موسوعة الأخلاق والسلوك

حادِيَ عَشرَ: مسائِلُ مُتفرِّقةٌ


ضوابِطُ في النَّصيحةِ:
1- الإخلاصُ في النَّصيحةِ:
على النَّاصِحِ أن يرجوَ بنصيحتِه وَجهَ اللهِ تبارَك وتعالى، فلا يقصِدَ بنصيحتِه الأغراضَ الدُّنيويَّةَ مِن رِياءٍ وسُمعةٍ، وحُبِّ شُهرةٍ وغَيرِها، أو عَيبَ المنصوحِ والحَطَّ مِن قَدرِه؛ قال تعالى: أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر: 3] ، وقال سبحانَه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 5] ، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لكُلِّ امرِئٍ ما نوى)) [9239] رواه مطولًا البخاري (1) واللفظ له، ومسلم (1907) من حديثِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه. .
2- العِلمُ بما ينصَحُ به:
الذي يقومُ بالنَّصيحةِ لا ينصَحُ في أمرٍ يجهَلُه، بل لا بُدَّ أن يكونَ عالِـمًا بما ينصَحُ به؛ قال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] .
3- ألَّا يجهَرَ بنصيحتِه:
بل ينبغي أن يُسِرَّ بنصيحتِه للمنصوحِ له، فلا ينصَحُه أمامَ الملأِ؛ قال الشَّافعيُّ:
تعمَّدْني بنُصحِك في انفِرادي
وجنِّبْني النَّصيحةَ في الجماعَهْ
فإنَّ النُّصحَ بَينَ النَّاسِ نَوعٌ
مِن التَّوبيخِ لا أرضى استِماعَهْ
وإن خالَفْتَني وعَصَيتَ قولي
فلا تجزَعْ إذا لم تُعطَ طاعَةْ [9240] ((ديوان الشافعي)) (ص: 74).
وقال أيضًا: (مَن وعَظ أخاه سِرًّا فقد نصَحه وزانَه، ومَن وعَظه علانِيةً فقد فضَحه وشانَه) [9241] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (9/ 140)، ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/182). .
وعن سُلَيمانُ الخوَّاصُ قال: (مَن وعَظ أخاه فيما بَينَه وبَينَه فهي نصيحةٌ، ومَن وعَظه على رُؤوسِ النَّاسِ فإنَّما فضَحه) [9242] ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن أبي الدنيا (ص: 61). .
وقال ابنُ رَجبٍ: (كان السَّلفُ إذا أرادوا نصيحةَ أحدٍ وعَظوه سِرًّا، حتَّى قال بعضُهم: مَن وعَظ أخاه فيما بَينَه وبَينَه فهي نصيحةٌ، ومَن وعَظه على رُؤوسِ النَّاسِ فإنَّما وبَّخه) [9243] ((جامع العلوم والحكم)) (1/224). .
وقال ابنُ حَزمٍ: (إذا نصَحْتَ فانصَحْ سِرًّا لا جَهرًا، أو بتعريضٍ لا بتصريحٍ، إلَّا لمَن لا يفهَمُ، فلا بُدَّ مِن التَّصريحِ له) [9244] ((رسائل ابن حزم)) (ص: 364). .
وقال أحمَد شوقي: (آفةُ النُّصحِ أن يكونَ جِدالًا، وأذاه أن يكونَ جِهارًا) [9245] ((أسواق الذهب)) (ص: 143). .
وعن سُفيانَ قال: (قلْتُ لمِسعَرٍ: تُحِبُّ أن يُخبِرَك رجُلٌ بعُيوبِك؟ قال: أمَّا أن يجيءَ إنسانٌ فيُوبِّخَني بها فلا، وأمَّا أن يجيءَ ناصِحٌ فنعَم) [9246] ((روضة العقلاء)) لابن حبان (ص: 196). .
وعن إبراهيمَ بنِ بشَّارٍ الرَّماديِّ قال: (قلْتُ لسُفيانَ بنِ عُيَينةَ: أيسُرُّك أن يُهدى إليك عَيبُك؟ قال: أمَّا مِن صَديقٍ فنعَم، وأمَّا مِن مُوبِّخٍ أو شامِتٍ فلا) [9247] ((شعب الإيمان)) للبيهقي (10/ 107). .
وقال ابنُ المُبارَكِ: (كان الرَّجلُ إذا رأى مِن أخيه ما يكرَهُ أمَره في سِترٍ، ونَهاه في سِترٍ، فيُؤجَرُ في سِترِه، ويُؤجَرُ في نَهيِه، فأمَّا اليومَ فإذا رأى أحدٌ مِن أحدٍ ما يكرَهُ استغضَب أخاه، وهتَك سِترَه) [9248] ((روضة العقلاء)) لابن حبان (ص: 197). .
4- مُراعاةُ الوَقتِ والمكانِ المُناسِبِ.
5- اللِّينُ والرِّفقُ في النَّصيحةِ:
أن تكونَ النَّصيحةُ بالرِّفقِ واللِّينِ والأسلوبِ الحَسنِ، معَ انتِقاءِ الألفاظِ المُحبَّبةِ، وعَدمِ استِخدامِ الأساليبِ المُنفِّرةِ؛ قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] .
وقال سُبحانَه: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء: 53] .
وعن ثابِتٍ أنَّ صِلةَ بنَ أشيَمَ وأصحابَه أبصَروا رجُلًا قد أسبَل إزارَه، فأراد أصحابُه أن يأخُذوه بألسِنتِهم، فقال صِلةُ: (دَعوني أكفيكُموه، فقال: يا بنَ أخي، إنَّ لي إليك حاجةً، قال: فما ذاك يا عَمِّ؟ قال: ترفَعُ إزارَك، قال: نعَم، ونُعمةُ عَينٍ! فقال لأصحابِه: هذا كان مِثلَ لو أخذْتُموه بشِدَّةٍ؟ قال: لا أفعَلُ، وفعَل) [9249] رواه ابنُ أبي الدنيا في ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (48). .
وقال أحمد شوقي: (النُّصحُ ثقيلٌ فلا تجعَلْه جَدَلًا، ولا تُرسِلْه جَبلًا) [9250] ((أسواق الذهب)) (ص: 124). .
6- ألَّا تكونَ النَّصيحةُ على شَرطِ القَبولِ [9251] ((رسائل ابن حزم)) (ص: 364). .
نصيحةُ الحُكَّامِ:
إنَّ النَّصيحةَ الأصلُ فيها أن تكونَ سِرًّا، ويتأكَّدُ هذا الأصلُ معَ الحاكِمِ، فلا يُنصَحُ علانِيةً على الملأِ، سُئِل ابنُ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما عن أمرِ السُّلطانِ بالمعروفِ، ونَهيِه عن المُنكَرِ، فقال: (فإن كنْتَ لا بُدَّ فاعِلًا ففيما بَينَك وبَينَه) [9252] رواه ابنُ أبي شيبة (38462). .
وقد ثبَت أنَّه قيل لأسامةَ بنِ زيدٍ رضِي اللهُ عنهما: (ألا تدخُلُ على عُثمانَ فتُكلِّمُه؟ فقال: أترَونَ أنِّي لا أكلِّمُه إلَّا أُسمِعُكم؟! واللهِ لقد كلَّمْتُه فيما بَيني وبَينَه ما دونَ أن أفتتِحَ أمرًا لا أحِبُّ أن أكونَ أوَّلَ مَن فتَحه) [9253] أخرجه البخاري (3267) ومسلم (2989). ، وفي روايةٍ: (إنِّي أُكلِّمُه في السِّرِّ)، أي: دونَ أن أفتَح بابًا مِن أبوابِ الفِتنِ، حاصِلُه: أُكلِّمُه طَلبًا للمَصلَحةِ، لا تهييجًا للفِتنةِ؛ لأنَّ المُجاهَرةَ على الأمراءِ بالإنكارِ يكونُ فيه نَوعُ القِيامِ عليهم؛ لأنَّ فيه تَشنيعًا عليهم يُؤدِّي إلى افتِراقِ الكلمةِ وتشتيتِ الجماعةِ [9254] ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) للعيني (15/ 166). .
قال القاضي عِياضٌ: (وقولُه بَعدَ: «دونَ أن أفتَح بابًا لا أحِبُّ أن أكونَ أوَّلَ مَن فتَحه»: يعني في المُجاهَرةِ بالنَّكيرِ، والقِيامِ بذلك على الأمراءِ، وما يُخشى مِن سوءِ عُقباه، كما تولَّد مِن إنكارِهم جِهارًا على عُثمانَ بَعدَ هذا، وما أدَّى إلى سَفكِ دَمِه واضطِرابِ الأمورِ بَعدَه، وفيه التَّلطُّفُ معَ الأمراءِ، وعَرضُ ما يُنكَرُ عليهم سِرًّا، وكذلك يلزَمُ معَ غَيرِهم مِن المُسلِمينَ ما أمكَن ذلك؛ فإنَّه أولى بالقَبولِ، وأجدَرُ بالنَّفعِ، وأبعَدُ لهَتكِ السِّترِ وتحريكِ الأنَفةِ) [9255] ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) (8/ 538). .
(وهكذا يجبُ أن يُعاتَبَ الكُبَراءُ والرُّؤَساءُ؛ يُعظَّمونَ في الملأِ إبقاءً لحُرمتِهم، ويُنصَحونَ في الخلاءِ أداءً لِما يجِبُ مِن نُصحِهم) [9256] ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) للقرطبي (6/ 619). .
 وقد (عرَّفهم أسامةُ رضِي اللهُ عنه بأنَّه لا يُداهِنُ أحدًا ولو كان أميرًا، بل ينصَحُ له في السِّرِّ جُهدَه) [9257] ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) للعيني (24/ 204). .
قال ابنُ بازٍ: (ليس مِن مَنهَجِ السَّلفِ التَّشهيرُ بعُيوبِ الوُلاةِ، وذِكرُ ذلك على المنابِرِ؛ لأنَّ ذلك يُفضي إلى الفوضى وعَدمِ السَّمعِ والطَّاعةِ في المعروفِ، ويُفضي إلى الخَوضِ الذي يضُرُّ ولا ينفَعُ، ولكنَّ الطَّريقةَ المُتَّبَعةَ عندَ السَّلفِ: النَّصيحةُ فيما بَينَهم وبَينَ السُّلطانِ، والكتابةُ إليه، أو الاتِّصالُ بالعُلَماءِ الذين يتَّصِلونَ به حتَّى يُوجَّهَ إلى الخيرِ) [9258] ((مجموع فتاوى ابن باز)) (8/ 210). .
المُسارَعةُ في بَذلِ النَّصيحةِ:
ينبغي المُسارَعةُ في بَذلِ النَّصيحةِ وعَدمُ التَّواني والتَّأخُرِ فيها؛ خاصَّةً إذا ترتَّب على التَّأخُّرِ في بَذلِها فَواتُ أمرٍ دينيٍّ، أو وُقوعُ ما لا تُحمَدُ عُقباه؛ فقولُه تعالى: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص: 20] فيه المُسارَعةُ إلى النُّصحِ في الدِّماءِ، وكذلك المُسارَعةُ في كُلِّ أمرٍ دينيٍّ يُخافُ فَوتُه؛ إذ ليست الأناةُ محمودةً في كُلِّ شيءٍ، بل لها مواطِنُ تُحمَدُ فيها، ومواطِنُ تُذَمُّ فيها [9259] يُنظر: ((شجرة المعارف والأحوال)) للعز بن عبد السلام (ص: 197). .

انظر أيضا: