موسوعة الأخلاق والسلوك

ثاني عشَرَ: أخطاءٌ شائعةٌ حولَ الوَرَعِ


1- الامتناعُ عن الطَّيِّباتِ دونَ سَبَبٍ شَرعيٍّ توَرُّعًا:
 وهذا خطَأٌ؛ قال ابنُ عُثَيمين عِندَ تعرُّضِه لذِكرِ أمرِه سُبحانَه للمُرسَلين بالأكلِ من الطَّيِّباتِ: (يتفرَّعُ على هذا فائدةٌ: ذمُّ من امتنع عن الطَّيِّباتِ بدونِ سَبَبٍ شَرعيٍّ؛ فلو أنَّ إنسانًا بعدَ أن منَّ اللهُ على الأمَّةِ بالغنى وأنواعِ الثِّمارِ والفواكِهِ، قال: أنا لن آكُلَ هذه تورُّعًا لا لعَدَمِ الرَّغبةِ؛ فإنَّه قد أخطأ، وعَمَلُه خِلافُ عَمَلِ السَّلَفِ الصَّالحِ؛ لأنَّ السَّلَفَ الصَّالحَ لَمَّا فتحوا البلادَ صاروا يأكُلون ويَشرَبون أكلًا وشُربًا لا يعرِفونه في عهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمن امتنع عن الطَّيِّباتِ بغيرِ سَبَبٍ شرعيٍّ فهو مذمومٌ رادٌّ لمنَّةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ عليه، ومن المعلومِ بالعقلِ أنَّ ردَّ مِنَّةِ ذي المنَّةِ إساءةُ أدبٍ؛ فلو أنَّ رجُلًا من الكُرَماءِ أهدى إليك هديَّةً ورَدَدْتَها، فإنَّ هذا يُعتَبَرُ سُوءَ خُلُقٍ وأدَبٍ) [9557] ((شرح الأربعين النووية)) (ص: 147-148). .
2- ما يَقَعُ من التَّشدُّدِ والغُلُوِّ بدَعوى الوَرَعِ:
وفي هذا يقولُ ابنُ القَيِّمِ: (وأمَّا تعريضُ الأمرِ والنَّهيِ للتشديدِ الغالي فهو كمَن ... يتشدَّدُ في الوَرَعِ الغالي؛ حتى لا يأكُلَ شيئًا من طعامِ عامَّةِ المُسلِمين خشيةَ دُخولِ الشُّبُهاتِ عليه، ولقد دخل هذا الوَرَعُ الفاسِدُ على بعضِ العُبَّادِ الذين نقَص حَظُّهم من العِلمِ، حتى امتنع أن يأكُلَ شيئًا من بلادِ الإسلامِ، وكان يتقوَّتُ بما يُحمَلُ إليه من بلادِ النَّصارى ويَبعَثُ بالقَصدِ لتحصيلِ ذلك! فأوقعه الجهلُ المُفرِطُ والغُلُوُّ الزَّائدُ في إساءةِ الظَّنِّ بالمُسلِمين وحُسنِ الظَّنِّ بالنَّصارى، نعوذُ باللهِ من الخِذلانِ!) [9558] ((الوابل الصيب)) (ص: 14). .
3- الاعتقادُ بأنَّ الوَرَعُ هو من بابِ التَّركِ فقط، فلا وَرَعَ إلَّا في تَركِ الحرامِ:
 وهذا اعتقادٌ خطَأٌ، وقد بَيَّنَ ابنُ تَيميَّةَ أنَّه من الجهاتِ التي يَقَعُ الغَلَطُ بسَبَبِها في تحقيقِ الوَرَعِ؛ قال ابنُ تَيميَّةَ: (وهذا يُبتلى به كثيرٌ من المتدَيِّنةِ المتوَرِّعةِ؛ ترى أحدَهم يتورَّعُ عن الكَلِمةِ الكاذبةِ، وعن الدِّرهَمِ فيه شُبهةٌ؛ لكونِه من مالِ ظالمٍ أو معاملةٍ فاسدةٍ، ويتورَّعُ عن الرُّكونِ إلى الظَّلَمةِ؛ من أجْلِ البِدَعِ في الدِّينِ، وذوي الفُجورِ في الدُّنيا، ومع هذا يتركُ أمورًا واجبةً عليه إمَّا عينًا، وإمَّا كفايةً وقد تعيَّنَت عليه؛ من صِلةِ رحمٍ، وحَقِّ جارٍ، ومسكينٍ وصاحِبٍ، ويتيمٍ وابنِ سبيلٍ، وحِقِّ مُسلِمٍ، وذي سُلطانٍ، وذي عِلمٍ، وعن أمرٍ بمعروفٍ، ونهيٍ عن مُنكَرٍ، وعن الجهادِ في سبيلِ اللهِ، إلى غيرِ ذلك ممَّا فيه نفعٌ للخَلقِ في دينِهم ودُنياهم ممَّا وجب عليه، أو يفعَلُ ذلك لا على وجهِ العبادةِ لله تعالى، بل من جهةِ التَّكليفِ ونحوِ ذلك. وهذا الوَرَعُ قد يوقِعُ صاحِبَه في البِدَعِ الكِبارِ؛ فإنَّ وَرَعَ الخوارِجِ والرَّوافِضِ والمعتزلةِ ونحوِهم، من هذا الجنسِ، تورَّعوا عن الظُّلمِ وعمَّا اعتَقَدوه ظُلمًا من مخالطةِ الظَّلَمةِ في زَعمِهم، حتى تركوا الواجباتِ الكِبارَ من الجُمُعةِ والجماعةِ، والحَجِّ والجِهادِ، ونصيحةِ المُسلِمين والرَّحمةِ لهم، وأهلُ هذا الوَرَعِ ممَّن أنكر عليهم الأئمَّةُ، كالأئمَّةِ الأربعةِ، وصار حالُهم يُذكَرُ في اعتقادِ أهلِ السَّنةِ والجماعةِ) [9559] ((مجموع الفتاوى)) (20/137). .
4- أن يلحَظَ المتوَرِّعُ جهةَ فَسادِ الشَّيءِ ممَّا يقتضي تركَه ويَغفُلُ عمَّا يعارِضُه من الصَّلاحِ الرَّاجِحِ:
 وهذا خطأٌ [9560] ((مجموع الفتاوى)) (20/142). . قال ابنُ تَيميَّةَ: (تمامُ الوَرَعِ أن يعلَمَ الإنسانُ خَيرَ الخيرَينِ وشَرَّ الشَّرَّينِ، ويعلَمَ أنَّ الشَّريعةَ مبناها على تحصيلِ المصالحِ وتكميلِها، وتعطيلِ المفاسِدِ وتقليلِها، وإلَّا فمن لم يوازِنْ ما في الفِعلِ والتَّركِ من المصلحةِ الشَّرعيَّةِ والمفسدةِ الشَّرعيَّةِ، فقد يدَعُ واجباتٍ ويفعَلُ محرَّماتٍ، ويرى ذلك من الوَرَعِ كمن يَدَعُ الجهادَ مع الأمراءِ الظَّلَمةِ ويرى ذلك وَرَعًا، ويَدَعُ الجُمُعةَ والجماعةَ خَلفَ الأئمَّةِ الذين فيهم بدعةٌ أو فجورٌ، ويرى ذلك من الوَرَعِ، ويمتَنعُ عن قبولِ شهادةِ الصَّادِقِ وأخْذِ عِلمِ العالمِ؛ لِما في صاحِبِه من بدعةٍ خفيَّةٍ، ويرى تَركَ قَبولِ سماعِ هذا الحقِّ الذي يجبُ سماعُه، من الوَرَعِ) [9561] ((مجموع الفتاوى)) (10/ 513). .

انظر أيضا: