موسوعة الأخلاق والسلوك

رابعًا: آثارُ الغَضَبِ


1- مِن آثارِ الغَضَبِ في الظَّاهرِ:
 تَغَيُّرُ اللَّونِ، وشِدَّةُ رَعدةِ الأطرافِ، وخُروجُ الأفعالِ عن التَّرتيبِ والانتِظامِ، واضطِرابُ الحَرَكةِ والكلامِ، حتَّى يظهَرَ الزَّبَدُ على الأشداقِ، وتَشتَدَّ حُمرةُ الأحداقِ، وتَستَحيلَ الخِلقةُ، ولو يرى الغَضبانُ في حالِ غَضَبِه صورةَ نَفسِه لسَكن غَضَبُه حَياءً مِن قُبحِ صورَتِه؛ لاستِحالةِ خِلقَتِه [5296] يُنظَر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/168)، ((فتح الباري)) لابن حجر (10/520)، ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (1/95). .
2- مِن آثارِ الغَضَبِ على اللِّسانِ:
 أنَّه ينشَأُ مِن الغَضَب كثيرٌ مِن الأقوال المُحَرَّمةِ والقَبائِحِ، كالقَذفِ والسَّبِّ والفُحشِ، إلى غَيرِ ذلك مِمَّا يستَحي مِنه ذَوو العُقولِ مُطلقًا، وقائِلُه عِندَ فُتورِ غَضَبِه، ومِمَّا ينشَأُ عن الغَضَبِ أيضًا الأيمانُ التي لا يجوزُ التِزامُها شَرعًا، وطَلاقُ الزَّوجةِ الذي يُعقِبُ النَّدَمَ، ورُبَّما ارتَقى الأمرُ إلى دَرَجةِ الكُفرِ، كما جَرى لجَبلةَ بنِ الأيهمِ [5297] هو ابنُ الحارِثِ بنِ أبي شعرٍ، واسمُه المنذِرُ بنُ الحارِثِ، رويَ في أحاديثَ دخل بعضُها في بعضٍ، قالوا: وكتب رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى جبلةَ بنِ الأيهَمِ مَلِكِ غَسَّانَ يدعوه إلى الإسلامِ، فأسلم وكتب بإسلامِه إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأهدى له هديَّةً، ثمَّ لم يزَلْ مُسلِمًا حتى كان زَمَنُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ، فبينا هو في سوقِ دِمَشقَ إذ وطئَ رجلًا من مُزَينةَ، فوثب المُزَنيُّ فلَطَمه، فأُخِذ وانطُلِق به إلى أبي عُبَيدةَ بنِ الجرَّاحِ، فقالوا: هذا لَطَم جَبَلةَ! قال: فليَلطِمْه، قالوا: وما يُقتَلُ؟ قال: لا، قالوا: فما تُقطَعُ يَدُه؟ قال: لا، إنما أمر اللهُ تبارك وتعالى بالقَودِ، قال جَبَلةُ: أو تَرَونَ أني جاعِلٌ وجهي نِدًّا لوَجهِ جَدْيٍ جاء من عُمقٍ؟! بئس الدِّينُ هذا! ثمَّ ارتدَّ نصرانيًّا وترحَّل بقومِه حتى دخل أرضَ الرُّومِ. يُنظَر: ((تاريخ دمشق)) (11/19). ، كما أنَّ الغَضبانَ لا ينتَظِمُ كلامُه، بَل يتَخَبَّطُ نَظمُه، ويضطَرِبُ لفظُه [5298] يُنظَر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/168)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/369)، ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (1/95). ، وقد يصيحُ صياحًا شَديدًا أو يدعو على نَفسِه وأحَبِّ النَّاسِ إليه [5299] ((إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان)) لابن القيم (ص: 47). .
3- مِن آثارِ الغَضَب على الأفعالِ:
 وينشَأُ مِن الغَضَبِ كثيرٌ مِن الأفعال المُحَرَّمةِ، كالضَّربِ فما فوقَه إلى القَتلِ عِندَ التَّمَكُّنِ، وأنواعِ الظُّلمِ والعُدوانِ، فإن عَجَزَ عن التَّشَفِّي رَجَعَ غَضَبُه عليه، فمَزَّقَ ثَوبَه، وضَرَبَ نَفسَه وغَيرَه مِمَّن ليس له ذَنبٌ، حتَّى الحَيوانَ، والجَمادَ بالكَسرِ وغَيرِه، وعَدا عَدْوَ الوالِهِ السَّكرانِ، والمَجنونِ الحَيرانِ، ورُبَّما سَقَطَ وعَجَز عن الحَرَكةِ، واعتَراه مِثلُ الغَشيةِ؛ لشِدَّةِ استيلاءِ الغَضَبِ عليه [5300] يُنظَر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/168)، ((جامع العلوم والحكم)) (1/369). ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (1/95). .
وقال ابنُ مِسكويهِ: (فإنَّ صاحِبَ هذا الخُلُقِ -خُلقِ الغَضَبِ- الذي ذَمَمْناه، تَصدُرُ عنه أفعالٌ رَديئةٌ كثيرةٌ، يجورُ فيها على نَفسِه، ثُمَّ على إخوانِه، ثُمَّ على الأقرَبِ فالأقرَبِ مِن مَعامِليه، حتَّى ينتَهيَ إلى عَبيدِه وإلى حَرَمِه، فيكونَ عليهم سَوطَ عَذابٍ، ولا يُقيلُهم عَثرةً، ولا يرحَمُ لهم عَبرةً، وإن كانوا بُرَآءَ مِن الذُّنوبِ، غَيرَ مُجتَرِمينَ ولا مُكتَسبينَ سوءًا! بَل يتَجَرَّمُ عليهم، ويَهيجُ مِن أدنى سَبَبٍ يجِدُ به طَريقًا إليهم، حتَّى يبسُطَ لسانَه ويدَه، وهم لا يمتَنِعونَ مِنه ولا يتَجاسَرونَ على رَدِّه عن أنفُسِهم، بَل يُذعِنونَ له، ويُقِرُّونَ بذُنوبٍ لم يقتَرِفوها استِكفافًا لشَرّهٍ، وتَسكينًا لغَضَبِه، وهو مَعَ ذلك مُستَمِرٌّ على طَريقَتِه، لا يكُفُّ يدًا ولا لسانًا! ورُبَّما تَجاوزَ في هذه المُعامَلةِ النَّاسَ إلى البَهائِمِ التي لا تَعقِلُ، وإلى الأواني التي لا تُحِسُّ؛ فإنَّ صاحِبَ هذا الخُلُقِ الرَّديءِ... رُبَّما عَضَّ القُفلَ إذا تَعَسَّرَ عليه، وكسَرَ الآنيةَ التي لا يجِدُ فيها طاعةً لأمرِه. وهذا النَّوعُ مِن رَداءةِ الخُلُقِ مَشهورٌ في كثيرٍ مِن الجُهَّالِ، يستَعمِلونَه في الثَّوبِ والزُّجاجِ، والحَديدِ وسائِرِ الآلاتِ) [5301] ((تهذيب الأخلاق)) (ص: 168). .
4- مِن آثارِ الغَضَب على الباطِنِ:
 وأمَّا الباطِنُ فقُبحُه أشَدُّ مِن الظَّاهرِ؛ فإنَّ الظَّاهرَ عُنوانُ الباطِنِ، وإنَّما قَبُحَت صورةُ الباطِنِ أوَّلًا ثُمَّ انتَشَرَ قُبحُها إلى الظَّاهرِ ثانيًا، وتَغَيُّرُ ظاهرِه ثَمَرةُ تَغَيُّرِ باطِنِه؛ فالغَضَبُ يولِّدُ الحِقدَ في القَلبِ على المَغضوبِ عليه، وحَسَدَه وإضمارَ السُّوءِ له على اختِلافِ أنواعِه، وإظهارَ الشَّماتةِ بمَساءَتِه، والحُزنَ بسُرورِه، والعَزمَ على إفشاءِ سِرِّه، وهَتكِ سِترِه، والاستِهزاءِ به، وغَيرِ ذلك مِن القَبائِحِ [5302] يُنظَر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/168)، ((فتح الباري)) لابن حجر (10/520)، ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (1/95). .
5- مِن آثارِ الغَضَبِ أنَّه يطغى على العَقلِ فيُضعِفُه أو يُزيلُه؛ قال ابنُ حِبَّانَ: (سُرعةُ الغَضَبِ أنكى في العاقِلِ مِن النَّارِ في يَبسِ العَوسَجِ [5303] العوسَجُ: شَجَرٌ من شَجَرِ الشَّوكِ، وله ثمرٌ أحمرُ مُدَوَّرٌ كأنَّه خَرَزُ العقيقِ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (2/324). ؛ لأنَّ مَن غَضِبَ زايله عَقلُه، فقال ما سَوَّلت له نَفسُه، وعَمِل ما شانَه وأرداه) [5304] ((روضة العقلاء)) لابن حبان (ص: 138). .
6- الغَضَبُ يُعمي صاحِبَه ويُصِمُّه عن كُلِّ مَوعِظةٍ، بَل لا تَزيدُه المَوعِظةُ إلَّا اشتِعالًا؛ لانطِفاءِ نورِ عَقلِه ومَحوِه حالًا بدُخانِ الغَضَب الصَّاعِدِ إلى الدِّماغِ الذي هو مَعدِنُ الفِكرِ، وبما يتَعَدَّى إلى مَعادِنِ الحِسِّ؛ فيُظلِمُ بَصَرُه حتَّى لا يرى شَيئًا إلَّا سَوادًا، بَل رُبَّما زادَ اشتِعالُ نارِه حتَّى تَفنى رُطوبةُ القَلبِ التي بها حَياتُه فيموتُ صاحِبُه غَيظًا [5305] ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) للهيتمي (1/95). .
قال الرَّاغِبُ: (واعلَمْ أنَّ نارَ الغَضَبِ متى كانت عنيفةً تَأجَّجَت واضطَرمَت، واحتَدَّ مِنه غَليانُ الدَّمِ في القَلبِ، ومَلأت الشَّرايينَ والدِّماغَ دُخانًا مُظلِمًا مُضطَرِمًا، يسودُّ مِنه مَجالُ العَقلِ، ويَضعُفُ به فِعلُه، فكما أنَّ الكهفَ الضَّيِّقَ إذا مُلئَ حَريقًا اختَنَقَ فيه الدُّخانُ واللَّهَبُ، وعلا مِنه الأجيجُ، فيصعُبُ عِلاجُه وإطفاؤُه، ويصيرُ كُلُّ ما يدنو مِنه مادَّةً تُقَوِّيه- فكذلك النَّفسُ، إذا اشتَعلت غَضَبًا عَمِيَت عن الرُّشدِ، وصَمَّتْ عن المَوعِظةِ، فتَصيرُ مَواعِظُه مادَّةً لغَضَبِه؛ ولهذا حُكي عن إبليسَ -لعنه اللهُ- أنَّه يقولُ: متى أعجَزَني ابنُ آدَمَ فلن يُعجِزَني إذا غَضِبَ؛ لأنَّه ينقادُ لي فيما أبتَغيه مِنه، ويعمَلُ بما أُريدُه وأرتَضيه) [5306] ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) (ص: 345). .
7- الغَضَبُ يمنَعُ كثيرًا مِن مَنافِعِ الدُّنيا [5307] ((المنتقى شرح الموطأ)) (7/214). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (ومَن تَأمَّل هذه المَفاسِدَ عَرَف مِقدارَ ما اشتَمَلت عليه هذه الكَلِمةُ اللَّطيفةُ مِن قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "لا تَغضَبْ" مِن الحِكمةِ واستِجلابِ المَصلحةِ في دَرءِ المَفسَدةِ، مِمَّا يتَعَذَّرُ إحصاؤُه والوُقوفُ على نِهايتِه، وهذا كُلُّه في الغَضَبِ الدُّنيويِّ لا الغَضَبِ الدِّينيِّ) [5308] ((فتح الباري)) (10/520). .
8- الغَضَبُ يُؤَثِّرُ على صِحَّةِ الإنسانِ، ورُبَّما كان سَبَبًا لأمراضٍ صَعبةٍ مُؤَدِّيةٍ إلى التَّلفِ [5309] ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) (ص: 345). .

انظر أيضا: