المطلب الثالث: النور بخشية في بلاد الهند التشكيل
انتشرت النور بخشية في حياة مؤسسها في بلاد كثيرة، خاصة في منطقة هرات وبدخشان من أفغانستان، وفي منطقة ختلان من إيران وكردستان من العراق. وأول من قدم بهذه الفرقة إلى البلاد الهندية (مير شمس الدين محمد العراقي) من خراسان، وكان سبب ذلك أن العراقي المذكور كان مريداً لشاه قاسم فيض بخش ابن السيد نور بخش ورافقه إلى خراسان لعلاج حاكمها حسين مرزا، وهناك بعثه شاه قاسم إلى إقليم كشمير سفيراً من حاكم خراسان لإحضار بعض الأدوية والعقاقير، ونشر مبادئ الفرقة النور بخشية، فتوجه العراقي ودخل قندهار، ثم وصل إلى ملتان، حتى قدم كشمير عام 888هـ، واستقبله حاكمها السلطان حسن شاه بحفاوة وتكريم لكونه مبعوثاً من حاكم خراسان، واشتغل مير العراقي بدعوة الناس إلى عقائد النور بخشية، وكان فصيحاً بليغاً يأخذ بألباب الناس، ويسحرهم بقوة بيانه، ويعيش حياة الزهد والتقوى، فأقبل عليه الناس، وبدأوا يبايعونه.
وكان يعمل بالتقية والحيلة، حيث كان يذهب على مشائخ كشمير وعلمائها، ويظهر لهم المودة والولاء، ويدعو أتباعهم إلى مذهبه في الخفاء حتى نجح في جذب كثير من الناس إلى مذهبه، وبعد أن قضى ثماني سنوات في كشمير استدعاه السلطان حسين إلى خراسان، فغادر كشمير متوجهاً إلى خراسان عام 896هـ، وقد بلغت تصرفات العراقي وآراؤه الباطنية إلى السلطان حسين فعزله عن منصبه، فترك العراقي الذهاب إلى خراسان وتوجه إلى العراق حيث مقر شيخه شاه قاسم بن محمد نور بخش انظر: ((طبقات نورية)) (صك 188، 189، 199). - مقال: ((فرقة نور بخشي، في اورينتل كالج ميكزين)) (ص: 13). .
أقام العراقي مع شيخه بضع سنوات، ثم قرر العودة إلى كشمير للمرة الثانية لمواصلة الدعوة النور بخشية، فغادر العراق متوجهاً إلى كشمير ووصلها في شهر محرم لعام 902هـ، وهذه المرة وجد الأرض خصبة، والظروف مواتية، حيث كانت تسود إقليم كشمير اضطرابات سياسية لضعف حاكمها فتح شاه، وتسلل رجال القبائل إلى المناصب العليا، وهب زعماء قبيلة جك التي تنتمي إلى الفرقة النور بخشية وصاروا وزراء وأمراء في حكومة فتح شاه، واستفاد شمس الدين العراقي من هذه الأوضاع أتباعه ببناء زوايا، فبنى له موسى رينه -أحد الأمراء- زاوية كبيرة، وكثف العراقي جهوده في نشر آرائه، والرد على المخالفين، والسلطة الحاكمة تساعده، وتقف بجانبه. وبالغ (العراقي) في الدعوة، وقتل كثيراً من أهل السنة، وأخرج بعضهم إلى بلاد أخرى، فتشيع خلق كثير حتى قيل: إن أربعة وثلاثين ألفاً من الهندوس تشيعوا فضلاً عن المسلمين.
ووصل دعاة النور بخشية إلى منطقة لداخ وبلتستان وغيرهما من البلاد المجاورة لإقليم كشمير، ونشروا عقائد النور بخشية على نطاق واسع انظر: ((نزهة الخواطر)) (4/141). - مقال: ((فرقة نور بخشي، في اورينتل كالج ميكزين)) (ص: 14-15). .
وبعد عمل دؤوب وكفاح مستمر دام ثمانية وثلاثين عاماً، توفي مير شمس الدين العراقي، في كشمير عام 932هــ. وأصبح قبره مزاراً لدى أتباع هذه الطائفة انظر: ((طبقات نورية)) (ص: 234). .
كان النور بخشيون في أوج مجدهم في كشمير وضواحيها، إذ تمكن ميرزا حيدر من الاستيلاء عليها عام 950هـ، وكان من أهل السنة، فأحضر نسخة من كتاب (الفقه الأحوط) للسيد محمد نور بخش -والذي يعتبر كتاباً مقدساً لدى أتباع هذه الطائفة-، وبعثه إلى كبار علماء الهند يستفتيهم حول الآراء والمضامين التي وردت في هذا الكتاب، فأفتى العلماء جميعاً أن هذا الكتاب يضر بعقائد المسلمين، ومؤلفه ملحد وزنديق، خارج عن دائرة الإسلام، ويجب على كل مسلم قادر أن يتلف نسخ هذا الكتاب، وينصح أتباع هذه الفرقة أن يتوبوا من العقائد الباطلة، فإذا تابوا يخلى سبيلهم، وإلا يقتلون.
ولما وصلت هذه الفتوى إلى ميرزا حيدر المذكور عرض التوبة والإنابة على النور بخشيين فقبل بعضهم وتابوا، ورفض البعض فقتلهم، وأخفى الآخرون عقائدهم تقية، وأعلنوا أنهم من المتصوفة والدراوشة، ولا علاقة لهم بالفرقة المذكورة. وظل الأمر هكذا حتى تآمر عليه رجال قبيلة جك فقتلوه عام 957هـ، واستولوا على السلطة، وبهذا عاد للنور بخشية دور جديد وصلوا فيه إلى غاية مجدهم، واستمر وجود النور بخشيين في كشمير ولداخ وبلتستان والمناطق المجاورة لها عبر العصور حتى أيامنا هذه انظر: ((تاريخ فرشته)) (2/933-935). - مقال: ((فرقة نور بخشي، في اورينتل كالج ميكزين)) (ص: 14). .