الموسوعة الفقهية

المبحث الثاني: جَلْسةُ الاستراحةِ في الصَّلاةِ


اختَلَف أهلُ العلمِ في حكم جَلسةِ الاستراحةِ بعدَ السَّجدةِ الثانيةِ وقبلَ النهوضِ إلى الرَّكعةِ الثَّانيةِ، والرَّابعةِ، وذلك، على قولينِ:
القولُ الأوَّلُ: لا تُسنُّ جلسةُ الاستراحةِ إذا لم يحتجْ إليها، وهذا مذهبُ الجمهورِ: الحنفيَّةِ ((البناية)) للعيني (2/250)، وينظر: ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (1/150). ، والمالكيَّةِ ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (1/ 272)، وينظر: ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/137)، ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (1/473). ، والحنابلةِ ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/355)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/380). ، وقولٌ للشافعيَّةِ ((روضة الطالبين)) للنووي (1/260). ، واستظهَرَه ابنُ القيِّمِ قال ابنُ القيِّم: (جلسة الاستراحة لا ريبَ أنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فعَلَها، ولكن هل فعلها على أنَّها من سُنن الصلاة وهيئاتها كالتَّجافي وغيره، أو لحاجته إليه لَمَّا أسنَّ وأخذه اللحم؟ وهذا الثاني أظهر لوجهين: أحدهما: أنَّ فيه جمعًا بينه ويبن حديث وائل بن حجر وأبي هريرة أنه كان ينهضُ على صدور قدميه. الثاني: أنَّ الصحابة الذين كانوا أحرصَ الناس على مشاهدة أفعاله وهيئات صلاته كانوا ينهضون على صدور أقدامهم..) ((الصلاة وأحكام تاركها)) (ص: 167). ، واختارَه ابنُ عُثَيمين قال ابن عُثَيمين: (هذا القول هو الذي أميل إليه أخيرًا؛ وذلك لأنَّ مالك بن الحويرث قدم على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يتجهَّز في غزوة تبوك والنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ذلك الوقت قد كبِر وبدأ به الضعف، وفي صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «لَمَّا بدَّن رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وثقُل كان أكثر صلاته جالسًا»، وسألها عبد الله بن شقيق: هل كان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصلِّي وهو قاعد؟ قالت: «نعم، بعدَما حَطَمَه النَّاسُ»، وقالت حفصة - رضي الله عنها -: «ما رأيت النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصلِّي في سبحته قاعدًا، حتى كان قبل وفاته بعام فكان يصلِّي في سبحته قاعدًا»، وفي رواية: «بعام واحد أو اثنين»، وكل هذه الرِّوايات في صحيح مسلم، ويؤيِّد ذلك أنَّ في حديث مالك بن الحويرث ذكر الاعتماد على الأرض والاعتماد على الشيء إنما يكون عند الحاجة إليه). ((مجموع فتاوى ورسائل العُثَيمين)) (13/218).
أوَّلًا: من السُّنَّة
عن معاويةَ رضيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تُبادِروني في الرُّكوعِ والسُّجودِ؛ فإنِّي قد بدَّنْتُ )) رواه أبو داود (619)، وابن ماجه (797)، وأحمد (4/92) (16884). احتجَّ به ابن حزم في ((المحلى)) (4/158)، وصحَّحه ابن تيميَّة في ((مجموع الفتاوى)) (23/336)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (619): حسن صحيح. وحسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1138)
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ في الحديثِ إشارةً إلى أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان يفعَلُها لهذا السَّببِ، فلا يُشرَعُ إلَّا في حقِّ مَن اتَّفَقَ له نحوُ ذلك ((فتح الباري)) لابن حجر (2/302).
ثانيًا: أنَّ أكثرَ الأحاديثِ في صفةِ صلاةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليس فيها ذِكرُ شيءٍ مِن جَلسةِ الاستراحةِ، ولو كانت سنَّةً لذكَرَها كلُّ مَن وصَفَ صلاتَه، فيُقوِّي أنَّه فعَلَها للحاجةِ ((فتح الباري)) لابن رجب (5/142)، ((فتح الباري)) لابن حجر (2/302).
ثالثًا: أنَّ جَلسةَ الاستراحةِ لو كانت مقصودةً، لشُرِع لها ذِكرٌ مخصوصٌ ((فتح الباري)) لابن حجر (2/302)
القول الثاني: تُسنُّ جلسةُ الاستراحةِ، فمن قام للرَّكعةِ الثَّانيةِ أو قام للرَّكعةِ الرَّابعةِ فإنَّه لا يقومُ حتَّى يستويَ جالسًا، وهذا مذهبُ الشافعيَّةِ ((المجموع)) للنووي (3/442)، ((حاشية الجمل على شرح المنهج)) (1/381). ، وروايةٌ عن أحمدَ ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/355). ، وطائفةٍ مِن أصحابِ الحديثِ ((المجموع)) للنووي (3/443)، ((فتح الباري)) لابن حجر (2/302). ، وهو قولُ داودَ الظَّاهريِّ ((المجموع)) للنووي (3/443). ، واختارَه الشَّوكانيُّ قال الشَّوكانيُّ: (الحديث فيه مشروعيَّة جِلسة الاستراحة، وهي بعد الفراغ من السجدة الثانية وقبل النهوض إلى الركعة الثانية والرابعة، وقد ذهب إلى ذلك الشافعيُّ في المشهور عنه، وطائفةٌ من أهل الحديث، وعن أحمد رِوايتان) ((نيل الأوطار)) (2/312). ، وابنُ بازٍ قال ابن باز: (الأفضل للمصلِّي أن يجلس جِلسةً خفيفة بعد السجود الثاني، يُسمِّيها بعض الفقهاء جلسة الاستراحة يجلس على رِجله اليسرى مفروشة، وينصب اليمنى مثل حالِه بين السجدتين، ولكنها خفيفة ليس فيها ذكر ولا دعاء، هذا هو الأفضل، وإنْ قام ولم يجلس فلا حرج، لكن الأفضل أن يجلسَها كما فعلها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال بعض أهل العلم: إنَّ هذا يفعل عند كِبَر السنِّ وعند المرض، ولكن الصحيح أنَّها سُنَّة من سُنن الصلاة مطلقةً للإمام والمنفرد والمأموم؛ لعموم قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «صلُّوا كما رأيتُموني أصلِّي»، ولو كان المصلي شابًّا أو صحيحًا فهي مستحبَّة على الصحيح، ولكنها غير واجبة؛ لأنَّه رُوي عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه تركها في بعض الأحيان، ولأنَّ بعض الصحابة لم يذكرها في صفة صلاته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فدلَّ ذلك على عدم الوجوب). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (11/38، 39). ، والألبانيُّ ((أصل صفة صلاة النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) (3/816).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من السُّنَّة
1- عن مالكِ بنِ الحُوَيرثِ: ((أنَّه رأى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصلِّي، فإذا كان في وِتْرٍ مِن صلاتِه لم ينهَضْ حتَّى يستويَ قاعدًا))، وفي روايةٍ: ((جاءنا مالكُ بنُ الحُوَيرثِ في مسجدِنا هذا فقال: إنِّي لَأُصلِّي بكم وما أُريدُ الصَّلاةَ، أُصلِّي كيف رأَيْتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصلِّي، فقلتُ لأبي قِلابةَ: كيف كان يُصلِّي؟ قال: مِثْلَ شيخِنا هذا، قال: وكان شيخًا، يجلِسُ إذا رفَعَ رأسَه مِن السُّجودِ قبْلَ أنْ ينهَضَ في الرَّكعةِ الأولى )) رواه البخاري (823) والرِّواية الثانية: رواها البخاري (677)
2- عن أبي حُمَيدٍ رضيَ اللهُ عنه، أنَّه وصَفَ صلاةَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ((ثم هوَى ساجدًا، ثم ثنَى رِجْلَه وقعَد حتَّى رجَعَ كلُّ عَظْمٍ موضِعَه، ثم نهَض.... فقالوا: صدَقْتَ )) أخرجه أبو داود (730)، والترمذي (304)، وابن ماجه (1061) قال الترمذيُّ: حسنٌ صحيح. وصحَّح إسنادَه على شرط مسلم النَّوويُّ في ((المجموع)) (3/443)، وصحَّحه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (3/675)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (1061).
ثانيًا: أنَّ ما وقَعَ في الصَّلاةِ، فالظَّاهرُ أنَّه مِن هيئتِها، لا سيَّما الفعلِ الزَّائدِ الذي تقتضي الصَّلاةُ مَنْعَه ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق العيد (ص: 160).

انظر أيضا: