المبحث الثاني: عقائدها التشكيل
أسس (بايزيد الأنصاري) (حركته الروشنية) في القرن العاشر الهجري بعد تحولات خطيرة وتقلبات مستمرة في حياته. وبعد قراءة مؤلفاته التي وضع فيها أفكاره، والدراسات التي أجراها الباحثون حول حياته وحركته يتبين أنه دعا إلى عقائد كثيرة زعمها أنها من صميم الإسلام. وأهم تلك العقائد كالآتي:
أولاً: فرضية طلب الشيخ الكامل:
أول عقيدة نادى بها (بايزيد الأنصاري) هي فرضية طلب (الشيخ الكامل) أو (المرشد الكامل)، فمن يطلب الحق فرض عليه أن يبحث عن (الشيخ الكامل). ويستدل في ذلك – على حد زعمه – بالحديث القدسي: ومعرفتي إن كان مكانه في الصين أو في العجم أو في الشام انظر: ((صراط التوحيد)) (ص: 48)، نقلاً عن: ((باكستان مين فارسي ادب)) (ص: 575). .
يرى (بايزيد) أن الهداية الحقة لا تحصل إلا عن طريق الأنبياء، أو ورثة الأنبياء وهم (المشائخ الكاملون)، فلابد لطالب الحق من (الشيخ الكامل) الذي يهدي إلى معرفة الحق، والصراط المستقيم، وعلم التوحيد عن طريق القرآن والحديث، ويقول: (... تحصل الهداية الحقة، والصراط المستقيم، وعلم التوحيد عن الأنبياء – صلوات الله عليهم – أو عن ورثة الأنبياء، وهم (المشائخ الكاملون) فخذوها منهم حتى لا تضلوا، ولا تشقوا كما قال -تعالى-: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى [البقرة: 38] أي: نبي أو وارثه، وقوله تعالى: فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 38] أي: من عمل بالإخلاص بمتابعته، فلا يضل ولا يشقى) انظر: ((مقصود المؤمنين)) (ص: 192). .
ثانيا: وحدة الوجود:
بعد عقيدة (الشيخ الكامل) توصل (بايزيد الأنصاري) بتفكيره في الخالق والكون، واعتكافه الطويل إلى عقيدة (وحدة الوجود) حيث لم ير للأشياء وجوداً منفرداً مستقلاً عن ذاته تعالى؛ لأنه كان يعتقد أنه لا يمكن أن تتحرك الأشياء إلا بمحرك، ولا يوجد محرك حقيقي إلا الله تعالى، فالله هو المحرك الحقيقي، وهو الموجود المستقل.
يقول (بايزيد) عن أول أمره في البحث عن معرفة الحق: (فبدأت أصحب العلماء والزهاد والنساك، وأخدمهم راجياً منهم الهداية إلى معرفة الحق، وكنت أبحث في ذلك الوقت عن (المرشد الكامل) ولكني لم أجده حتى تفضل الله علي، وتجلى لي الرب، ورفع ستار قلبي، وأطلعني على عين اليقين، فرأيت ذاته تعالى بعين القلب في كل جهة بلا مثيل. ولم أر أي شيء منفرداً ومستقلاً عن ذاته –تعالى-. ولم أسمع أي صوت بلا تسبيحه تعالى بل قد رأيت علامة هذه الآية: وَإِن من شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44]، في نفسي واضحة جلية) انظر: ((صراط التوحيد)) (ص: 10)، نقلاً عن ((مقدمة مقصود المؤمنين)) (ص: 14-15). .
كان (بايزيد الأنصاري) يدعو إلى عقيدة (وحدة الوجود) طول حياته، ولم يترك مؤلفاً إلا وتناول فيه هذه العقيدة، إما بالإجمال أو بالتفصيل، كما أراه يستعين بالوسائل التوضيحية لتقريب هذه العقيدة إلى أفهام الناس، فيقول: (ذات الله –تعالى- كان في الإنسان، وحول الإنسان، كالماء في الحيتان، وحول الحيتان).
ثالثاً: الإلهام:
ومن أهم ما كان يعتقد (بايزيد) ويدعيه طول حياته، ويصر عليه، ويؤكده أنه ملهم من الله تعالى ويسمع نداء الغيب.
رابعاً: الذكر الخفي:
من أهم الأمور التي عنيت بها (الحركة الروشنية) عقيدة (الذكر الخفي) حيث اهتدى (بايزيد) إلى هذا الذكر أثناء اعتكافه، وعزلته عن الخلق، كما حكى ذلك عن نفسه انظر: ((مقدمة مقصود المؤمنين)) (ص: 14). ثم قرر فيما بعد هذا الذكر، كمبدأ من المبادئ الأساسية للفرقة.
ويرى (بايزيد) أن (الذكر الخفي) هو ذكر القلب بالنفس، وهو أن يدخل ويخرج كل نفس بذكر الله تعالى، ويعبر عنه (بايزيد) بـ علم الحقيقة، ويرى أن الإنسان مأمور بهذا الذكر، ويسوق في ذلك آيات كثيرة من القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف: 55]. وقوله تعالى: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف: 205].
خامساً: الأصول أو المقامات الثمانية:
هذه الأصول أو المقامات هي خلاصة دعوة (بايزيد)، وهي أهم ما يميز هذه الفرقة عن مثيلاتها التي نشأت في القرن العاشر الهجري. ويرى (بايزيد) أن هذه المقامات حصل عليها عن طريق (الإلهام) من الله تعالى، ولابد لطالب الحق أن يحقق هذه المقامات انظر: ((تذكرة صوفيائي سرحد)) (ص: 145). .
وقد خصص (بايزيد) النصف الأخير من كتابه (مقصود المؤمنين) للحديث عن هذه المقامات، كما أشار إليها في مؤلفاته الأخرى، وهي تتلخص فيما يأتي:
1- الشريعة:
يرى (بايزيد) أن الشريعة عبارة عن البناء المخمس، وهي: الكلمة الطيبة، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج. ويرى أن اتباع الشريعة ضروري لقوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الجاثية: 18].
يقول بايزيد: (ينبغي لأهل الشريعة ألا يتركوا علم الشريعة وعملها حتى يتم إيمانهم) انظر: ((مقصود المؤمنين)) (ص: 284). . ويقول أيضاً: (الشريعة مثل جلد الشجر، والشجر بغير الجلد يصير يابساً ويهلك ثمره) انظر: ((مقصود المؤمنين)) (ص: 285). .
يرى (بايزيد) أن الاستقامة والدوام على الشريعة واجب على المؤمن، ثم يجب عليه الانتقال إلى مقام الطريقة، ثم الحقيقة، ثم المعرفة؛ لأن الشريعة مثل الليل ونجومه الطريقة، وقمره الحقيقة، وأما المعرفة فهي مثل الشمس التي لا شيء فوقها.
يقول بايزيد: (أما بعد الاستقامة في الشريعة، فينبغي لأهل الشريعة ألا يتركوا علم الشريعة وعملها، وألا يسكنوا فيها دائماً وأن يرفعوا أقدامهم إلى الطريقة حتى لا يصيروا محجوبين عن علم الطريقة وعالمها وعملها، وأن يطلبوها بالصدق حتى يروا، ويجدوا، ويعرفوا علم الطريقة وعالمها وعملها) انظر: ((مقصود المؤمنين)) (ص: 286). .
ويقول أيضاً: (الشريعة مثل الليل، والطريقة مثل النجوم، والحقيقة مثل القمر، والمعرفة مثل الشمس، ليس فوق الشمس شيء) انظر: ((مقصود المؤمنين)) (ص: 283). .
2- الطريقة:
يرى (بايزيد) أن معرفة الطريقة والاستقامة عليها واجبة على المسلم، وعلمها فوق علم الشريعة، ويقول: (واعلم أن علم الطريقة وعالمها وعملها كان فوق علم الشريعة وعالمها، وعملها، فليفعلوا علم الطريقة، وعملها، إلى علم الشريعة وعملها) انظر: ((مقصود المؤمنين)) (ص: 286). .
ويقول أيضاً: (أما علم الطريقة فكان علم القلب، وعالم الطريقة: هو عالم الملكوت، وعمل الطريقة هو متابعة عالم الملكوت في العمل) انظر: ((مقصود المؤمنين)) (ص: 288). .
3- الحقيقة:
يرى (بايزيد) أن علم الحقيقة يتعلق بالروح، وعالم الحقيقة هو عالم الجبروت، وعالم الجبروت في نظره هو عالم الروح، ويجب على السالك أن يكون على علم من معرفة التوحيد، وأن يدعو الناس إلى هذه المعرفة.
4- المعرفة:
يرى (بايزيد) أن علم المعرفة هو علم يتعلق بذات الله تعالى وهو علم لدني من عند الله –تعالى- يحصل صاحبه على درجات عالية، ومناصب رفيعة.
5- القربة:
القربة – في نظر بايزيد – درجة أو مقام يسمع السالك فيه صوت الحق فقط، ويتلذذ بسماعه.
6- الوصلة
الوصلة – في نظر بايزيد – مقام يترك فيه السالك صفاته، فلا يرى، ولا يسمع، ولا يتحرك، ولا يمشي إلا بإرادته تعالى، ولا يقع نظره إلا على ذاته تعالى، وعلم الوصلة هو علم وصال الله تعالى وعمله هو كل عمل يتعلق بذات الله تعالى بترك الوجود.
ويرى (بايزيد) أن الذات الخفية تتجلى وتبرز بصورة الروح بصفة المحبوب، وليس للمحب في طور المحبة أثر ولا خبر؛ لأن المحب في حكم المحبوب محو، ليس له اختيار سوى اختيار المحبوب، فهو لا يتكلم إلا باختياره، وإرادته، ولا يمشي إلا بإرادته، ولا يضحك إلا باختياره، ولا يبكي إلا بإرادته، ولا يتحرك، ولا يسكن باختيار نفسه.
7- الوحدة:
الوحدة – في نظر بايزيد – مقام ينسى السالك فيه وجوده، ويترك الأوصاف البشرية، ويتخذ الأوصاف الربوبية، ويغيب عن نظره جميع الكائنات حتى نفسه.
ويرى أن علم الوحدة هو علم التوحيد، وعالم الوحدة هو عالم اللاهوت، وعمل الوحدة هو أن يذكر كل موحد وجوده بذكر (الاسم الأعظم) كالمذكور لا كالذاكر.
أما (الاسم الأعظم) فهو جامع الأسماء يهلك به الشرك ووصف البشرية، ويحصل به عالم التوحيد، ووصف الربوبية، ولا يجوز أن يقوله بالجهر.
8- السكونة:
يرى (بايزيد) أن علم السكونة هو سكونة الله. وعالم السكونة هو عالم المساكين، وعمل السكونة هو أن يسكن روحه في سكونة الله، وأن يزداد فيه وصف الربوبية، وأن يزول عنه وصف البشرية، وأن يتخلق بأخلاق الله تعالى، وأن يسكن عن طلب شيء فان، وألا يريد بقاء أكثر من بقاء الله، ومالاً وملكاً أكثر من ماله وملكه، ولا علماً وقوة وقدرة أزيد من علمه وقوته وقدرته، وألا يتمنى عزة وسلطاناً أفضل من عزته وسلطانه، إن أراد فلا يجده أبداً انظر: ((مقصود المؤمنين)) (ص: 345-348). .