- لَا رُقْيَةَ إلَّا مِن عَيْنٍ أوْ حُمَةٍ، فَذَكَرْتُهُ لِسَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، فَقالَ: حَدَّثَنَا ابنُ عَبَّاسٍ: قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ النبيُّ والنبيَّانِ يَمُرُّونَ معهُمُ الرَّهْطُ، والنبيُّ ليسَ معهُ أحَدٌ، حتَّى رُفِعَ لي سَوَادٌ عَظِيمٌ، قُلتُ: ما هذا؟ أُمَّتي هذِه؟ قيلَ: بَلْ هذا مُوسَى وقَوْمُهُ، قيلَ: انْظُرْ إلى الأُفُقِ، فَإِذَا سَوَادٌ يَمْلَأُ الأُفُقَ، ثُمَّ قيلَ لِي: انْظُرْ هَا هُنَا وهَا هُنَا في آفَاقِ السَّمَاءِ، فَإِذَا سَوَادٌ قدْ مَلَأَ الأُفُقَ، قيلَ: هذِه أُمَّتُكَ، ويَدْخُلُ الجَنَّةَ مِن هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ ألْفًا بغيرِ حِسَابٍ ثُمَّ دَخَلَ ولَمْ يُبَيِّنْ لهمْ، فأفَاضَ القَوْمُ، وقالوا: نَحْنُ الَّذِينَ آمَنَّا باللَّهِ واتَّبَعْنَا رَسولَهُ، فَنَحْنُ هُمْ، أوْ أوْلَادُنَا الَّذِينَ وُلِدُوا في الإسْلَامِ، فإنَّا وُلِدْنَا في الجَاهِلِيَّةِ، فَبَلَغَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَخَرَجَ، فَقالَ: هُمُ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ، ولَا يَتَطَيَّرُونَ، ولَا يَكْتَوُونَ، وعلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَقالَ عُكَاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ: أمِنْهُمْ أنَا يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: نَعَمْ فَقَامَ آخَرُ فَقالَ: أمِنْهُمْ أنَا؟ قالَ: سَبَقَكَ بهَا عُكَّاشَةُ.
الراوي : عبدالله بن عباس | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري
الصفحة أو الرقم: 5705 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] [وقع في بعض النسخ (قول البخاري حديث الشعبي مرسل) و يعني عن عمران]
قال حُصينُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ: (فذكَرْتُه لسَعيدِ بْنِ جُبَيرٍ) أيْ فذَكَرْتُ قولَ عِمرانَ بنِ حُصَينٍ لسَعيدِ بنِ جُبَيرٍ، فقالَ سَعيدٌ: حدَّثَنا ابنُ عبَّاسٍ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: "عُرِضَتْ عليَّ الأممُ"، أي: عُرِضتْ عليَّ أحوالُ الأممِ يومَ القيامةِ ومَاذا يكونُ حالُهُم، وذلكَ من إِعلامِ اللهِ له، ومما عُرِضَ عليه: "فَجَعلَ النَّبيُّ والنبيَّانِ يمرُّون مَعَهُم الرَّهْطُ"، والرَّهْطُ هُم الجماعةُ مِنَ الثَّلاثةِ إِلى العَشرةِ، ويمُرُّ النبيُّ ليسَ معَه أحدٌ آمنَ بهِ في الدُّنيا، "حتى رُفِعَ لي سَوادٌ عَظيمٌ" أي جُموعٌ كَثيفةٌ مَلأَتِ المكانَ والجِهةَ التي أَتتْ منها، قلتُ: "ما هذا؟ أمَّتي هذِهِ؟ قيلَ: هذا موسى وقومُهُ، أي: هؤلاء من أسلم من قوم موسى عليه السلام.
قيل: انظُرْ إلى الأُفُقِ، فإذا سوادٌ يملأُ الأُفق، ثم قيل لي: انظرْ هاهنا وهاهنا في آفاقِ السماءِ، فإذا سوادٌ قد ملأَ الأُفقَ، قيل: هذهِ أُمَّتُكَ" والأفُق هو الجِهةُ، والمعنى: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم رأى كَثرةَ أتباعِهِ يومَ القيامةِ بِالمُقارنةِ إلى أَتباعِ الأنبياءِ الآخرينَ، فالمسلمونَ أَعدادُهُم ملأتِ الجِهاتِ مِن كَثرَتِها، وهذا من فضلِ الله على نبيِّه وعلى أمَّةِ الإسلامِ، ومع هذا الفَضْلِ فإنَّه "يَدْخُلُ الجنَّةَ مِنْ هَؤُلاءِ سَبْعونَ أَلْفًا بِغَيرِ حِسابٍ"، أي: يدْخُلونَ الجنةَ بفَضلِ اللهِ من غَيرِ أن يُحاسَبوا.
"ثُمَّ دخَلَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، أي: حُجْرته، ولم يُبيِّنْ لهم صفاتِ هؤلاءِ الذينَ لا يُحاسَبونَ، فأَفاضَ القَوْمُ، أي: جَعَلوا يُكثِرون الكلامَ في تعيينِ السَّبعين ألفًا ومَن هم؟ بعد حديثِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لهم، وَقالُوا: نَحنُ الذينَ آمنَّا بِاللهِ واتَّبَعْنَا رَسولَهُ، فَنَحْنُ هُمْ، أي: نحن أَوْلى بأنْ نكونَ من السَّبعين ألفًا لهذا السبَّبِ، وقالوا أيضًا: أَوْ أولادُنا الذينَ وُلِدوا في الإِسلامِ، فإنَّا وُلِدْنا في الجاهِلِيَّةِ، فَبلَغَ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، أي: بلغه ما يقول القوم وما يتحدثوا فيه، فَخَرَجَ فقالَ: "هُمُ الَّذينَ لا يَسْتَرْقونَ"، أي: لا يَطْلُبونَ الرُّقْيَةَ مِن أَحدٍ وذَلِكَ لِشِدَّةِ تَوَكُّلِهمْ على اللهِ وإيمانِهِم بأنه المَلْجأُ.
"وَلا يَتَطَيَّرونَ"، أي: لا يَتشاءَمونَ، "ولا يَكْتَوُونَ"، أي: لا يَكْتَوون بالنارِ طلبًا للشِّفاءِ، وقد ورَدَ النَّهيُ عن الاكْتِواءِ.
"وَعَلَى ربِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"، أي: هُمْ في كلِّ أحوالِهمْ ومِنها ما سبَقَ ذِكرُهُ، يتوكَّلونَ على اللهِ حقَّ توكُّلِهِ، فاستَحَقُّوا أن يَدْخلوا الجنَّةَ بغيرِ حِسابٍ.
"فقالَ عُكَّاشةُ بنُ محصن: أمِنْهُم أنا يا رسول الله؟ أي: مِن الذين يَدخُلون الجَنَّةَ بغير حسابٍ، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: نعم. فطَمِع رجلٌ آخرُ في أنْ يكونَ منهم فقام، فقال: أمِنْهُم أَنا؟ قالَ: سَبَقَكَ بِها عُكَّاشَةُ"، أي: إنَّ عُكاشةَ فاز بها لاستِباقِه إليه. وسببُ قولِه: (سَبقَكَ عُكاشَةُ) أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قدْ يَكونُ عَلِم بوَحيٍ مِن اللهِ تَعالَى أنَّه يُجابُ دعوتُه لعُكَّاشَة ولم يَكُن ذلِك للآخَر. أو لأنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم كان يَعلمُ أنَّ السَّائِلَ الآخَرَ ممَّن لا يَستحِقُّ ذلك، فأجابَه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بلفظٍ مُشترَكٍ وبكَلامٍ يَحتمِلُ أنَّ سَبْقَ عُكَّاشةَ بالسُّؤال مَنعَه مِن إجابتِه، وسَتَر حالَ السَّائِل ولم يَهتِكْ سِتْرَه، وهو مِن بابِ المعاريضِ الجائزةِ، ولم يُصرِّح له بأنَّه ليس منهم ولا مُستحقًّا لتِلك المنزلةِ، وهذا مِن حُسنِ عِشرتِه وجَميلِ صُحْبته صلَّى الله عليه وسلَّم، وأيضًا لِيَسُدَّ البابَ؛ إذ لو قالَ للثاني: نعَمْ، لأَوْشكَ أنْ يقومَ ثالثٌ ورابعٌ إلى ما لا نِهايةَ له ويَسألَه الدَّعوةَ أنْ يكونَ منهم، وليسَ كلُّ الناسِ يَصلُح لذلِك.
قيل: إنَّ حديثَ عُمرانَ بنِ حُصين هو مُثْبَتٌ مِن قولِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه أَمَر بالرُّقيةِ، وثَبَتَ عنه أيضًا أنَّه أَمَر بالتَّداوي، ولكن يَجمَع بين هذا وذاك: بأنَّ النَّهيَ في مَن يَعتقِد أنَّ الشِّفاءَ يكونُ في ذاتِ الرُّقيةِ أو ذاتِ الأدويةِ، ولم يَجعلوه للهِ عزَّ وجلَّ ولم يَعلَموا أنَّ تلك أسبابٌ للشفاءِ. وقيل: إنَّ ما وَرَد في النَّهيِ عن الرُّقيةِ ما كان بغيرِ أسماءِ الله عزَّ وجلَّ وصِفاتِه وغيرِ ذلك.
وفي الحديثِ: بيانُ فضلِ اللهِ على المُتوكِّلينَ عليه حقَّ التوكُّلِ.
وفيه: بيانُ مكانةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عندَ اللهِ حيثُ أَطْلعَه على أحوالِ يومِ القيامةِ وعِظَمُ ما أكرمَ اللهُ تَعالى به نَبيَّهُ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأُمَّتَه.