موسوعة الأخلاق والسلوك

عاشرًا: مَسائِلُ مُتفَرِّقةٌ


دواعي الصِّدقِ:
قال الماوَرديُّ: (أمَّا دواعي الصِّدقِ فمنها العقلُ؛ لأنَّه موجِبٌ لقُبحِ الكَذِبِ، لا سيَّما إذا لم يجلِبْ نفعًا ولم يدفَعْ ضَرَرًا والعَقلُ يدعو إلى فِعلِ ما كان مستحسَنًا، ويمنعُ من إتيانِ ما كان مستقبَحًا.
ومنها: الدِّينُ الوارِدُ باتِّباعِ الصِّدقِ وحَظرِ الكَذِبِ؛ لأنَّ الشَّرعَ لا يجوزُ أن يَرِدَ بإرخاصِ ما حظَره العقلُ، بل قد جاء الشَّرعُ زائدًا على ما اقتضاه العقلُ من حَظرِ الكَذِبِ؛ لأنَّ الشَّرعَ ورد بحَظرِ الكَذِبِ وإن جَرَّ نفعًا، أو دَفَع ضَرَرًا. والعَقلُ إنما حَظَر ما لا يجلِبُ نفعًا، ولا يدفَعُ ضَرَرًا .
ومنها: المروءةُ؛ فإنَّها مانعةٌ من الكَذِبِ باعثةٌ على الصِّدقِ؛ لأنَّها قد تمنَعُ مِن فِعلِ ما كان مستكرَهًا، فأولى مِن فعلِ ما كان مُستقبَحًا.
ومنها: حُبُّ الثَّناءِ والاشتهارِ بالصِّدقِ، حتى لا يُرَدَّ عليه قولٌ، ولا يَلحَقَه نَدَمٌ) [5819] يُنظَر: ((أدب الدنيا والدين)) (ص: 262، 263). .
معنى ما أُضيفَ إلى الصِّدقِ من المُدخَلِ والمُخرَجِ واللِّسانِ والقَدَمِ والمقعَدِ في القُرآنِ:
(قد أمَر اللهُ تعالى رسولَه أن يسألَه أن يجعَلَ مُدخَلَه ومُخرَجَه على الصِّدقِ، فقال: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا [الإسراء: 80] .
- وأخبر عن خليلِه إبراهيمَ أنَّه سأله أنَّه يَهَبُ له لسانَ صِدقٍ في الآخِرينَ، فقال: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: 84] .
- وبشَّر عبادَه بأنَّ لهم عندَه قَدَمَ صِدقٍ ومَقعَدَ صِدقٍ، فقال تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس: 2] .
- وقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 54-55].
فهذه خمسةُ أشياءَ: مُدخَلُ الصِّدقِ، ومُخرَجُ الصِّدقِ، ولِسانُ الصِّدقِ، وقَدَمُ الصِّدقِ، ومَقعَدُ الصِّدقِ) [5820] يُنظَر: ((مدارج السالكين)) (2/ 259). .
(وحقيقةُ الصِّدقِ في هذه الأشياءِ: هو الحقُّ الثَّابتُ المتَّصِلُ باللهِ الموصِلُ إلى اللهِ، وهو ما كان به وله من الأقوالِ والأعمالِ، وجزاءُ ذلك في الدُّنيا والآخرةِ.
- فمُدخَلُ الصِّدقِ ومُخرَجُ الصِّدقِ: أن يكونَ دُخولُه وخروجُه حَقًّا ثابتًا باللهِ وفي مرضاتِه، بالظَّفَرِ بالبُغيةِ وحصولِ المطلوبِ، ضِدُّ مُخرَجِ الكَذِبِ ومُدخَلِه الذي لا غايةَ له يوصَلُ إليها، ولا له ساقٌ ثابتةٌ يقومُ عليها، كمُخرَجِ أعدائِه يومَ بدرٍ، ومخرَجُ الصِّدقِ كمُخرَجِه هو وأصحابِه في تلك الغزوةِ.
وكذلك مُدخَلُه صلَّى الله عليه وسلَّم المدينةَ كان مُدخَلَ صِدقٍ باللهِ ولله، وابتغاءَ مرضاتِ اللهِ، فاتَّصل به التَّأييدُ، والظَّفَرُ، والنَّصرُ، وإدراكُ ما طلبه في الدُّنيا والآخرةِ، بخِلافِ مُدخَلِ الكَذِبِ الذي رام أعداؤُه أن يدخُلوا به المدينةَ يوم الأحزابِ؛ فإنَّه لم يكُنْ باللهِ ولا للهِ، بل كان محادَّةً للهِ ورَسولِه، فلم يتَّصِلْ به إلَّا الخِذلانُ والبَوارُ.
وكذلك مُدخَلُ من دخل من اليهودِ المحاربين لرسولِ اللهِ حِصنَ بني قُرَيظةَ، فإنَّه لمَّا كان مُدخَلَ كَذِبٍ أصابه معهم ما أصابهم.
فكُلُّ مُدخَلٍ معهم ومُخرَجٍ كان باللهِ وللهِ، وصاحِبُه ضامِنٌ على اللهِ، فهو مُدخَلُ صِدقٍ ومُخرَجُ صِدقٍ.
وكان بعضُ السَّلفِ إذا خرج من دارِه رفع رأسَه إلى السَّماءِ وقال: اللَّهُمَّ إنِّي أعوُذ بك أن أخرُجَ مُخرَجًا لا أكونُ فيه ضامنًا عليك. يريدُ: ألَّا يكونَ المُخرَجُ مُخرَجَ صِدقٍ؛ ولذلك فسِّرَ مُدخَلُ الصِّدقِ ومُخرَجُه: بخُروجِه من مكَّةَ ودُخولِه المدينةَ، ولا ريبَ أنَّ هذا على سبيلِ التَّمثيلِ؛ فإنَّ هذا المُدخَلَ والمُخرَجَ من أجَلِّ مداخِلِه ومخارِجِه، وإلَّا فمداخِلُه كُلُّها مداخِلُ صِدقٍ، ومخارِجُه مخارِجُ صِدقٍ؛ إذ هي للهِ وباللهِ، وبأمرِه ولابتغاءِ مَرضاتِه.
وما خرَج أحدٌ من بيتِه ودخَل سوقَه أو مَدخَلًا آخرَ إلَّا بصِدقٍ أو بكَذِبٍ، فمَخرَجُ كُلِّ واحدٍ ومَدخَلُه: لا يعدو الصِّدقَ والكَذِبَ، واللهُ المستعانُ.
- وأمَّا لِسانُ الصِّدقِ: فهو الثَّناءُ الحَسَنُ عليه صلَّى الله عليه وسلَّم من سائرِ الأمَمِ بالصِّدقِ، ليس ثناءً بالكَذِبِ، كما قال عن إبراهيمَ وذُرِّيَّتِه من الأنبياءِ والرُّسُلِ عليهم صلواتُ اللهِ وسلامُه: وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم:50] . والمرادُ باللِّسانِ هاهنا: الثَّناءُ الحَسَنُ، فلمَّا كان الصِّدقُ باللِّسانِ وهو محلُّه، أطلق اللهُ سُبحانَه ألسِنةَ العبادِ بالثَّناءِ على الصَّادِقِ؛ جزاءً وِفاقًا، وعَبَّرَ به عنه.
- وأمَّا قَدَمُ الصِّدقِ: ففُسِّرَ بالجنَّةِ، وفُسِّرَ بمُحَمَّدٍ، وفُسِّرَ بالأعمالِ الصَّالحةِ.
وحقيقةُ القَدَمِ ما قدَّموه وما يُقدِمون عليه يومَ القيامةِ، وهم قَدَّموا الأعمالَ والإيمانَ بمحمَّدٍ، ويُقدِمون على الجنَّةِ التي هي جزاءُ ذلك.
فمن فسَّره بها أراد: ما يُقدِمون عليه، ومن فسَّره بالأعمالِ وبالنَّبيِّ: فلأنَّهم قدَّموها وقدَّموا الإيمانَ به بَيْنَ أيديهم، فالثَّلاثةُ قَدَمُ صِدقٍ.
- وأمَّا مقعَدُ الصِّدقِ: فهو الجنَّةُ عِندَ الرَّبِّ تبارك وتعالى.
ووَصفُ ذلك كُلِّه بالصِّدقِ مُستلزِمٌ ثُبوتَه واستقرارَه وأنَّه حَقٌّ، ودوامَه ونفعَه وكَمالَ عائدتِه؛ فإنَّه متَّصِلٌ بالحقِّ سُبحانَه كائنٌ به وله، فهو صِدقٌ غيرُ كَذِبٍ، وحقٌّ غيرُ باطِلٍ، ودائمٌ غيرُ زائِلٍ، ونافعٌ غيرُ ضارٍّ، وما للباطِلِ ومتعلِّقاتِه إليه سبيلٌ ولا مدخَلٌ) [5821] يُنظَر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/261). .
معنى الصِّدِّيقيَّةِ:
الصِّدِّيقيَّةُ: هي كمالُ الانقيادِ للرَّسولِ مع كمالِ الإخلاصِ للمُرسَلِ [5822] يُنظَر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 258). .
وقال القُرطبيُّ: (الصِّدِّيقُ هو الذي يحقِّقُ بفِعلِه ما يقولُه بلِسانِه) [5823] يُنظَر: ((الجامع لأحكام القرآن)) (5/ 272). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (فالصِّدِّيقُ قد يرادُ به الكامِلُ في الصِّدقِ، وقد يرادُ به الكامِلُ في التَّصديقِ) [5824] يُنظَر: ((منهاج السنة)) (4/266). .
وقال ابنُ العربيِّ: (وأمَّا الصِّدِّيقُ فهو من أسماءِ الكَمالِ، ومعناه الذي صَدَّق عِلمَه بعَمَلِه) [5825] ((قانون التأويل)) لابن العربي (ص: 640). .
الفَرْقُ بَيْنَ الصَّادِقِ والصِّدِّيقِ:
قال الماورَديُّ: (والفَرْقُ بَيْنَ الصَّادِقِ والصِّدِّيقِ: أنَّ الصَّادِقَ في قَولِه بلِسانِه، والصِّدِّيقَ من تجاوَزَ صِدقُه لسانَه إلى صِدقِ أفعالِه في موافَقةِ حالِه لا يختَلِفُ سِرُّه وجهرُه، فصار كُلُّ صِدِّيقٍ صادِقًا، وليس كُلُّ صادِقٍ صِدِّيقًا) [5826] يُنظَر: ((النكت والعيون)) (3/43). .
الصِّدقُ شديدٌ:
قال ابنُ القَيِّمِ: (حَملُ الصِّدقِ كحَملِ الجِبالِ الرَّواسي، لا يطيقُه إلَّا أصحابُ العزائمِ، فهم يتقَلَّبون تحتَه تقَلُّبَ الحامِلِ بحِملِه الثَّقيلِ، والرِّياءُ والكَذِبُ خَفيفٌ كالرِّيشةِ، لا يجِدُ له صاحِبُه ثِقلًا البتَّةَ؛ فهو حامِلٌ له في أيِّ موضِعٍ اتَّفق، بلا تَعَبٍ ولا مشقَّةٍ ولا كُلفةٍ، فهو لا يتقَلَّبُ تحتَ حِملِه ولا يجِدُ ثِقلَه) [5827] ((مدارج السالكين)) (2/ 264). .
ما يُذَمُّ مِن الصِّدقِ:
قال الماوَرديُّ: (واعلَمْ أنَّ من الصِّدقِ ما يقومُ مَقامَ الكَذِبِ في القُبحِ والمعَرَّةِ، ويزيدُ عليه في الأذى والمضَرَّةِ، وهي الغِيبةُ والنَّميمةُ والسِّعايةِ أي: الوِشايةُ) [5828] ((أدب الدنيا والدين)) (ص: 266). .
ولمَّا قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم في الغِيبةِ: ((ذِكْرُك أخاك بما يكرَهُ. قيل: أفرأيتَ إن كان في أخي ما أقولُ؟ قال: إن كان فيه ما تقولُ فقد اغتَبْتَه، وإن لم يكُنْ فيه فقد بهَتَّه)) [5829] أخرجه مسلم (2589) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وقولُه: (أفرأيتَ إن كان في أخي ما أقولُ؟) أي: عَلِمْت لي رُخصةً في الذِّكرِ إن كان ما أقولُ صِدقًا، أو أخبِرْني هل يكونُ الذِّكرُ بمذكورٍ غِيبةً إن كان صِدقًا [5830] ((فتح الودود في شرح سنن أبي داود)) للسندي (4/ 564). ؟ فقال له النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إن كان فيه ما تقولُ فقد اغتَبْتَه)) فعُلِم منه أنَّ ذِكرَه بما يَكرَهُ غِيبةٌ وإن كان صِدقًا [5831] فيض القدير (4/ 417) .
وقيل: (إنَّ الكَذِبَ يُحمَدُ إذا قرَّب بَيْنَ المتقاطِعَين، ويُذَمُّ الصِّدقُ إذا كان غِيبةً) [5832] ((التذكرة الحمدونية)) (3/52). .
وقيل: (الصِّدقُ زَينٌ إلَّا أن يكونَ سِعايةً؛ فإنَّ السَّاعيَ أخبَثُ ما يكونُ إذا صَدَق) [5833] ((التذكرة الحمدونية)) (3/49). .
ويقالُ: (الصِّدقُ أفضلُ من الكَذِبِ إلَّا في السِّعايةِ) [5834] ((التذكرة الحمدونية)) (3/61). .
وقيل لحكيمٍ: ما الصِّدقُ القبيحُ؟ فقال: ثناءُ المرءِ على نفسِه [5835] ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (1/ 46). .

انظر أيضا: