موسوعة الأخلاق والسلوك

سابعًا: مظاهِرُ الفَصاحةِ وصُوَرُها


للفَصاحةِ مَظاهِرُ وصُوَرٌ عديدةٌ، وكُلَّما استطاع الإنسانُ توظيفَ منطوقِه الحسَنِ وكَلِماتِه البليغةِ في المعاني الجليلةِ، عَظُمَت قيمةُ بلاغتِه، وارتَفَع شأنُ فصاحتِه، ونذكُرُ هنا بعضَ الأمثلةِ النَّافعةِ التي يمكِنُ استخدامُ الفَصاحةِ فيها؛ فمن ذلك:
1- تقريرُ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ:
ومنها قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (ألحِقوا الفرائِضَ بأهلِها، فما بَقِيَ فلأَولى رَجُلٍ ذَكَرٍ) [7364] أخرجه البخاري (6737) واللفظ له، ومسلم (1615) من حديثِ عبد اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
قال القَسْطلَّانيُّ: (جاءت العبارة في أعلى دَرَجاتِ الفَصاحةِ، وأسنى غاياتِ البلاغةِ... المعنى: نيطوها بهم وألصِقوها بمُستحَقِّيها) [7365] ((إرشاد الساري)) (9/417). .
2- إيجازُ واختصارُ المعاني:
كقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الدُّنيا سِجنُ المُؤمِنِ)) [7366] أخرجه مسلم (2956) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه .
(شبَّه الدُّنيا بالسِّجنِ للمُؤمِنِ؛ من حيثُ قَصَر فيها خَطوَه عن اللَّذَّاتِ، وكَبَح لجامَه عن الشَّهَواتِ، وحَصَر نَفسَه عن التَّسرُّعِ إلى ما تدعو إليه الدَّواعي المُخزيةُ، والأهواءُ المُرْديةُ، وكان زمامَ نَفسِه وخِطامَها وهاديَها وإمامَها، خائفًا خوفَ الجاني المرعوبِ، والطَّريدِ المطلوبِ، في عُصبةٍ عَمِلوا للمَعادِ، وفَطِنوا للزَّادِ، تحسَبُهم من طولِ سُجودِهم أمواتًا، ومن طُولِ قيامِهم نباتًا) [7367] ((المجازات النبوية)) للشريف الرضي (ص: 35). .
3- الدُّعاءُ والتَّضَرُّعُ إلى اللهِ سُبحانَه إذا حَصَل بغيرِ تكَلُّفٍ:
ومن ذلك ما جاء من دُعائِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اللَّهُمَّ آتِ نفسي تقواها، وزَكِّها أنت خيرُ مَن زَكَّاها، أنت وَلِيُّها ومَولاها، اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن عِلمٍ لا ينفَعُ، ومِن قَلبٍ لا يخشَعُ، ومِن نفسٍ لا تشبَعُ)) [7368] أخرجه مسلم (2722) من حديثِ زيدِ بنِ أرقَمَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال النَّووي: (هذا الحديثُ وغيرُه من الأدعيةِ المسجوعةِ دليلٌ لِما قاله العُلَماءُ: إنَّ السَّجعَ المذمومَ في الدُّعاءِ هو المتكَلَّفُ؛ فإنَّه يُذهِبُ الخُشوعَ والخُضوعَ والإخلاصَ، ويُلهي عن الضَّراعةِ والافتقارِ وفراغِ القَلبِ، فأمَّا ما حصل بلا تكَلُّفٍ ولا إعمالِ فِكرٍ؛ لكَمالِ الفَصاحةِ ونحوِ ذلك، أو كان محفوظًا؛ فلا بأسَ به، بل هو حَسَنٌ) [7369] ((شرح النووي على مسلم)) (17/41). .
4- إفادةُ السَّائِلِ وإجابتُه بأفصَحِ عِبارةٍ وأبلَغِها:
عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ رجُلًا سأله: ما يَلبَسُ المحرِمُ؟ فقال: ((لا يَلبَسُ القميصَ، ولا العِمامةَ، ولا السَّراويلَ، ولا البُرْنُسَ [7370] البُرنُسُ: قلَنْسُوةٌ طويلةٌ، وكان النُّسَّاكُ يَلبَسونها في صَدرِ الإسلامِ. وقد تبَرْنَسَ الرَّجُلُ: إذا لَبِسَه. يُنظَر: ((الصحاح)) للجوهري (3/908). ، ولا ثوبًا مَسَّه الوَرْسُ [7371] الوَرْسُ: نَبتٌ أصفَرُ يُصبَغُ به. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث)) لابن الأثير (5/173). أو الزَّعْفرانُ، فإنْ لم يجِدِ النَّعلينِ فلْيَلبَسِ الخُفَّين، ولْيَقطَعْهما حتَّى يكونا تحتَ الكعبَينِ)) [7372] أخرجه البخاري (134) واللفظ له، ومسلم (1177). .
قال القَسْطَلَّانيُّ: (فإنْ قُلتَ: السُّؤالُ قد وقَع عمَّا يُلبَسُ، فكيف أجابه عليه السَّلامُ بما لا يُلبَسُ؟ أجيبَ: بأنَّ هذا من بديعِ كَلامِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وفصاحتِه؛ لأنَّ المتروكَ منحَصِرٌ بخِلافِ الملبوسِ؛ لأنَّ الإباحةَ هي الأصلُ، فحَصَر ما يُترَكُ ليُبَيِّنَ أنَّ ما سِواه مباحٌ) [7373] ((إرشاد الساري)) (1/ 224). .
5- الخَطابةُ، لا سِيَّما ما كان منها في المجامِعِ العظيمةِ، والأوقاتِ الشَّريفةِ:
ومنها خُطبتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الجامعةُ يومَ عَرَفةَ، التي قرَّر فيها قواعِدَ الإسلامِ؛ فقد جاء فيها: ((إنَّ دِماءَكم وأموالَكم حَرامٌ عليكم كحُرمةِ يَومِكم هذا في شَهرِكم هذا في بَلَدِكم هذا، ألا كُلُّ شيءٍ مِن أمرِ الجاهِليَّةِ تحتَ قَدَميَّ مَوضوعٌ، دِماءُ الجاهِليَّةِ مَوضوعةٌ، وإنَّ أوَّلَ دَمٍ أضَعُ مِن دِمائِنا دَمُ ابنِ رَبيعةَ بنِ الحارِثِ، كانَ مُستَرضِعًا في بَني سَعدٍ فقَتلَته هُذَيلٌ، ورِبا الجاهِليَّةِ مَوضوعٌ، وأوَّلُ رِبًا أضَعُ رِبانا رِبا عَبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ، فإنَّه مَوضوعٌ كلُّه، فاتَّقوا اللهَ في النِّساءِ؛ فإنَّكم أخَذتُموهنَّ بأمانِ اللهِ، واستَحلَلتُم فُروجَهنَّ بِكَلِمةِ اللهِ، ولكم عليهنَّ أن لا يوطِئنَ فُرُشَكم أحَدًا تَكرَهونَه، فإن فَعَلنَ ذلك فاضرِبوهنَّ ضَربًا غيرَ مُبَرِّحٍ، ولهنَّ عليكم رِزقُهنَّ وكِسوتُهنَّ بالمَعروفِ، وقد تَرَكتُ فيكم ما لن تَضِلُّوا بَعدَه إنِ اعتَصَمتُم به؛ كِتابَ اللهِ، وأنتم تُسألونَ عنِّي، فما أنتم قائِلونَ؟ قالوا: نَشهَدُ أنَّك قد بَلَّغتَ وأدَّيتَ ونَصَحتَ، فقالَ بإِصبَعِه السَّبَّابةِ يَرفَعُها إلى السَّماءِ ويَنكُتُها إلى النَّاسِ: اللَّهُمَّ اشهَدْ، اللَّهُمَّ اشهَدْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ)) [7374] أخرجه مسلم (1218) من حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
قال ابنُ عثيمين: (خَطَب النَّاسَ خُطبةً بليغةً قَرَّر فيها قواعِدَ الإسلامِ، وشيئًا كثيرًا من أحكامِه) [7375] ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) (7/287). .
6- خُطَبُ النَّوازِلِ؛ تثبيتًا للقُلوبِ، وبثًّا للطُّمَأنينةِ:
عن أبي النَّضرِ، عن كتابِ رَجُلٍ من أسلَمَ، من أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُقالُ له: عبدُ اللهِ بنُ أبي أَوفى، فكَتَب إلى عُمَرَ بنِ عُبَيدِ اللهِ حينَ سار إلى الحَروريَّةِ، يخبِرُه ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان في بعضِ أيَّامِه التي لقيَ فيها العَدُوَّ ينتَظِرُ حتى إذا مالت الشَّمسُ قام فيهم، فقال: يا أيُّها النَّاسُ، لا تتمَنَّوا لقاءَ العَدُوِّ، واسألوا اللهَ العافيةَ، فإذا لَقِيتُموهم فاصبِروا، واعلَموا أنَّ الجنَّةَ تحتَ ظِلالِ السُّيوفِ، ثمَّ قام النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال: اللَّهُمَّ مُنزِلَ الكتابِ، ومُجريَ السَّحابِ، وهازِمَ الأحزابِ، اهزِمْهم، وانصُرْنا عليهم)) [7376] أخرجه البخاري (2965، 2966)، ومسلم (1742) واللفظ له. .
(وهو من الكلامِ النَّفيسِ الجامِعِ الموجَزِ المُشتَمِلِ على ضُروبٍ من البلاغةِ مع الوجازةِ وعُذوبةِ اللَّفظِ؛ فإنَّه أراد الحَضَّ على الجهادِ، والإخبارَ بالثَّوابِ عليه، والحَضَّ على مقاربةِ العَدُوِّ واستعمالِ السُّيوفِ، والاجتماعِ حينَ الزَّحفِ حتى تصيرَ السُّيوفُ تُظِلُّ المتقاتِلين) [7377] ((فتح المنعم)) لموسى لاشين (7/102). .
7- المكاتَباتُ والرَّسائِلُ بالكلامِ المُفصِحِ عن المطلوبِ بأوجَزِ عِبارةٍ:
فقد جاء في كتابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى هِرقْلَ عظيمِ الرُّومِ: ((من محمَّدٍ رَسولِ اللهِ إلى هِرَقْلَ عظيمِ الرُّومِ، سلامٌ على من اتَّبع الهُدى، أمَّا بعدُ؛ فإنِّي أدعوك بدعايةِ الإسلامِ، أسلِمْ تَسلَمْ، وأسلِمْ يُؤتِك اللهُ أجْرَك مرَّتينِ...)) [7378] أخرجه البخاري (4553)، ومسلم (1773) من حديثِ أبي سفيانَ بنِ حَربٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال النَّوويُّ في ذِكرِه لفوائِدِ الحديثِ: (ومنها: استحبابُ البلاغةِ والإيجازِ، وتحرِّي الألفاظِ الجَزْلةِ في المكاتبةِ؛ فإنَّ قَولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ((أسلِمْ تَسلَمْ)) في نهايةٍ من الاختصارِ، وغايةٍ من الإيجازِ والبلاغةِ وجمعِ المعاني، مع ما فيه من بديعِ التَّجنيسِ، وشُمولِه لسلامتِه من خِزيِ الدُّنيا بالحَربِ والسَّبيِ والقَتلِ وأخْذِ الدِّيارِ والأموالِ، ومن عذابِ الآخِرةِ) [7379] ((شرح النووي على مسلم)) (12/108). .

انظر أيضا: