موسوعة الأخلاق والسلوك

أ- مِن قِصَصِ الأنبياءِ والمُرسَلينَ والأُمَمِ السَّابقةِ


1- حَكى القُرآنُ الكريمُ قِصَّةً تُبَيِّنُ قوَّةَ نَبيِّ اللَّهِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ في الحَقِّ، وتَبليغَه بقوَّةٍ في الحُجَّةِ والمَنطِقِ لأبيه وقَومِه، وهذه القِصَّةُ أتَت بكلماتٍ سَهلةٍ وسَردٍ مَنطِقيٍّ يسيرٍ يفهَمُه كُلُّ مَن قَرَأ القِصَّةَ أو سَمِعَها، وتُبَيِّنُ كيف نَصَرَ اللَّهُ الحَقَّ وأهلَه في نِهايةِ الأمرِ، فقال الحَقُّ سُبحانَه: وَلقد آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لقد كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لقد عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ [الأنبياء: 51 - 72] . وفي هذه الآياتِ يَظهَرُ أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ غَلَبَ قَومَه بالحُجَّةِ القاهرةِ وبقوَّةِ الحَقِّ الذي عِندَه، ولم يجِدوا مَخلَصًا مِنه إلَّا بإهلاكِه، وقد جَرَتِ العادةُ بأنَّ المُبطِلَ إذا أُفحِمَ بالدَّليلِ لَجَأ إلى ما عِندَه مِنَ القوَّةِ؛ ليستَعمِلَها ضِدَّ الحَقِّ، ولَكِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ أصحابَ الحَقِّ بنَصرٍ مِن عِندِه سُبحانَه [7820] يُنظَر: ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (17/105)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/162). .
2- قوَّةُ نَبيِّ اللَّهِ نوحٍ عليه السَّلامُ في الحَقِّ وصَبرُه وجَلَدُه على دَعوةِ قَومِه مَعَ طولِ مُكثِه فيهم؛ فقد لَبثَ فيهم ألفَ سَنةٍ إلَّا خَمسينَ عامًا؛ قال تعالى: وَلقد أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَاقَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ * وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ * حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [هود: 25 - 40] .
3- وقال تعالى عن نَبيِّه هودٍ عليه السَّلامُ: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ * يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ * قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ * وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [هود: 50 - 58] .
فنَبيُّ اللَّهِ هودٌ عليه السَّلامُ وهو رَجُلٌ واحِدٌ، يُخاطِبُ أُمَّةً عَظيمةً بهذا الخِطابِ غَيرَ جَزِعٍ ولا فَزِع ولا خوَّارٍ، بل هو واثِقٌ بما قاله جازِمٌ به، فأشهَدَ اللَّهَ أوَّلًا على بَراءَتِه مِن دينِهم وما هم عليه إشهادَ واثِقٍ به مُعتَمِدٍ عليه، مُعلِمٍ لقَومِه أنَّه وليُّه وناصِرُه وغَيرُ مُسَلِّطٍ لهم عليه، ثُمَّ أشهدَهم إشهادَ مُجاهِرٍ لهم بالمُخالَفةِ أنَّه بَريءٌ مِن دينِهم وآلهَتِهمُ التي يوالونَ عليها ويُعادونَ عليها ويبذُلونَ دِماءَهم وأموالَهم في نُصرَتِهم لها، ثُمَّ أكَّدَ ذلك عليهم بالاستِهانةِ بهم واحتِقارِهم وازدِرائِهم، ولو يجتَمِعونَ كُلُّهم على كيدِه وشِفاءِ غَيظِهم مِنه، ثُمَّ يُعاجِلونَه ولا يُمهِلونَه، ثُمَّ قَرَّرَ دَعوتَهم أحسَنَ تَقريرٍ، وبَيَّنَ أنَّ رَبَّه تعالى ورَبَّهمُ الذي نَواصيهم بيدِه هو وليُّه ووكيلُه القائِمُ بنَصرِه وتَأييدِه، وأنَّه على صِراطٍ مُستَقيمٍ، فلا يخذُلُ مَن تَوكَّلَ عليه وأقَرَّ به، ولا يُشمِتُ به أعداءَه [7821] يُنظَر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز الحنفي (1/ 50، 51). .
4- قوَّةُ الذين أُلقُوا في أُخدودِ النَّارِ وثَباتُهم على الحَقِّ، وقد حَكى اللَّهُ سُبحانَه خَبرَهم في القُرآنِ، فقال: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج: 4 - 8] .
وقد وردت قصَّتُهم في روايةِ صُهَيبٍ الرُّوميِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: (كان مَلِكٌ فيمن كان قبلَكم، وكان له ساحرٌ، فلمَّا كَبِرَ قال للمَلِكِ: إني قد كَبِرتُ فابعَثْ إليَّ غُلامًا أعلِّمُه السِّحرَ، فبعث إليه غلامًا يُعَلِّمُه، فكان في طريقِه إذا سلك راهبٌ، فقعد إليه وسمعَ كَلامَه فأعجبه، فكان إذا أتى السَّاحِرَ مَرَّ بالرَّاهِبِ وقعَد إليه، فإذا أتى السَّاحِرَ ضَرَبه، فشكا ذلك إلى الرَّاهِبِ، فقال: إذا خَشِيتَ السَّاحِرَ، فقل: حبَسَني أهلي، وإذا خَشِيتَ أهلَك فقُلْ: حَبَسَني السَّاحِرُ، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابَّةٍ عظيمةٍ قد حَبَسَت النَّاسَ، فقال: اليومَ أعلَمُ آلسَّاحِرُ أفضَلُ أم الرَّاهِبُ أفضَلُ؟ فأخذ حَجَرًا، فقال: اللَّهُمَّ إن كان أمرُ الرَّاهِبِ أحَبَّ إليك من أمرِ السَّاحِرِ فاقتُلْ هذه الدَّابَّةَ حتى يمضيَ النَّاسُ، فرماها فقتلها، ومضى النَّاسُ، فأتى الرَّاهِبَ فأخبره، فقال له الرَّاهِبُ: أي بُنَيَّ، أنت اليومَ أفضَلُ مني؛ قد بلغ من أمرِك ما أرى! وإنَّك ستُبتلى، فإن ابتُلِيتَ فلا تدُلَّ علَيَّ. وكان الغلامُ يُبرِئُ الأكمَهَ والأبرَصَ، ويُداوي النَّاسَ من سائِرِ الأدواءِ، فسَمِع جليسٌ للمَلِكِ كان قد عَمِيَ، فأتاه بهدايا كثيرةٍ، فقال: ما هاهنا لك أجمعُ، إن أنت شفيتَني، فقال: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي اللهُ، فإن أنت آمنتَ باللهِ دَعَوتُ اللهَ فشفاك، فآمن باللهِ فشفاه اللهُ، فأتى المَلِكَ فجَلَس إليه كما كان يجلسُ، فقال له المَلِكُ: من رَدَّ عليك بصَرَك؟ قال: رَبِّي، قال: ولك ربٌّ غيري؟ قال: ربِّي وربُّك اللهُ، فأخذه، فلم يَزَلْ يُعَذِّبُه حتى دَلَّ على الغلامِ، فجيءَ بالغُلامِ، فقال له المَلَكُ: أي بُنَيَّ، قد بلَغَ من سِحرِك ما تبرِئُ الأكمَهَ والأبرَصَ، وتفعَلُ وتفعَلُ! فقال: إنِّي لا أشفي أحدًا، إنما يشفي اللهُ، فأخذه فلم يَزَلْ يعذِّبُه حتى دَلَّ على الرَّاهِبِ، فجيءَ بالرَّاهِبِ، فقيل له: ارجِعْ عن دينِك، فأبى، فدعا بالمِئشارِ، فوُضِع المِئشارُ في مَفرِقِ رأسِه، فشَقَّه حتى وقع شقَّاه! ثمَّ جيء بجليسِ الملكِ فقيل له: ارجِعْ عن دينِك، فأبى، فوَضَع المِئشارَ في مَفرِقِ رأسِه، فشَقَّه به حتى وَقع شقَّاه! ثمَّ جيءَ بالغلامِ فقيل له: ارجِعْ عن دينِك، فأبى، فدفَعَه إلى نَفَرٍ من أصحابِه، فقال: اذهَبوا به إلى جَبَلِ كذا وكذا، فاصعَدوا به الجَبَلَ، فإذا بلغتُم ذِروتَه، فإن رجع عن دينِه وإلَّا فاطرَحوه، فذهبوا به فصَعِدوا به الجَبَلَ، فقال: اللَّهُمَّ اكفِنيهم بما شِئتَ، فرَجَف بهم الجَبَلُ فسقطوا، وجاء يمشي إلى المَلِكِ، فقال له الملِكُ: ما فعل أصحابُك؟ قال: كفانيهم اللهُ! فدفعه إلى نفَرٍ من أصحابِه، فقال: اذهبوا به فاحمِلوه في قُرقورٍ [7822] قُرْقور: هو السَّفينةُ العظيمةُ. يُنظَر: ((النهاية)) لابن الأثير (4/48). ، فتوسَّطوا به البَحرَ، فإن رجَع عن دينِه وإلَّا فاقِذفوه، فذَهَبوا به، فقال: اللَّهُمَّ اكفِنيهم بما شِئتَ، فانكفأت بهم السَّفينةُ فغَرِقوا، وجاء يمشي إلى المَلِكِ، فقال له الملِكُ: ما فعل أصحابُك؟ قال: كفانيهم اللهُ! فقال للمَلِكِ: إنَّك لستَ بقاتِلي حتى تفعَلَ ما آمُرُك به. قال: وما هو؟ قال: تجمَعُ النَّاسَ في صَعيدٍ واحدٍ، وتَصلُبُني على جِذعٍ، ثمَّ خُذْ سَهمًا مِن كِنانتي، ثمَّ ضَعِ السَّهمَ في كَبِدِ القوسِ [7823] كَبْدُ القَوسِ: أي: وسَطُها. يُنظَر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (4/209). ، ثمَّ قُلْ: باسمِ اللهِ ربِّ الغُلامِ، ثمَّ ارْمِني؛ فإنَّك إذا فعَلْتَ ذلك قتَلْتَني. فجَمَع النَّاسَ في صعيدٍ واحدٍ، وصَلَبه على جِذعٍ، ثمَّ أخَذَ سَهمًا من كِنانتِه، ثمَّ وَضَع السَّهمَ في كَبِدِ القوسِ، ثمَّ قال: باسمِ اللهِ ربِّ الغلامِ، ثمَّ رماه، فوقَع السَّهمُ في صُدْغِه [7824] صُدغُه: هو ما بَيْنَ العَينِ إلى شَحمةِ الأذُنِ. يُنظَر: ((دليل الفالحين)) لابن علان (1/168). ، فوَضَع يَدَه في صُدْغِه في مَوضِعِ السَّهمِ، فمات. فقال النَّاسُ: آمنَّا بربِّ الغلامِ، آمنَّا بربِّ الغلامِ، آمنَّا بربِّ الغلامِ! فأُتِيَ المَلِكُ، فقيل له: أرأيتَ ما كُنتَ تَحْذَرُ؟ قد -واللهِ- نَزَل بك حَذَرُك، قد آمن النَّاسُ! فأمر بالأُخْدودِ في أفواهِ السِّكَكِ [7825] أفواهُ السِّكَكِ: أي: أبوابُ الطُّرُقِ. يُنظَر: ((شرح السيوطي على مسلم)) (6/306). ، فخُدَّتْ، وأضرمَ النِّيرانَ. وقال: مَن لم يرجِعْ عن دينِه فأَحْمُوه [7826] فأحْمُوه: أي: ارمُوه. يُنظَر: ((شرح السيوطي على مسلم)) (6/306). فيها، أو قيل له: اقتَحِمْ. ففَعَلوا، حتَّى جاءت امرأةٌ ومعها صبيٌّ لها، فتقاعَسَت [7827] فتقاعَسَت: أي: توقَّفَت، ولزِمَت موضِعَها. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (18/133). أن تقَعَ فيها، فقال لها الغُلامُ: يا أمَّهْ اصْبِري؛ فإنَّك على الحقِّ) [7828] أخرجه مسلم (3005). .
5- ذَكرَ القُرآنُ قِصَّةَ سَحَرةِ فِرعَونَ وكيف كانوا كَفَرةً جاؤوا لهَزيمةِ الحَقِّ الذي مَعَ موسى عليه السَّلامُ، ثُمَّ لَمَّا رَأوا الآياتِ التي هم أعلَمُ النَّاسِ، وعَلِموا أنَّ ما جاءَ به موسى ليس سِحرًا ولَكِنَّه قوَّةٌ خارِقةٌ مِنَ اللَّهِ، فتَحَوَّلوا إلى مُؤمِنينَ أقوياءَ في إيمانِهم بالحَقِّ الذي عَلِموه وواجَهوا بَطشَ فِرعَون وصَبَروا، فقال تعالى عنهم: وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [الأعراف: 113 - 126] ، فلَمَّا تَمَكَّنَ الإيمانُ مِن قُلوبِهم عَلِموا أنَّ عُقوبةَ الدُّنيا أسهَلُ مِن عُقوبةِ الآخِرة وأقَلُّ بَقاءً، وأنَّ ما يحصُلُ لهم في الآخِرةِ مِن ثَوابِ الإيمانِ أعظَمُ وأنفَعُ وأكثَرُ بَقاءً، ثُمَّ إنَّ السَّحَرةَ الذين آمَنوا دَعَوا لأنفُسِهم بالوفاةِ على الإسلامِ؛ إيذانًا بأنَّهم غَيرُ راغِبينَ في الحَياةِ ولا مُبالينَ بوعيدِ فِرعَونَ، وأنَّ همَّتَهم لا تَرجو إلَّا النَّجاةَ في الآخِرةِ، والفوزَ بما عِندَ اللَّهِ [7829] يُنظَر: ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (9/56). .

انظر أيضا: