موسوعة الأخلاق والسلوك

عاشِرًا: مَسائِلُ مُتفَرِّقةٌ


الأصلُ أن يتوسَّطَ الدَّاعيةُ بَيْنَ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ، وقد يميلُ إلى ترهيبِ مَن غَلَب عليه الانحلالُ في الدِّينِ، وترغيبِ مَن غَلَب عليه الخوفُ والقنوطُ.
جوابٌ فيه توسُّطٌ واعتِدالٌ:
قال أبو العاليةِ السَّامي مُؤَدِّبُ وَلَدِ المأمونِ: (لَقِيَ رجُلٌ يحيى بنَ أكثَمَ وهو يومَئذٍ على قضاءِ القُضاةِ، فقال له: أصلحَ اللَّهُ القاضيَ، كم آكُلُ؟ قال: فوقَ الجوعِ ودونَ الشِّبَعِ، قال: فكم أضحَكُ؟ قال: حتَّى يُسفِرَ وَجهُك، ولا يعلوَ صوتُك، قال: فكم أبكي؟ قال: لا تَمَلَّ البُكاءَ من خشيةِ اللَّهِ تعالى، قال: فكم أُخفي من عَمَلي؟ قال: ما استَطَعْتَ، قال: فكم أُظهِرُ منه؟ قال: ما يقتدي بك البَرُّ الخَيِّرُ، ويؤمَنُ عليك قولُ النَّاسِ، فقال الرَّجُلُ: سبحانَ اللَّهِ، قولٌ قاطِنٌ، وعَمَلٌ ظاعِنٌ!) [514] ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (16/ 293). .
توسُّطُ الخُلُقِ المحمودِ بَيْنَ خُلُقَينِ ذميمَينِ:
- قال ابنُ القَيِّمِ: (كُلُّ خُلُقٍ محمودٍ مُكتَنَفٌ بخُلُقَينِ ذميمَينِ، وهو وَسَطٌ بَينَهما. وطَرَفاه خُلُقانِ ذَميمانِ؛ كالجُودِ الذي يكتَنِفُه خُلُقَا البُخلِ والتَّبذيرِ، والتَّواضُعِ الذي يكتَنِفُه خُلُقَا الذُّلِّ والمهانةِ، والكِبرِ والعُلُوِّ. فإنَّ النَّفسَ متى انحرَفَت عن التَّوسُّطِ انحرَفَت إلى أحَدِ الخُلُقَينِ الذَّميمَينِ ولا بُدَّ؛ فإذا انحرَفَت عن خُلُقِ التَّواضُعِ انحرَفَت إمَّا إلى كِبرٍ وعُلُوٍّ، وإمَّا إلى ذُلٍّ ومَهانةٍ وحَقارةٍ. وإذا انحرَفَت عن خُلُقِ الحياءِ انحرَفَت إمَّا إلى قِحَةٍ وجُرأةٍ، وإمَّا إلى عَجزٍ وخَوَرٍ ومهانةٍ، بحيثُ يُطمِعُ في نفسِه عَدُوَّه، ويفوتُه كثيرٌ من مَصالحِه، ويزعُمُ أنَّ الحامِلَ له على ذلك الحياءُ، وإنَّما هو المهانةُ والعَجزُ، وموتُ النَّفسِ. وكذلك إذا انحَرَفت عن خُلُقِ الصَّبرِ المحمودِ انحرَفَت إمَّا إلى جَزَعٍ وهَلَعٍ وجَشَعٍ وتسَخُّطٍ، وإمَّا إلى غِلظةِ كَبدٍ، وقَسوةِ قَلبٍ، وتحَجُّرِ طَبعٍ. كما قال بعضُهم:
تبكي علينا ولا نبكي على أحَدٍ
فنحن أغلَظُ أكبادًا من الإبِلِ.
وإذا انحرَفَت عن خُلُقِ الحِلمِ انحرَفَت إمَّا إلى الطَّيشِ والتَّرَفِ والحِدَّةِ والخِفَّةِ، وإمَّا إلى الذُّلِّ والمهانةِ والحَقارةِ؛ ففَرقٌ بَينَ مَن حِلمُه حِلمُ ذُلٍّ ومهانةٍ وحَقارةٍ وعَجزٍ، وبَينَ مَن حِلمُه حِلمُ اقتدارٍ وعِزَّةٍ وشَرَفٍ، كما قيل:
كُلُّ حِلمٍ أتى بغيرِ اقتدارٍ
حُجَّةٌ لاجِئٌ إليها اللِّئامُ
وإذا انحرَفَت عن خُلُقِ الأناةِ والرِّفقِ انحرَفَت إمَّا إلى عَجَلةٍ وطَيشٍ وعُنفٍ، وإمَّا إلى تفريطٍ وإضاعةٍ، والرِّفقُ والأناةُ بَينَهما.
وإذا انحرَفَت عن خُلُقِ الشَّجاعةِ انحَرَفت إمَّا إلى تهَوُّرٍ وإقدامٍ غيرِ محمودٍ، وإمَّا إلى جُبنٍ وتأخُّرٍ مذمومٍ.
وإذا انحَرَفت عن خُلُقِ المنافَسةِ في المراتِبِ العاليةِ والغِبطةِ انحَرَفَت إمَّا إلى حَسَدٍ، وإمَّا إلى مَهانةٍ وعَجزٍ، وذُلٍّ ورِضًا بالدُّونِ.
وإذا انحَرَفت عن القناعةِ انحَرَفت إمَّا إلى حِرصٍ وكَلَبٍ، وإمَّا إلى خِسَّةٍ ومهانةٍ وإضاعةٍ.
وإذا انحرَفَت عن خُلُقِ الرَّحمةِ انحَرَفت إمَّا إلى قَسوةٍ، وإمَّا إلى ضَعفِ قَلبٍ وجُبنِ نَفسٍ، كمَن لا يُقدِمُ على ذَبحِ شاةٍ، ولا إقامةِ حَدٍّ، وتأديبِ وَلَدٍ، ويزعُمُ أنَّ الرَّحمةَ تحمِلُه على ذلك، وقد ذَبَح أرحَمُ الخَلقِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيَدِه في مَوضِعٍ واحِدٍ ثلاثًا وسِتِّينَ بَدَنةً، وقَطَع الأيديَ من الرِّجالِ والنِّساءِ، وضَرَب الأعناقَ، وأقام الحُدودَ، ورَجَم بالحِجارةِ حتى مات المرجومُ، وكان أرحَمَ خَلقِ اللهِ على الإطلاقِ وأرأَفَهم.
وكذلك طَلاقةُ الوَجهِ، والبِشرُ المحمودُ؛ فإنَّه وَسَطٌ بَينَ التَّعبيسِ والتَّقطيبِ وتصعيرِ الخَدِّ، وطَيِّ البِشرِ عن البَشَرِ، وبَينَ الاسترسالِ بذلك مع كُلِّ أحدٍ، بحيثُ يُذهِبُ الهَيبةَ، ويُزيلُ الوَقارَ، ويُطمِعُ في الجانِبِ، كما أنَّ الانحرافَ الأوَّلَ يُوقِعُ الوَحشةَ والبِغضةَ والنُّفرةَ في قُلوبِ الخَلقِ.
وصاحِبُ الخُلُقِ الوَسَطِ مَهِيبٌ محبوبٌ، عزيزٌ جانِبُه، حبيبٌ لِقاؤه، وفي صِفةِ نَبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن رآه بديهةً هابَه، ومن خالَطَه عِشرةً أحَبَّه. واللَّهُ أعلَمُ) [515] ((مدارج السالكين)) (2/ 295-297). .
وقال أيضًا: (للأخلاقِ حَدٌّ متى جاوزَتْه صارت عُدوانًا، ومتى قَصَرَت عنه كان نقصًا ومهانةً؛ فللغَضَبِ حَدٌّ، وهو الشَّجاعةُ المحمودةُ والأَنَفةُ من الرَّذائِلِ والنَّقائِصِ، وهذا كمالُه، فإذا جاوز حَدَّه تعدَّى صاحبُه وجار، وإن نقَص عنه جَبُن ولم يأنَفْ من الرَّذائِلِ، وللحِرصِ حَدٌّ، وهو الكفايةُ في أمورِ الدُّنيا وحصولُ البلاغِ منها؛ فمتى نقَص من ذلك كان مهانةً وإضاعةً، ومتى زاد عليه كان شَرَهًا ورغبةً فيما لا تُحمَدُ الرَّغبةُ فيه، وللحَسَدِ حَدٌّ، وهو المنافسةُ في طَلَبِ الكمالِ والأنَفةُ أن يتقَدَّمَ عليه نظيرُه، فمتى تعدَّى ذلك صار بَغيًا وظُلمًا يتمنَّى معه زوالَ النِّعمةِ عن المحسودِ، ويحرِصُ على إيذائِه، ومتى نقَص عن ذلك كان دناءةً وضَعفَ هِمَّةٍ وصِغَرِ نَفسٍ، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا حَسَد إلَّا في اثنينِ: رَجُلٌ آتاه اللَّهُ مالًا فسَلَّطه على هلَكتِه في الحَقِّ، ورجُلٌ آتاه اللَّهُ الِحكمةَ فهو يقضي بها ويُعَلِّمُها النَّاسَ))، فهذا حسَدُ مُنافسةٍ يُطالِبُ الحاسِدُ به نفسَه أن يكونَ مِثلَ المحسودِ، لا حَسَدُ مهانةٍ يتمنَّى به زوالَ النِّعمةِ عن المحسودِ. وللشَّهوةِ حَدٌّ، وهو راحةُ القَلبِ والعَقلِ مِن كَدِّ الطَّاعةِ، واكتسابُ الفضائِلِ والاستعانةُ بقضائِها على ذلك، فمتى زادت على ذلك صارت نَهمةً وشبَقًا، والتَحق صاحِبُها بدرجةِ الحيواناتِ، ومتى نقَصَت عنه ولم يكُنْ فراغًا في طَلَبِ الكمالِ والفَضلِ، كانت ضَعفًا وعَجزًا ومهانةً، وللرَّاحةِ حَدٌّ، وهو إجمامُ النَّفسِ والقُوى المُدرِكةِ والفعَّالةِ للاستعدادِ للطَّاعةِ، واكتِسابِ الفضائِلِ وتوَفُّرِها على ذلك بحيثُ لا يُضعِفُها الكَدُّ والتَّعَبُ، ويُضعِفُ أثَرَها، فمتى زاد على ذلك صار توانيًا وكَسَلًا وإضاعةً، وفات به أكثرُ مصالحِ العَبدِ، ومتى نقَص عنه صار مُضِرًّا بالقُوى مُوهِنًا لها، ورُبَّما انقَطَع به، كالمُنبَتِّ الذي لا أرضًا قَطَع ولا ظَهرًا أبقى. والجُودُ له حدٌّ بَيْنَ طرفَينِ؛ فمتى جاوَز حَدَّه صار إسرافًا وتبذيرًا، أو متى نقَص عنه كان بُخلًا وتقتيرًا، وللشَّجاعةِ حَدٌّ متى جاوزَتْه صارت تهوُّرًا، ومتى نقَصَت عنه صارت جُبنًا وخَوَرًا، وحَدُّها الإقدامُ في مواضِعِ الإقدامِ، والإحجامُ في مواضِعِ الإحجامِ، كما قال معاويةُ لعَمرِو بنِ العاصِ: أعياني أن أعرِفَ أشُجاعٌ أنت أم جبانٌ، تُقدِمُ حتَّى أقولَ: مِن أشجَعِ النَّاسِ، وتَجبُنُ حتَّى أقولَ: مِن أجبَنِ النَّاسِ! فقال:
شجاعٌ إذا ما أمكنَتْني فُرصةٌ
فإنْ لم تكُنْ لي فُرصةٌ فجَبانُ
والغَيرةُ لها حَدٌّ إذا جاوزَتْه صارت تُهمةً وظَنًّا سَيِّئًا بالبريءِ، وإن قَصَرت عنه كانت تغافُلًا ومبادئَ دِياثةٍ، وللتَّواضُعِ حدٌّ إذا جاوزه كان ذُلًّا ومهانةً، ومن قَصَر عنه انحرف إلى الكِبرِ والفَخرِ، وللعِزِّ حَدٌّ إذا جاوزه كان كِبرًا وخُلُقًا مذمومًا، وإن قصَر عنه انحرَفَ إلى الذُّلِّ والمهانةِ.
وضابِطُ هذا كُلِّه العَدلُ، وهو الأخذُ بالوَسَطِ الموضوعِ بَيْنَ طرَفَيِ الإفراطِ والتَّفريطِ، وعليه بناءُ مصالحِ الدُّنيا والآخِرةِ) [516] ((الفوائد)) (ص: 139-141). .
الفَرْقُ بَيْنَ الوَسْطِ والبَيْنِ، والوَسْطِ والوَسَطِ:
قال أبو هلالٍ: (إنَّ «الوَسْطَ» يضافُ إلى الشَّيءِ الواحِدِ، و"بَيْنَ" تضافُ إلى شيئينِ فصاعدًا؛ لأنَّه من البَينونةِ؛ تقولُ: قعَدْتُ وَسْطَ الدَّارِ، ولا يقالُ: قعَدْتُ بَيْنَ الدَّارينِ، أي: حيثُ تُبايِنُ إحداهما صاحِبَتَها، وقعَدْتُ بَيْنَ القومِ، أي: حيثُ تباينوا من المكانِ، والوَسَطُ يقتضي اعتِدالَ الأطرافِ إليه، ولهذا قيل: الوَسَطُ العَدلُ، في قولِه تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة: 143] ) [517] ((الفروق اللغوية)) للعسكري (ص: 308). .
أمَّا الفَرْقُ بَيْنَ الوَسْطِ والوَسَطِ، فهو أنَّ (الوَسْطَ لا يكونُ إلَّا ظرفًا، تقولُ: قعَدْتُ وَسْطَ القومِ، وثَوبي وَسْطَ الثِّيابِ، وإنَّما تخبرُ عن شيءٍ فيه الثَّوبُ وليس به، فإذا حرَّكْتَ السِّينَ كان اسمًا، وكان بمعنى بعضِ الشَّيءِ، تقول: وَسَطُ رأسِه صُلبٌ، فترفَعُ؛ لأنَّك إنَّما تخبرُ عن بعضِ الرَّأسِ لا عن شيءٍ فيه، والوَسَطُ اسمُ الشَّيءِ لا ينفَكُّ من الشَّيءِ المحيطِ به جوانِبُه، كوسَطِ الدَّارِ، وإذا حرَّكْتَ السِّينَ دخَلَتْ عليه في، فتقولُ: احتَجَم في وَسَطِ رأسِه، ولا يقالُ: قعَدْتُ في وَسَطِ القومِ، كما لا يقالُ: قعَدْتُ في بَيْنِ القومِ، كما أنَّ بَيْنَ لا يدخُلُ عليه في، فكذلك لا تدخُلُ على ما أدَّى عنه بَينَ) [518] ((الفروق اللغوية)) للعسكري (ص: 308). .
كثرةُ الانحرافِ عن الوَسَطِ:
قال ابنُ تَيميَّةَ: (الانحرافُ عن الوسَطِ كثيرٌ في أكثَرِ الأمورِ في أغلَبِ النَّاسِ، مِثلُ تقابُلِهم في بعضِ الأفعالِ يتَّخِذُها بعضُهم دينًا واجبًا، أو مُستحَبًّا، أو مأمورًا به في الجُملةِ، وبعضُهم يعتَقِدُها حرامًا مكروهًا، أو محرَّمًا، أو منهيًّا عنه في الجملةِ) [519] ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/ 359). .

انظر أيضا: