موسوعة الأخلاق والسلوك

حادِيَ عَشَرَ: مسائِلُ مُتفَرِّقةٌ


- التَّفريطُ أَحَدُ نَزْغَتَيِ الشَّيطانِ:
قال ابنُ القَيِّمِ: (فإنَّ المقصودَ هو الصِّراطُ المستقيمُ المُوصِلُ إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ بسالِكِه، وما أمَر اللهُ عزَّ وجَلَّ بأمرٍ إلَّا وللشَّيطانِ فيه نَزْغتانِ: إمَّا تقصيرٌ وتفريطٌ، وإمَّا إفراطٌ وغُلُوٌّ، فلا يبالي بما ظَفِر من العبدِ من الخطيئتَينِ؛ فإنَّه يأتي إلى قَلبِ العبدِ فيَستامُه، فإن وجد فيه فُتورًا وتوانيًا وترخيصًا أخَذَه من هذه الخُطَّةِ فثَبَّطَه وأقعَدَه وضَرَبه بالكَسَلِ والتَّواني والفُتورِ، وفَتَح له بابَ التَّأويلاتِ والرَّجاءِ وغيرِ ذلك، حتى ربَّما تَرك العبدُ المأمورَ جملةً! وإن وَجَد عندَه حَذَرًا وجِدًّا وتشميرًا ونَهضةً، وأَيِسَ أن يأخُذَه من هذا البابِ، أمَرَه بالاجتهادِ الزَّائِدِ وسَوَّل له أنَّ هذا لا يكفيك، وهمَّتُك فوقَ هذا، وينبغي لك أن تزيدَ على العامِلين، وألَّا تَرقُدَ إذا رقَدوا، ولا تُفطِرَ إذا أفطَروا، وألَّا تَفتُرَ إذا فَتَروا، وإذا غَسَل أحَدُهم يَدَيه ووَجْهَه ثلاثَ مَرَّاتٍ فاغسِلْ أنت سبعًا، وإذا توضَّأ للصَّلاةِ فاغتَسِلْ أنت لها، ونحوَ ذلك من الإفراطِ والتَّعدِّي، فيَحمِلُه على الغُلُوِّ والمجاوَزةِ وتعَدِّي الصِّراطِ المستقيمِ، كما يحمِلُ الأوَّلَ على التَّقصيرِ دونَه وألَّا يَقرَبَه، ومقصودُه من الرَّجُلينِ إخراجُهما عن الصِّراطِ المسقيمِ: هذا بأنْ لا يَقرَبَه ولا يَدنُوَ منه، وهذا بأن يجاوِزَه ويتعَدَّاه، وقد فُتِن بهذا أكثَرُ الخَلقِ، ولا يُنجي من ذلك إلَّا عِلمٌ راسِخٌ وإيمانٌ، وقُوَّةٌ على محاربتِه، ولُزومُ الوَسَطِ) [1898] ((الوابل الصيب)) (ص: 17). .
- كُلُّ خُلُقٍ محمودٍ مُكتَنَفٌ بخُلُقَينِ ذَميمَينِ، وهو وَسَطٌ بَينَهما:
قال ابنُ القَيِّمِ: (كُلُّ خُلُقٍ محمودٍ مُكتَنَفٌ بخُلُقَينِ ذميمَينِ، وهو وَسَطٌ بَينَهما. وطَرَفاه خُلُقانِ ذَميمانِ؛ كالجُودِ الذي يكتَنِفُه خُلُقَا البُخلِ والتَّبذيرِ، والتَّواضُعِ الذي يكتَنِفُه خُلُقَا الذُّلِّ والمهانةِ، والكِبرِ والعُلُوِّ.
فإنَّ النَّفسَ متى انحرَفَت عن التَّوسُّطِ انحرَفَت إلى أحَدِ الخُلُقَينِ الذَّميمَينِ ولا بُدَّ؛ فإذا انحرَفَت عن خُلُقِ التَّواضُعِ انحرَفَت إمَّا إلى كِبرٍ وعُلُوٍّ، وإمَّا إلى ذُلٍّ ومَهانةٍ وحَقارةٍ. وإذا انحرَفَت عن خُلُقِ الحياءِ انحرَفَت إمَّا إلى قِحَةٍ [1899] القِحَةُ والوَقاحةُ: قِلَّةُ الحياءِ. يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 667). وجُرأةٍ، وإمَّا إلى عَجزٍ وخَوَرٍ ومهانةٍ، بحيثُ يَطمَعُ في نفسِه عَدُوُّه، ويفوتُه كثيرٌ من مصالحِه، ويزعُمُ أنَّ الحامِلَ له على ذلك الحياءُ، وإنَّما هو المهانةُ والعَجزُ، وموتُ النَّفسِ. وكذلك إذا انحَرَفت عن خُلُقِ الصَّبرِ المحمودِ انحرَفَت إمَّا إلى جَزَعٍ وهَلَعٍ وجَشَعٍ وتسَخُّطٍ، وإمَّا إلى غِلظةِ كَبدٍ، وقَسوةِ قَلبٍ، وتحَجُّرِ طَبعٍ...
وإذا انحرَفَت عن خُلُقِ الحِلمِ انحرَفَت إمَّا إلى الطَّيشِ والتَّرَفِ والحِدَّةِ والخِفَّةِ، وإمَّا إلى الذُّلِّ والمهانةِ والحَقارةِ؛ ففَرقٌ بَينَ مَن حِلمُه حِلمُ ذُلٍّ ومهانةٍ وحَقارةٍ وعَجزٍ، وبَينَ مَن حِلمُه حِلمُ اقتدارٍ وعِزَّةٍ وشَرَفٍ، كما قيل:
كُلُّ حِلمٍ أتى بغيرِ اقتدارٍ
حُجَّةٌ لاجِئٌ إليها اللِّئامُ
وإذا انحرَفَت عن خُلُقِ الأناةِ والرِّفقِ انحرَفَت إمَّا إلى عَجَلةٍ وطَيشٍ وعُنفٍ، وإمَّا إلى تفريطٍ وإضاعةٍ، والرِّفقُ والأناةُ بَينَهما.
وإذا انحرَفَت عن خُلُقِ العِزَّةِ التي وهَبَها اللهُ للمُؤمِنين انحرَفَت إمَّا إلى كِبرٍ، وإمَّا إلى ذُلٍّ، والعِزَّةُ المحمودةُ بَينَهما.
وإذا انحرَفَت عن خُلُقِ الشَّجاعةِ انحَرَفت إمَّا إلى تهَوُّرٍ وإقدامٍ غيرِ محمودٍ، وإمَّا إلى جُبنٍ وتأخُّرٍ مذمومٍ.
وإذا انحَرَفت عن خُلُقِ المنافَسةِ في المراتِبِ العاليةِ والغِبطةِ انحَرَفَت إمَّا إلى حَسَدٍ، وإمَّا إلى مَهانةٍ وعَجزٍ، وذُلٍّ ورِضًا بالدُّونِ.
وإذا انحَرَفت عن القناعةِ انحَرَفت إمَّا إلى حِرصٍ وكَلَبٍ، وإمَّا إلى خِسَّةٍ ومهانةٍ وإضاعةٍ.
وإذا انحرَفَت عن خُلُقِ الرَّحمةِ انحَرَفت إمَّا إلى قَسوةٍ، وإمَّا إلى ضَعفِ قَلبٍ وجُبنِ نَفسٍ، كمَن لا يُقدِمُ على ذَبحِ شاةٍ، ولا إقامةِ حَدٍّ، وتأديبِ وَلَدٍ، ويزعُمُ أنَّ الرَّحمةَ تحمِلُه على ذلك، وقد ذَبَح أرحَمُ الخَلقِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيَدِه في مَوضِعٍ واحِدٍ ثلاثًا وسِتِّينَ بَدَنةٌ، وقَطَع الأيديَ من الرِّجالِ والنِّساءِ، وضَرَب الأعناقَ، وأقام الحُدودَ ورَجَم بالحِجارةِ حتى مات المرجومُ، وكان أرحَمَ خَلقِ اللهِ على الإطلاقِ وأرأَفَهم.
وكذلك طَلاقةُ الوَجهِ، والبِشرُ المحمودُ؛ فإنَّه وَسَطٌ بَينَ التَّعبيسِ والتَّقطيبِ وتصعيرِ الخَدِّ، وطَيِّ البِشرِ عن البَشَرِ، وبَينَ الاسترسالِ بذلك مع كُلِّ أحدٍ، بحيثُ يُذهِبُ الهَيبةَ، ويُزيلُ الوَقارَ، ويُطمِعُ في الجانِبِ، كما أنَّ الانحرافَ الأوَّلَ يُوقِعُ الوَحشةَ والبِغضةَ والنُّفرةَ في قُلوبِ الخَلقِ.
وصاحِبُ الخُلُقِ الوَسَطِ مَهِيبٌ محبوبٌ، عزيزٌ جانِبُه، حبيبٌ لِقاؤه، وفي صِفةِ نَبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن رآه بديهةً هابَه، ومن خالَطَه عِشرةً أحَبَّه) [1900] ((مدارج السالكين)) (2/ 295-297). .

انظر أيضا: