موسوعة الأخلاق والسلوك

عاشِرًا: نماذِجُ من الإفراطِ


- إفراطُ أهلِ الكتابِ في اتِّباعِ أحبارِهم ورُهبانِهم، وتعظيمِهم:
قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 31] .
قال الطَّبَريُّ: (أمَّا قولُه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا فإنَّه يعني به: وما أُمِر هؤلاء اليهودُ والنَّصارى الذين اتَّخذوا الأحبارَ والرُّهبانَ والمسيحَ أربابًا إلَّا أن يَعبُدوا معبودًا واحدًا، وأن يطيعوا إلَّا ربًّا واحدًا دونَ أربابٍ شَتَّى، وهو اللَّهُ الذي له عبادةُ كُلِّ شيءٍ، وطاعةُ كُلِّ خَلقٍ، المستحِقُّ على جميعِ خَلقِه الدَّينونةَ له بالوحدانيَّةِ والرُّبوبيَّةِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يقولُ تعالى ذِكرُه: لا تنبغي الألوهةُ إلَّا لواحِدٍ الذي أُمِر الخلقُ بعبادتِه، ولَزِمَت جميعَ العبادِ طاعتُه) [736] ((جامع البيان)) للطبري (11/421). .
- إفراطُ النَّصارى في تعظيمِ نَبيِّ اللَّهِ عيسى عليه السَّلامُ:
قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة: 17] .
 (والمعنى: قُلْ -يا محمَّدُ- لهؤلاء النَّصارى: أتعبُدون مِن دونِ اللَّهِ عيسى وأمَّه، وهما لا يستطيعانِ أن يَضُرَّاكم بشيءٍ من الضَّرَرِ في الأنفُسِ والأموالِ، ولا أن ينفعاكم بشيءٍ من النَّفعِ، كإيجادِ الصِّحَّةِ والخِصبِ والسَّعةِ؛ لأنَّ الضُّرَّ والنَّفعَ من اللَّهِ وَحدَه، وكُلُّ ما يستطيعُه البشَرُ من المضارِّ أو المنافِعِ هو بتمكينِ اللَّهِ لهم، وليس بقُدرتِهم الذَّاتيَّةِ... ولا شَكَّ أنَّ من صفاتِ الرَّبِّ أن يكونَ قادِرًا على كُلِّ شيءٍ؛ فقَولُ النَّصارى بأنَّ اللَّهَ هو المسيحُ ابنُ مريمَ أو هو ثالِثُ ثلاثةٍ، قَولٌ ظاهِرُ البُطلانِ واضِحُ الفَسادِ) [737] ((التفسير الوسيط)) لمحمد سيد طنطاوي (4/244، 245). .
- إفراطُ القَدَريَّةِ في نَفيِ القَدَرِ حتَّى نَفَوه عن اللَّهِ سُبحانَه ونَسَبوه لأنفُسِهم:
يقولُ ابنُ قُتَيبةَ: (فإنَّهم أضافوا القَدَرَ إلى أنفُسِهم، وغيرُهم يجعلُه للهِ تعالى دونَ نفسِه، ومُدَّعي الشَّيءِ لنَفسِه أولى بأن يُنسَبَ إليه ممَّن جعَله لغَيرِه) [738] ((تأويل مختلف الحديث)) (ص: 137). .
وقال أيضًا: (وقالت القَدَريَّةُ: نحن نفعَلُ ما لا يريدُ اللَّهُ تعالى، ونقدِرُ على ما لا يَقدِرُ!) [739] ((تأويل مختلف الحديث)) (ص: 137). .
- إفراطُ الجَبْريَّةِ في إثباتِ القَدَرِ حتَّى نَسَبوا ذُنوبَ العبادِ إلى قَدَرِ اللَّهِ ومشيئتِه:
يقولُ حافِظٌ الحَكَميُّ: (إضافةُ الفِعلِ والانفعالِ كِليهما إلى اللَّهِ عزَّ وجَلَّ هو قَولُ الجَبريَّةِ الغُلاةِ الجُفاةِ الذين يقولون: إنَّ العبدَ مجبورٌ على أفعالِه مقسورٌ عليها، كالسَّعَفةِ [740] السَّعَفةُ: غُصنُ النَّخلةِ، وأكثَرُ ما يُقالُ إذا يَبِسَ. يُنظَر: ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سيده (1/ 498). يحرِّكُها الرِّيحُ العاصِفُ، وكالهاوي من أعلى إلى أسفَلَ، وإنَّ تكليفَ اللَّهِ سُبحانَه وتعالى عبادَه -مِن أمرِهم بالطَّاعاتِ ونهيِهم عن المعاصي- كتكليفِ الحيوانِ البهيمِ بالطَّيرانِ، وتكليفِ المقعَدِ بالمشيِ، وتكليفِ الأعمى بنَقطِ الكتابِ، وإنَّ تعذيبَه إيَّاهم على معصيتِهم إيَّاه هو تعذيبٌ لهم على فِعلِه لا على أفعالِهم!) [741] ((معارج القبول)) (3/946). .
- إفراطُ غُلاةِ الصُّوفيَّةِ في محبَّةِ أئمَّتِهم وأوليائِهم وتعظيمِهم:
يقولُ ابنُ تَيميَّةَ: (وأمَّا الإيمانُ بالرُّسُلِ فقد ادَّعَوا أنَّ خاتَمَ الأولياءِ أعلَمُ باللَّهِ من خاتَمِ الأنبياءِ، وأنَّ خاتَمَ الأنبياءِ هو وسائِرُ الأنبياءِ يأخُذون العِلمَ باللَّهِ من مِشكاةِ خاتَمِ الأولياءِ! وهذا مناقِضٌ للعَقلِ والدِّينِ، كما يُقالُ في قولِ القائِلِ: فَخَرَّ عليهم السَّقفُ مِن تَحتِهم! لا عَقلٌ ولا قُرآنٌ؛ فإنَّه مِن المعلومِ بالعَقلِ أنَّ المتأخِّرَ يستفيدُ من المتقَدِّمِ دونَ العَكسِ، ومن المعلومِ في الدِّينِ أنَّ أفضَلَ الأولياءِ يَستفيدون من الأنبياءِ، وأفضَلُ الأولياءِ من هذه الأمَّةِ هم صالحو المُؤمِنين الذين صَحِبوا رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [742] ((الصفدية)) (1/247). .
وقال أيضًا: (فهؤلاء المُتفَلسِفةُ ما قَدَروا النُّبُوَّةَ حَقَّ قَدْرِها، وقد ضَلَّ بهم طوائِفُ من المتصوِّفةِ المدَّعين للتَّحقيقِ وغيرِهم، وابنُ عَرَبي وابنُ سَبعين ضلُّوا بهم؛ فإنَّهم اعتَقَدوا مذهَبَهم، وتصَوَّفوا عليه، ولهذا يقولُ ابنُ عَرَبي: إنَّ الأولياءَ أفضَلُ من الأنبياءِ!) [743] ((النبوات)) (2/713). .
- إفراطُ خَطيبٍ في مَدحِ سُلطانٍ مِن السَّلاطينِ:
قال أحمد شاكر: (كان من خُطَباءِ المساجِدِ التَّابِعين لوزارةِ الأوقافِ خطيبٌ فَصيحٌ مُتكَلِّمٌ مُقتَدِرٌ، هو الشَّيخُ محَّمد المهدي خطيبُ مسجِدِ عزبان، وكان السُّلطانُ حُسَين رحمه اللَّهُ مواظِبًا على صلاةِ الجُمُعةِ في حفلٍ فخمٍ جليلٍ يحضُرُه العُلَماءُ والوُزَراءُ والكُبَراءُ، فصَلَّى الجُمُعةَ يومًا ما بمسجِدِ المبدولي القريبِ مِن قَصرِ عابدين العامِرِ، وندَبَت وزارةُ الأوقافِ ذاك الخطيبَ لذلك اليومِ، وأراد الخطيبُ أن يمدَحَ عَظَمةَ السُّلطانِ، ولكِنْ خانَتْه فصاحتُه، وغلَبَه حُبُّ التَّغالي في المَدحِ، فزَلَّ زَلَّةً لم تَقُمْ له قائمةٌ من بعدِها؛ إذ قال أثناءَ خُطبتِه: «جاءه الأعمى فما عَبَس في وَجهِه وما تولَّى!» وكان من شُهودِ هذه الصَّلاةِ والدي الشَّيخُ محمَّد شاكِر وكيلُ الأزهَرِ سابقًا رحمه اللَّهُ. فقام بعدَ الصَّلاةِ يُعلِنُ النَّاسَ في المسجِدِ أنَّ صلاتَهم باطلةٌ، وأمَرَهم أن يعيدوا صلاةَ الظُّهرِ، فأعادوها، ذلك بأنَّ الخطيبَ كَفَر بما شَتَم رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تعريضًا لا تصريحًا؛ لأنَّ اللَّه سُبحانَه عَتَب على رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ جاءه ابنُ أمِّ مكتومٍ الأعمى، وهو يُحَدِّثُ بعضَ صناديدِ قُرَيشٍ يدعوهم إلى الإسلامِ، فأعرَض عن الأعمى قليلًا حتَّى يَفرُغَ من حديثِه، فأنزل اللَّهُ عتابَ رَسولِه في هذه السُّورةِ الكريمةِ. ثمَّ جاء هذا الخطيبُ الأحمَقُ الجاهِلُ، يريدُ أن يتمَلَّقَ عَظَمةَ السُّلطانِ رحمه اللَّهُ، فمدحه بما يوهِمُ السَّامِعَ أنَّه يريدُ إظهارَ منقَبةٍ لعظَمتِه، بالقياسِ إلى ما عاتب اللَّهُ عليه رسولَه، وأستغفِرُ اللَّهَ من حكايةِ هذا. فكان صُنعُ الخطيبِ المسكينِ تعريضًا برسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يرضى به مُسلِمٌ) [744] يُنظَر: ((كلمة الحق)) (ص: 149، 150). .

انظر أيضا: