موسوعة الأخلاق والسلوك

سابعًا: مظاهِرُ وصُوَرُ التَّغافُلِ


1-التَّغافُلُ عن زلَّاتِ ذوي الرَّحِمِ، والصَّبرُ على أذاهم، وعَدَمُ قَطْعِهم؛ فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه أنَّ رجلًا قال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ لي قرابةً أصِلُهم ويقطعوني، وأحسِنُ إليهم ويُسِيئون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويَجهَلونَ عَلَيَّ، فقال: ((لَئِنْ كُنتَ كما قُلتَ فكأنَّما تُسِفُّهمُ المَلَّ، ولا يزالُ معك من اللهِ ظَهيرٌ عليهم ما دُمتَ على ذلك)) [1922] أخرجه مسلم (2558). .
وفي هذا إشارةٌ إلى التَّغافُلِ عن زلَّاتِ الأرحامِ [1923] ((فتح الباري)) لابن حجر (10/418) .
2-تغافُلُ الزَّوجِ عمَّا يَكرَهُ من زوجتِه؛ فقد قالت المرأةُ تمدَحُ زَوجَها: (ولا يُولِجُ الكَفَّ ليعلَمَ البَثَّ) [1924] أخرجه البخاري (5189)، ومسلم (2448) مطولا من حديث عائشة رضي الله عنها .
قال أبو عُبَيدٍ: (أحسَبُه كان بجَسَدِها عيبٌ أو داءٌ تكتَئِبُ به؛ لأنَّ البَثَّ هو الحُزنُ، فكان لا يدخِلُ يَدَه فى ثوبِها؛ ليَمَسَّ ذلك العَيبَ، فيَشُقَّ عليها، تَصِفُه بالكَرَمِ) [1925] ((غريب الحديث)) لأبي عبيد القاسم بن سلَّام (2/ 171). .
قال أبو العبَّاسِ القُرطبيُّ: (على قَولِ أبي عُبَيدٍ، فإنَّها تكونُ قد مدحَتْه بالإعراضِ والتَّغافُلِ عن الاطِّلاعِ على ما يَحزُنُها من عيبِ جَسَدِها) [1926] ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (6/338) .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَفرَكْ مُؤمِنٌ مُؤمِنةً، إن كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخَرَ)) [1927] أخرجه مسلم (1469). .
قال السَّعديُّ: (في هذا الحديثِ فائدتانِ عظيمتانِ؛ إحداهما: الإرشادُ إلى معاملةِ الزَّوجةِ والقريبِ والصَّاحِبِ والمعامِلِ، وكُلِّ من بينَك وبينَه عُلقةٌ واتصالٌ، وأنَّه ينبغي أن تُوطِّنَ نفسَك على أنَّه لا بدَّ أن يكونَ فيه عيبٌ أو نقصٌ أو أمرٌ تكرهُه؛ فإذا وجَدْتَ ذلك فقارِنْ بَينَ هذا وبينَ ما يجِبُ عليك أو ينبغي لك من قوَّةِ الاتصالِ والإبقاءِ على المحبَّةِ، بتذكُّرِ ما فيه من المحاسِنِ والمقاصِدِ الخاصَّةِ والعامَّةِ، وبهذا الإغضاءِ عن المساوئِ وملاحظةِ المحاسِنِ تدومُ الصُّحبةُ والاتِّصالُ، وتتِمُّ الرَّاحةُ وتحصُلُ لك.
الفائدةُ الثَّانيةُ: وهي زوالُ الهَمِّ والقَلَقِ، وبقاءُ الصَّفاءِ، والمداومةُ على القيامِ بالحُقوقِ الواجبةِ والمستحَبَّةِ، وحصولُ الرَّاحةِ بَينَ الطَّرَفينِ، ومَن لم يسترشِدْ بهذا الذي ذكرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بل عكَس القضيَّةَ، فلَحَظ المساوِئَ، وعَمِيَ عن المحاسِنِ؛ فلا بدَّ أن يقلَقَ، ولا بدَّ أن يتكدَّرَ ما بينه وبينَ مَن يتَّصِلُ به من المحبَّةِ، ويتقطَّعَ كثيرٌ من الحُقوقِ التي على كُلٍّ منهما المحافظةُ عليها) [1928] ((الوسائل المفيدة للحياة السعيدة)) (ص: 28). .
3- تغافُلُ الزَّوجِ عمَّا يقَعُ من زوجتِه بسَبَبِ الغَيرةِ.
وقد ذكر العُلَماءُ أنَّ الغَيرى لا تُؤاخَذُ بما يصدُرُ عنها؛ لأنَّها في تلك الحالةِ يكونُ عَقلُها محجوبًا بشِدَّةِ الغَضَبِ الذي أثارته الغَيرةُ [1929] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (9/325). .
4- تغافُلُ الزَّوجِ أحيانًا وعَدَمُ تعهُّدِه الدَّائِمِ لِما يجري في البيتِ.
فقد قالت المرأةُ تمدَحُ زَوجَها: (زوجي إذا دَخَل فَهِد، وإذا خَرَج أسِدَ، ولا يسألُ عمَّا عَهِد) [1930] أخرجه البخاري (5189)، ومسلم (2448) مطولا من حديث عائشة رضي الله عنها. .
قولُها: (زوجي إذا دَخَل فَهِد) تصِفُه بكثرةِ النَّومِ والغَفلةِ في منزلِه على وجهِ المدحِ له، وذلك أنَّ الفهدَ كثيرُ النَّومِ، يقالُ: أنوَمُ من فَهدٍ، والذي أرادت: أنَّه ليس يتفقَّدُ ما ذهب من مالِه، ولا يلتَفِتُ إلى معايبِ البيتِ وما فيه، كأنَّه ساهٍ عن ذلك، وممَّا يُبَيِّنُه قولُها: (ولا يسألُ عمَّا عَهِد) تعني: عمَّا كان عندي قَبلَ ذلك [1931] ((شرح صحيح البخارى)) لابن بطال (7/ 301). .
5- تغافُلُ الوالِدَينِ والمربِّينَ أحيانًا عن بعضِ أخطاءِ الأولادِ؛ لرياضتِهم وتأديبِهم. قال أبو حامِدٍ الغزاليُّ: (ثمَّ مهما ظهر من الصَّبيِّ خُلُقٌ جميلٌ وفِعلٌ محمودٌ، فينبغي أن يُكرَمَ عليه ويُجازى عليه بما يَفرَحُ به، ويُمدَحَ بَينَ أظهُرِ النَّاسِ، فإن خالف ذلك في بعضِ الأحوالِ مرَّةً واحدةً فينبغي أن يَتغافَلَ عنه ولا يَهتِكَ سِترَه، ولا يُكاشِفَه ولا يُظهِرَ له أنَّه يتصوَّرُ أن يتجاسَرَ أحَدٌ على مِثلِه، ولا سيَّما إذا ستره الصَّبيُّ واجتهد في إخفائِه؛ فإنَّ إظهارَ ذلك عليه ربَّما يفيدُه جَسارةً حتَّى لا يباليَ بالمكاشَفةِ) [1932] ((إحياء علوم الدين)) (3/73). .
6- التَّغافُلُ بتقليلِ اللَّومِ والعِتابِ.
عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (خدَمتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَشْرَ سِنينَ، واللهِ ما قال لي: أفًّا قطُّ، ولا قال لي لشَيءٍ: لمَ فعلْتَ كذا؟ وهلَّا فعَلْتَ كذا؟) [1933] أخرجه البخاري (6038)، ومسلم (2309) واللفظ له .
5- التَّغافُلُ عند مخالطةِ النَّاسِ عمَّا يقَعُ من بعضِهم من سوءِ الألفاظِ.
قال أبو حامدٍ الغزاليُّ: (ولا تجالِسِ العامَّةَ؛ فإن فعَلْتَ فأدَبُه تَركُ الخوضِ في حديثِهم، وقِلَّةُ الإصغاءِ إلى أراجيفِهم، والتَّغافُلُ عمَّا يجري من سوءِ ألفاظِهم، وقِلَّةُ اللِّقاءِ لهم مع الحاجةِ إليهم) [1934] ((إحياء علوم الدين)) (2/192). .
7- التَّغافُلُ عن الحُسَّادِ والمُبغِضينَ وكلامِهم.
قال عَبدُ اللهِ بنُ شَدَّادِ بنِ الهادي يوصي ابنَه: (أيْ بُنَيَّ، وإن سَمِعتَ كَلِمةً من حاسدٍ فكُنْ كأنَّك لستَ بالشَّاهِدِ؛ فإنَّك إن أمضَيتَها حيالَها رجع العَيبُ على من قالها، وكان يقالُ: الأريبُ العاقِلُ هو الفَطِنُ المتغافِلُ.
وكُنْ كما قال حاتِمٌ الطَّائيُّ:
وما مِن شِيمَتي شَتمُ ابنِ عَمِّي
وما أنا مخلِفٌ مَن يرتجيني
وكَلِمةِ حاسدٍ في غيرِ جُرمٍ
سمِعتُ فقُلتُ: مُرِّي فانفُذيني
فعابُوها علَيَّ ولم تَسُؤْني
ولم يَعرَقْ لها يومًا جَبيني
وذو اللَّونَينِ يلقاني طليقًا
وليس إذا تغيَّبَ يأتليني
سمِعتُ بعَيبِه فصَفَحتُ عنه
محافَظةً على حَسَبي وديني) [1935] ((الأمالي)) لأبي علي القالي (2/ 203). .
8- التَّغافُلُ عند ظُهورِ مَساوئِ النَّاسِ وما يبدو في غَفَلاتِهم؛ من كَشفِ عَورةٍ، أو خروجِ رِيحٍ.

انظر أيضا: