفِ، ثم نَقيسَ ذلك على فِعلِ بعضِ الصَّحابةِ! ولا يجوزُ لمسلمٍ أنْ يتَّهم صحابيًّا واحدًا بالقولِ بتحريفِ القرآن الكريمِ . {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]
 

وأخيرًا نقول:

ليس مِن مَنهجِنا التمادِي في الرُّدودِ والانجرارُ إليها، ونَكرهُ ذلك ولا نُحبُّه، ولكن الدكتور-عفا اللهُ عنه- أَلْجأَنا إلى ذلِك؛ لذلك فلو رَدَّ الدكتورُ على هذا الكلامِ-وهذا الذي نظنه- فلن نرُدَّ عليه ثالثةً، ولا يَظنَّنَّ ظانٌّ أنَّ ذلك عَجزٌ مِنَّا، لكن هذه طريقتُنا، وهذا منهجُنا، والواجباتُ أكثرُ مِن الأوقات.

ونَسألُ اللهَ تعالى أنْ يَهدِيَنا وإيَّاه للحقِّ.