موسوعة الأخلاق والسلوك

سابعًا: دَرَجاتُ التَّعاوُنِ


التَّعاوُنُ على سَبعِ دَرَجاتٍ:
1- التَّعاوُنُ على العَصَبيَّةِ، وهي أوَّلُ دَرَجةٍ يَضَعُ بها العبدُ قَدَمَه على مقامِ التَّعاوُنِ، وتقَعُ من غيرِ اكتسابٍ أو تزكيةٍ للنَّفسِ، كما أنَّ الحيوانَ يدافِعُ عن القطيعِ بالغريزةِ، ويكونُ الباعِثُ على هذه الدَّرَجةِ هو الحَمِيَّةَ، وكان هذا من شأنِ العَرَبِ في الجاهليَّةِ؛ فقامت بينهم لذلك حروبٌ استمَرَّت سنينَ، ويَصِفُ ذلك الشَّاعِرُ بقولِه:
إذا استُنجِدوا لم يَسألوا مَن دعاهم
لأيَّةِ حَربٍ أم لأيِّ مَكانِ [1785] ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (6/ 59). .
وهذا تظاهُرٌ مذمومٌ؛ فمَثَلُ الذي يُعينُ قومًا على الظُّلمِ مَثَلُ البعيرِ الذي يتردَّى في الرَّكيِّ يَنزِعُ بذَنَبِه، أي: مَثَلُ البعيرِ الذي يتردَّى في البئرِ، فيحاوِلُ نجاةَ نفسِه بهلاكِ بَعضِه [1786] ((أمثال الحديث)) للرامهرمزي (ص103) رقم (64). .
2- التَّعاوُنُ لمصلحةٍ دُنيويَّةٍ، سواءٌ كانت مُباحةً أو غيرَ مُباحةٍ، والنَّيَّةُ الصَّالحةُ تحوِّلُ المباحَ إلى قُربةٍ؛ قال معاذٌ رَضِيَ اللهُ عنه: (أحتَسِبُ نومتي كما أحتَسِبُ قَومتي) [1787] أخرجه البخاري (4342) واللفظ له، ومسلم (1733). .
3- التَّعاوُنُ بسَبَبِ الأُخُوَّةِ الإيمانيَّةِ: يكونُ التَّضافُرُ في هذه الدَّرَجةِ ابتغاءَ مَرضاةِ اللهِ تعالى؛ قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((من استطاع منكم أن ينفَعَ أخاه فلْيَفعَلْ)) [1788] أخرجه مسلم (2199) من حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، ويستَمِرُّ التَّعاوُنُ ما دام سبَبُه، وهو حُبُّ اللهِ تعالى؛ قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((سبعةٌ يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّه يومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه)) فعدَّ منهم: ((ورجلانِ تحابَّا في اللَّهِ؛ اجتَمَعا عليه وتفَرَّقا عليه)) [1789] أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه ، ومَن وَضَع قَدَمَه في هذه الدَّرَجةِ سَهُلت عليه الدَّرَجاتُ التَّاليةُ.
4- التَّعاوُنُ على العبادةِ والمصالحِ الدِّينيَّةِ؛ فعن أمِّ عطيَّةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((أمَرَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن نُخرِجَهنَّ في الفِطرِ والأضحى؛ العواتِقَ، والحُيَّضَ، وذواتِ الخُدورِ؛ فأمَّا الحُيَّضُ فيعتَزِلْنَ الصَّلاةَ، ويَشهَدْنَ الخيرَ، ودعوةَ المُسلِمين، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إحدانا لا يكونُ لها جِلبابٌ، قال: لِتُلْبِسْها أختُها مِن جِلبابِها)) [1790] أخرجه البخاري (1652)، ومسلم (890) واللفظ له. .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((أتى رجلٌ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: هلكْتُ! وقعتُ على أهلي في رمضانَ، قال: أعتِقْ رَقَبةً، قال: ليس لي، قال: فصُمْ شهرينِ مُتتابِعَينِ، قال: لا أستطيعُ، قال: فأطعِمْ سِتِّين مسكينًا، قال: لا أجِدُ، فأُتيَ بعَرَقٍ فيه تَمرٌ -العَرَقُ: المِكْتَلُ- فقال: أين السَّائِلُ؟ تصدَّقْ بها، قال: على أفقَرَ مني؟! واللهِ ما بَينَ لابَتَيها [1791] اللَّابةُ: الحَرَّةُ، وهي أرضٌ ذاتُ حِجارةٍ سُودٍ بينَ جَبَلينِ، أراد جانِبَي المدينةِ. يُنظَر: ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) للقاضي عياض (4/ 56). أهلُ بيتٍ أفقَرُ مِنَّا! فضَحِك النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى بدَت نواجِذُه [1792] المرادُ بالنواجِذِ هنا الأنيابُ، وقيل: المرادُ هنا الضَّواحِكُ، وقيل: المرادُ بها الأضراسُ. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (3/ 40). ! قال: فأنتم إذًا)) [1793] أخرجه البخاري (6087) واللفظ له، ومسلم (1111). .
5- التَّعاوُنُ على النَّوائِبِ والمُهِمَّاتِ، ومِثالُه قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((إنَّ الأشعَريِّين إذا أرمَلوا [1794] نَفِد زادُهم ((النهاية)) لابن الأثير (2/ 265). في الغَزْوِ، أو قَلَّ طعامُ عيالِهم بالمدينةِ، جَمَعوا ما كان عندَهم في ثوبٍ واحدٍ، ثمَّ اقتَسَموه بينهم في إناءٍ واحدٍ بالسَّويَّةِ! فهم مني وأنا منهم)) [1795] أخرجه البخاري (2486)، ومسلم (2500) من حديثِ أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. .
6- التَّعاوُنُ لغَرَضٍ شَرعيٍّ، مِثلُ الذي وقَع بَينَ ذي القَرنينِ وأصحابِ السَّدِّ؛ قال تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [الكهف: 93 - 97] . تعاوَن ذو القرنينِ مع القومِ، فأمرَهم فجمَعوا قِطَعَ الحديدِ العِظامَ، فجعَل بينها الحَطَبَ والفَحمَ، ووضَع عليها المنافيخَ حتَّى إذا صارت كالنَّارِ، أعطوه قِطْرًا -وهو النُّحاسُ- فصَبَّ النُّحاسَ المذابَ على الحديدِ الذي قد صار كالزَّيتِ، فاختَلَط ولَصِق بعضُه ببعضٍ حتَّى صار جَبَلًا صَلْدًا من حديدٍ ونُحاسٍ، فما قدَروا أن يعلوا عليه؛ لارتفاعِه واملِساسِه، وما استطاعوا أن يَنقُبوه [1796] ((معاني القرآن)) للزجاج (3/ 310 - 312). .

انظر أيضا: