موسوعة الأخلاق والسلوك

ثامنًا: أسبابُ الوُقوعِ في  المُداهَنةِ


1- الجَهلُ بحقيقةِ المُداهَنةِ وعواقِبِها؛ فإنَّها صفةٌ ذميمةٌ جديرةٌ بالاجتنابِ، ومَن لم يعرِفِ الشَّرَّ يقَعْ فيه؛ ولذلك قال حُذَيفةُ رَضِيَ اللَّهُ عنه: (كان النَّاسُ يسألون رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الخيرِ، وكنتُ أسألُه عن الشَّرِّ مخافةَ أن يُدرِكَني...) [6626] أخرجه البخاري (3606)، ومسلم (1847). ، ومن ذلك رذائِلُ الأخلاقِ، ومن أرذَلِها المُداهَنةُ، فيَلزَمُ كُلَّ أحَدٍ مِنَّا أن يَعرِفَها وكيفيَّةَ اجتنابِها وأسبابَها وكيفيَّةَ علاجِها إن وَقَع في شيءٍ منها قَلَّ أو كَثُرَ، وأن يسارِعَ بالتَّخلُّصِ من هذا الدَّاءِ.
قال ابنُ عابدين: (عِلمُ الإخلاصِ والعُجبِ والحَسَدِ والرِّياءِ فَرضُ عَينٍ، ومِثلُها غَيرُها من آفاتِ النُّفوسِ: كالكِبرِ والشُّحِّ والحِقدِ، والغِشِّ والغَضَبِ، والعَداوةِ والبَغضاءِ، والطَّمَعِ والبُخلِ، والبَطَرِ والخُيَلاءِ والخيانةِ، والمُداهَنةِ والاستكبارِ عن الحَقِّ، والمَكرِ والمخادَعةِ، والقَسوةِ وطُولِ الأمَلِ، ونحوِها... فيلزَمُه أن يتعَلَّمَ منها ما يرى نفسَه محتاجًا إليه، وإزالتُها فَرضُ عَينٍ، ولا يمكِنُ إلَّا بمعرفةِ حُدودِها وأسبابِها وعلاماتِها وعلاجِها؛ فإنَّ مَن لا يَعرِفُ الشَّرَّ يَقَعُ فيه) [6627] ((رد المحتار على الدر المختار)) (1/ 43). ويُنظَر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (1/ 15). .
2- الحِرصُ على الإمارةِ والجاهِ والرِّياسةِ.
إنَّ الإمارةَ حَسرةٌ وندامةٌ يومَ القيامةِ، بما لها من تَبِعاتٍ أمامَ اللَّهِ تعالى، فلو تولَّى هذا المداهِنُ ثمَّ عُزِل منها، وكان قد ذاقَ لذَّةَ الإمارةِ بما فيها من جاهٍ ورياسةٍ ونَفاذِ الأمرِ وغيرِ ذلك، ربَّما لا يَصبِرُ على ألمِ الفِطامِ، فيترَخَّصُ فيُداهِنُ ويبيعُ من دينِه ما يَظُنُّ أنَّه سيحفَظُ عليه إمارتَه وسُلطانَه وجاهَه بَيْنَ النَّاسِ!
والأحاديثُ في النَّهيِ عن الحِرصِ على الإمارةِ كثيرةٌ؛ فمنها:
عن ‌أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّكم ستَحرِصون على الإمارةِ، وستكونُ ندامةٌ يومَ القيامةِ، فنِعمَ المُرضِعةُ وبِئسَت ‌الفاطِمةُ!)) [6628] أخرجه البخاري (7148). .
قال أبو حامِدٍ الغَزاليُّ: (ومنَ جَرَّب نفسَه فرآها صابرةً على الحَقِّ كافَّةً عن الشَّهَواتِ في غيرِ الولاياتِ، ولكِنْ خاف عليها أن تتغَيَّرَ إذا ذاقت لذَّةَ الولايةِ، وأن تستحليَ الجاهَ وتستَلِذَّ نفاذَ الأمرِ فتَكرَهَ العَزلَ، فيُداهِنَ خيفةً من العَزلِ؛ فهذا قد اختَلَف العُلَماءُ في أنَّه هل يلزَمُه الهَرَبُ مِن تقَلُّدِ الولايةِ، فقال قائلون: لا يجِبُ؛ لأنَّ هذا خوفُ أمرٍ في المستقبَلِ، وهو في الحالِ لم يَعهَدْ نفسَه إلَّا قويَّةً في ملازمةِ الحَقِّ وتَركِ لذَّاتِ النَّفسِ، والصَّحيحُ أنَّ عليه الاحترازَ؛ لأنَّ النَّفسَ خَدَّاعةٌ مُدَّعيةٌ للحَقِّ واعدةٌ بالخيرِ، فلو وَعَدَت بالخيرِ جَزمًا لكان يخافُ عليها أن تتغيَّرَ عِندَ الولايةِ، فكيف إذا أظهَرَت التَّردُّدَ؟ والامتناعُ عن قَبولِ الولايةِ أهوَنُ من العَزلِ بعدَ الشُّروعِ؛ فالعَزلُ مؤلمٌ، وهو كما قيل: العَزلُ طَلاقُ الرِّجالِ! فإذا شَرَع لا تَسمَحُ نفسُه بالعَزلِ، وتميلُ نفسُه إلى المُداهَنةِ وإهمالِ الحَقِّ، وتهوي به في قَعرِ جَهنَّمَ، ولا يستطيعُ النُّزوعَ منه إلى الموتِ إلَّا أن يُعزَلَ قَهرًا) [6629] ((إحياء علوم الدين)) (3/ 325). .
3- الصُّحبةُ والصَّداقةُ في غيرِ طاعةِ اللَّهِ:
إنَّ الصُّحبةَ والصَّداقةَ إذا كانت على غيرِ طاعةِ اللَّهِ وفي غيرِ مَرضاتِه يَدخُلُ على دينِ المُسلِمِ من الفَسادِ بسَبَبِها ما لا يَعلَمُه إلَّا اللَّهُ تعالى؛ ذلك لأنَّه ما صاحَبَ أهلَ الدُّنيا إلا ليستفيدَ منهم ويعاونَهم على أغراضِهم، وقد يؤدِّي ذلك إلى إفسادِ دينِه، وإنْ لم يفعَلِ انقَلَبوا عليه أعداءً، وهي عداوةٌ تزيدُ على عداوةِ أعدائِه؛ لأنَّهم شاهَدوا منه ما لم يشاهِدْه أعداؤه، وإنْ لم يحِبَّ مفارقتَهم احتاج إلى مساعدتِهم ومداهنتِهم على ما يريدونَ، وإن كان فيه فسادُ دينِه وذَهابُ آخرتِه!  
ويحكي القُرآنُ الكريمُ كيف تبَرَّأَ الخُصَماءُ بعضُهم من بعضٍ يومَ القيامةِ؛ قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة: 166] . الْأَسْبَابُ يعني الوُصلاتُ التي كانت بَيْنَهم في الدُّنيا يتواصَلون بها من قرابةٍ وصَداقةٍ. وقيل: الأعمالُ التي كانت بَيْنَهم يعمَلونها في الدُّنيا. وقيل: العهودُ والحِلفُ التي كانت بَيْنَهم يتوادُّون عليها [6630] يُنظَر: ((لباب التأويل)) للخازن (1/ 100). .
4- الخَوفُ من النَّاسِ وعَدَمُ الخوفِ مِن اللهِ:
 مَن خاف اللَّهَ تعالى في عبادِه كان محسِنًا إلى النَّاسِ وإلى نفسِه؛ لأنَّ خوفَه من اللَّهِ يحمِلُه على أن يعطيَهم حَقَّهم وافيًا غيرَ مَنقوصٍ، ويَكُفَّه عن ظُلمِهم، ومن خاف النَّاسَ ولم يَخَفِ اللَّهَ تعالى فهذا ظالمٌ لنفسِه وللنَّاسِ؛ لأنَّه إذا خافَهم دونَ اللَّهِ احتاج إلى أن يدفَعَ شَرَّهم عنه بكُلِّ وجهٍ كان، إمَّا بمداهنتِهم أو مُراءاتِهم، وإمَّا بمقابلتِهم بشيءٍ من الشَّرِّ أجَلَّ وأعظَمَ من شَرِّهم أو مِثلِه.
5- وقوعُ الفِتَنِ:
فإنَّ الفِتَنَ مُمَحِّصةٌ، وقد ينحَدِرُ فيها بعضُ النَّاسِ فيُداهِنُ من أجلِ منزلةٍ أو مصلحةٍ، ويبيعُ دينَه بعَرَضٍ من أعراضِ الدُّنيا الزَّائلةِ.
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((بادِروا بالأعمالِ فِتَنًا كقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ؛ يُصبِحُ الرَّجُلُ مُؤمِنًا ويُمسي كافِرًا، أو يُمسي مُؤمِنًا ويُصبِحُ كافِرًا، يبيعُ دينَه بعَرَضٍ من الدُّنيا)) [6631] أخرجه مسلم (118). .
(أي: أنَّ سَبَبَ كُفرِه بَيعُه، أي: أخْذُه العَرَضَ في مقابلةِ دينِه، بأن يأخُذَ أو يستحِلَّ مالَ أخيه المُسلِمِ، أو يَستَحِلَّ الرِّبا والغِشَّ أو نحوَه ممَّا أُجمِعَ على تحريمِه وعُلِم من الدِّينِ بالضَّرورةِ) [6632] ((دليل الفالحين)) لابن علان (2/ 298). .

انظر أيضا: