موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ


1- عن أبي هُرَيرةَ، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تَباغَضوا، ولا تَدابَروا [7124] لا تَدابَروا: معناه التَّهاجُرُ والتَّصارُمُ، مأخوذٌ من توليةِ الرَّجُلِ دُبُرَه أخاه إذا رآه، وإعراضِه عنه. يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (4/ 122). ، ولا تنافَسوا، وكونوا عبادَ اللهِ إخوانًا)) [7125] أخرجه البخاري (6066) مطولًا باختلاف يسير، ومسلم (2563) واللفظ له. .
فلا يَحِلُّ التَّباغُضُ ولا التَّنافُسُ ولا التَّحاسُدُ ولا التَّدابُرُ بَيْنَ المُسلِمين، والواجبُ عليهم أن يكونوا إخوانًا كما أمَرَهم اللهُ ورسولُه، فإذا تألَّم واحدٌ منهم تألَّم الآخرُ بألَمِه، وإذا فَرِح فَرِح الآخرُ بفَرَحِه، ينفي الغِشَّ والدَّغَلَ مع استسلامِ الأنفُسِ للهِ عزَّ وجَلَّ، مع الرِّضا بما يوجِبُ القضاءُ في الأحكامِ كُلِّها، ولا يجِبُ الهِجرانُ بَيْنَ المُسلِمين عِندَ وجودِ زلَّةٍ من أحَدِهما، بل يجبُ عليهما صرْفُها إلى الإحسانِ والعَطفِ عليه بالإشفاقِ وتَركِ الهِجرانِ [7126] ((روضة العقلاء)) لابن حبان (ص: 204). .
2- وعن أبي أيُّوبَ الأنصاريُّ: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يحِلُّ لرَجُلٍ أن يَهجُرَ أخاه فوقَ ثلاثِ ليالٍ، يَلتَقيانِ فيُعرِضُ هذا ويُعرِضُ هذا، وخَيرُهما الذي يبدأُ بالسَّلامِ)) [7127] أخرجه البخاري (6077) واللفظ له، ومسلم (2560). . والمعنى: أفضَلُهما في طريقِ الأخلاقِ وحُسنِ المعاشَرةِ ((الذي يبدأُ بالسَّلامِ)) أي: ثمَّ الذي يردُّه، وفيه إيماءٌ إلى أنَّ من لم يَرُدَّه ليس فيه خيرٌ أصلًا، فيجوزُ هِجرانُه، بل يجِبُ؛ لأنَّه بتركِ رَدِّ السَّلامِ صار فاسِقًا، وإنَّما يكونُ البادئُ خيرَهما لدلالةِ فِعلِه على أنَّه أقرَبُ إلى التَّواضُعِ وأنسَبُ إلى الصَّفاءِ وحُسنِ الخُلقِ، وللإشعارِ بأنَّه معتَرِفٌ بالتَّقصيرِ، وللإيماءِ إلى حُسنِ العَهدِ وحِفظِ المودَّةِ القديمةِ، أو كأنَّه بادِئٌ في المحبَّةِ والصُّحبةِ [7128] يُنظَر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/ 3147) .
في هذا الحديثِ تحريمُ الهَجْرِ بَيْنَ المُسلِمين أكثَرَ من ثلاثِ ليالٍ بنَصِّ الحديثِ، وإباحتُها في الثَّلاثِ الأُوَلِ بمفهومِ الحديثِ، قال العُلَماءُ: وإنَّما عُفِي عنها في الثَّلاثِ؛ لأنَّ الآدميَّ مجبولٌ على الغَضَبِ وسُوءِ الخُلُقِ ونحوِ ذلك، فعُفي عن الهِجْرةِ في الثَّلاثةِ ليَذهَبَ ذلك العارِضُ [7129] ((شرح النووي على مسلم)) (16/ 117). . ثمَّ يكونُ لزامًا على المُسلِمِ بعدَه أن يواصِلَ إخوانَه، وأن يعودَ معهم سيرتَه الأولى، كأنَّ القطيعةَ غَيمةٌ، ما إن تجمَّعَت حتى هبَّت عليها الرِّيحُ فبدَّدَتْها، وصَفا الأفُقُ بعدَ عُبوسٍ [7130] يُنظَر: ((خلق المسلم)) لمحمد الغزالي (ص: 88). .
3- وعن أبي هُرَيرةَ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((تُفتَحُ أبوابُ الجنَّةِ يومَ الاثنينِ، ويومَ الخميسِ، فيُغفَرُ لكُلِّ عبدٍ لا يُشرِكُ باللهِ شيئًا إلَّا رجُلًا كانت بَينَه وبَينَ أخيه شَحناءُ، فيُقالُ: أنظِروا هذين حتى يصطَلِحا، أنظِروا هذين حتى يصطَلِحا، أنظِروا هذين حتى يصطَلِحا)) [7131] أخرجه مسلم (2565). .
وفيه أنَّ المهاجَرةَ والعداوةَ والشَّحناءَ والبَغضاءَ من الذُّنوبِ العِظامِ والسَّيِّئاتِ الجِسامِ [7132] يُنظَر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (21/262). .
4- وعن هِشامِ بنِ عامرٍ أنَّه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يحِلُّ لمُسلِمٍ أن يَهجُرَ مُسلِمًا فوقَ ثلاثِ لَيالٍ، فإنَّهما ناكبانِ [7133] ناكبان: أي: متنحِّيان ومُعرِضان عن الحَقِّ. يُنظَر: ((الفتح الرباني)) للساعاتي (19/239). عن الحَقِّ، ما داما على صُرامِهما [7134] صُرامُهما: أي: هَجرُهما وانقطاعُهما. يُنظَر: ((الفتح الرباني)) للساعاتي (19/239). ، وأوَّلُهما فَيئًا [7135] فيئًا: أي: رجوعًا. يُنظَر: ((الفتح الرباني)) للساعاتي (19/239). يكونُ سَبقُه بالفَيءِ كَفَّارةً له، وإن سَلَّم فلم يَقبَلْ ورَدَّ عليه سلامَه، ردَّت عليه الملائكةُ، وردَّ على الآخَرِ الشَّيطانُ، وإن ماتا على صُرامِهما لم يدخُلا الجنَّةَ جميعًا أبدًا)) [7136] أخرجه أحمد (16258) واللفظ له، وابن حبان (5664)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6620). صحَّحه ابن حبان، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (2759)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1202)، وصحَّح إسنادَه على شرط الشيخين شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (26/ 190). .
قال ابنُ علَّانَ: (من مات مُصِرًّا على الهَجْرِ والقطيعةِ دخل النَّارَ إن شاء اللهَ تعذيبَه مع عصاةِ الموَحِّدين، أو دخل النَّارَ خالِدًا مؤَبَّدًا إن استحَلَّ ذلك، مع عِلمِه بحُرمتِه والإجماعِ عليها) [7137] يُنظَر: ((دليل الفالحين)) لابن علان (8/435). .
5- وعن أبي الدَّرداءِ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ألا أخبِرُكم بأفضَلَ مِن دَرَجةِ الصِّيامِ والصَّلاةِ والصَّدَقةِ؟ قالوا: بلى، يا رسولَ اللهِ، قال: إصلاحُ ذاتِ البَينِ، وفسادُ ذاتِ البَينِ الحالِقةُ)) [7138] أخرجه أبو داود (4919) واللفظ له، والترمذي (2509)، وأحمد (27508). صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (5092)، وابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (2/1146). ، أي: إصلاحُ أحوالِ البَينِ حتى تكونَ أحوالُكم أحوالَ صِحَّةٍ وأُلفةٍ، أو هو إصلاحُ الفسادِ والفتنةِ التي بَيْنَ القومِ، وذلك لِما فيه من عمومِ المنافِعِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ من التَّعاوُنِ والتَّناصُرِ والأُلفةِ، والاجتماعِ على الخيرِ، حتَّى أبيحَ فيه الكَذِبُ، ولكثرةِ ما يندَفِعُ من المضَرَّةِ في الدِّينِ والدُّنيا [7139] يُنظَر: ((شرح الزرقاني على الموطأ)) (4/403). .
6- وعن جابرٍ رَضِيَ الله عنه قال: سمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ الشَّيطانَ قد أَيِسَ أن يَعبُدَه المصَلُّون في جزيرةِ العَرَبِ، ولكِنْ في التَّحريشِ بَيْنَهم)) [7140] أخرجه مسلم (2812). .
 (التَّحريشُ): الإغراءُ بَيْنَ النَّاسِ، يعني: أَيِسَ إبليسُ من أن يرتَدَّ أهلُ جزيرةِ العَرَبِ بعدَ الإسلامِ إلى الكُفرِ، وليس له سبيلٌ إلى رَدِّهم إلى الكُفرِ؛ لأنَّ الإسلامَ قد ثبَت في قلوبِهم، ولكِنْ أبدًا يوقِعُ الفتنةَ والعداوةَ بَيْنَهم، ويأمُرُهم بالخصومةِ وقَتلِ بعضِهم بعضًا [7141] ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (1/ 163). .
وقد تيقَّظ الإسلامُ لبوادرِ الجَفاءِ، فلاحقَها بالعلاجِ قبل أن تستفحِلَ وتستحيلَ إلى عداوةٍ فاجِرةٍ، والمعروفُ أنَّ البشَرَ متفاوتون في أمزجتِهم وأفهامِهم، وأنَّ التقاءَهم في ميادينِ الحياةِ قد يتولَّدُ عنه ضِيقٌ وانحرافٌ، إن لم يكُنْ صِدامٌ وتباعُدٌ؛ ولذلك شَرَع الإسلامُ من المبادئِ ما يرُدُّ عن المُسلِمين عواديَ الانقسامِ والفتنةِ، وما يمسِكُ قُلوبَهم على مشاعِرِ الولاءِ؛ فنهى عن التَّقاطُعِ والتَّدابُرِ [7142] يُنظَر: ((خلق المسلم)) لمحمد الغزالي (ص: 87، 88). .

انظر أيضا: