موسوعة الأخلاق والسلوك

خامسًا: دَرَجاتُ الصِّدقِ


1- صِدقُ اللِّسانِ:
وهو أشهَرُ أنواعِ الصِّدقِ وأظهَرُها، وصِدقُ اللِّسانِ لا يكونُ إلَّا في الإخبارِ أو فيما يتضمَّنُ الإخبارَ ويُنَبِّهُ عليه، والخبَرُ إمَّا أن يتعلَّقَ بالماضي أو بالمستقبَلِ، وفيه يدخُلُ الوفاءُ بالوعدِ والخُلفُ فيه، وحقٌّ على كُلِّ عبدٍ أن يحفَظَ ألفاظَه، فلا يتكَلَّمَ إلَّا بالصِّدقِ.
فمَن حَفِظ لسانَه عن الإخبارِ عن الأشياءِ على خِلافِ ما هي عليه فهو صادقٌ؛ ولهذا الصِّدقِ كمالانِ، فالأوَّلُ في اللَّفظِ: أن يحتَرِزَ عن صريحِ اللَّفظِ وعن المعاريضِ أيضًا إلَّا عِندَ الضَّرورةِ، والكمالُ الثَّاني: أن يراعيَ معنى الصِّدقِ في ألفاظِه التي يناجي بها ربَّه.
2- صِدقُ النِّيَّةِ والإرادةِ:
ويرجِعُ ذلك إلى الإخلاصِ، وهو ألَّا يكونَ له باعثٌ في الحركاتِ والسَّكَناتِ إلَّا اللهُ تعالى، فإن مازجه شَوبٌ من حظوظِ النَّفسِ بَطَل صِدقُ النِّيَّةِ، وصاحِبُه يجوزُ أن يُسمَّى كاذِبًا.
3- صِدقُ العَزمِ:
فإنَّ الإنسانَ قد يقدِّمُ العزمَ على العملِ؛ فيقولُ في نفْسِه: إنْ رزَقني اللهُ مالًا تصدَّقْتُ بجميعِه أو بشَطرِه، أو إن لقيتُ عدوًّا في سبيلِ الله تعالى قاتلتُ ولم أُبالِ، وإن قُتِلْتُ، وإن أعطاني اللهُ تعالى ولايةً عدلتُ فيها ولم أَعْصِ اللهَ تعالى بظُلمٍ ومَيلٍ إلى خَلقٍ، فهذه العزيمةُ قد يُصادِفُها مِن نفْسِه، وهي عزيمةٌ جازمةٌ صادقةٌ، وقد يكونُ في عزمِه نوعُ مَيلٍ وترَدُّدٍ وضَعفٍ يُضادُّ الصِّدقَ في العزيمةِ، فكان الصِّدقُ هاهنا عبارةً عن التَّمامِ والقوَّةِ.
4- صدق الوفاء بالعزم:
فإنَّ النَّفسَ قد تسخو بالعزمِ في الحالِ؛ إذ لا مشقَّةَ في الوعدِ والعزمِ، والمؤنةُ فيه خفيفةٌ، فإذا حقَّت الحقائقُ وحصل التَّمكُّنُ، وهاجت الشَّهواتُ انحلَّت العزيمةُ، وغلبت الشَّهواتُ، ولم يتَّفِقِ الوفاءُ بالعزمِ، وهذا يضادُّ الصِّدقَ فيه؛ ولذلك قال اللهُ تعالى: رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23] . فهم صدَقوا في عزمِهم وصدَقوا في الوفاءِ الحَقِّ بما عزَموا عليه ولم تتراجَعْ نفوسُهم ولم تتردَّدْ في إنفاذِ العزمِ.
عن ثابتٍ قال: قال أنسٌ: (عَمِّي الذي سُمِّيتُ به لم يشهَدْ مع رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم بدرًا. قال: فشَقَّ عليه، قال: أولُ مَشهَدٍ شَهِدَه رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غِبْتُ عَنه! فإنْ أراني اللهُ مَشهَدًا فيما بَعدُ مَعَ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليَرينَّ اللهُ ما أصنَعُ، قال: فهابَ أنْ يَقُولَ غيرَها. قال: فشَهدَ مَعَ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَ أحُدٍ، قال: فاستَقبَلَ سَعدَ بنَ مُعاذٍ فقال له: أينَ؟ فقال: واهًا لِريحِ الجَنَّةِ أجِدُه دُونَ أحُدٍ! قال: فقاتَلَهم حَتَّى قُتِلَ، قال: فوُجِدَ في جَسدِه بضعٌ وثَمانُونَ مِن بينِ ضَربةٍ وطَعنةٍ ورَميةٍ، فقالت أختُه عَمَّتي الرُّبَيِّعُ بنتُ النَّضْرِ: فما عَرَفْتُ أخي إلَّا ببَنانِه! ونَزَلَت هذه الآيةُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23] قال: فكانوا يَرَون أنَّها نزلت فيه وفي أصحابِه) [5785] أخرجه البخاري (2805)، ومسلم (1903). . فهذا أنَسُ بنُ النَّضرِ عَزَم عزمًا صادِقًا، ولَمَّا خرج الكلامُ من فمِه هاب أن يقولَ غيرَه أو يستثنيَ، ثمَّ لَمَّا جاءت غزوةُ أحُدٍ وحدث بها من الأهوالِ والهزيمةِ للمُسلِمين لم يتراجَعْ بل أكمَل عمَلَه بصِدقٍ حتى أنزل اللهُ سُبحانَه تصديقَه في عزمِه وفي وفائِه به بالعمَلِ.
5- الصِّدقُ في الأعمالِ والأفعالِ:
وهو أن يجتَهِدَ حتى لا تدُلَّ أعمالُه الظَّاهرةُ على أمرٍ في باطنِه لا يتَّصِفُ هو به.
ولا يتحقَّقُ الصِّدقُ في الأعمالِ إلَّا باستواءِ السَّريرةِ والعلانيةِ، بأن يكونَ باطِنُه مثلَ ظاهِرِه أو خيرًا من ظاهِرِه.
6- الصِّدقُ في مقاماتِ الدِّينِ:
وهو أعلى الدَّرَجاتِ وأعزُّها، ومن أمثلتِه: الصِّدقُ في الخوفِ والرَّجاءِ، والتَّعظيمِ والزُّهدِ، والرِّضا والتَّوكُّلِ، وغيرِها من الأمورِ.
ومن اتَّصف بالصِّدقِ في جميعِ ما سبق فهو صِدِّيقٌ [5786] يُنظَر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (4/387). .

انظر أيضا: