الموسوعة الفقهية

المطلب الأوَّلُ: حُكمُ قراءةِ الفاتحةِ في الصَّلاةِ


الفَرْعُ الأول: حُكمُ قراءةِ الفاتحةِ للإمامِ والمنفردِ
قراءةُ الفاتحةِ للإمامِ والمنفردِ ركنٌ مِن أركانِ الصَّلاةِ، وهذا مذهبُ الجمهور: المالكيَّةِ ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/211، 212)، وينظر: ((الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوي)) (1/343). ، والشافعيَّةِ ((نهاية المحتاج)) للرملي (1/476)، وينظر: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/149). ، والحنابلةِ ((الإقناع)) للحجاوي (1/133)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/216). ، وداودَ الظَّاهريِّ قال ابن عبد البرِّ: (وأمَّا اختلافُ العلماءِ في هذا البابِ؛ فإنَّ مالكًا والشافعيَّ وأحمد وإسحاق وأبا ثور وداود ابن علي وجمهور أهل العلم قالوا: لا صلاةَ إلَّا بفاتحةِ الكتاب) ((التمهيد)) (20/192). ، وجمهورِ أهلِ العِلمِ مِن الصَّحابةِ والتَّابعينَ ومَن بعدَهم قال النَّوويُّ: (مذهَبُنا أنَّ الفاتحة متعيِّنة، لا تَصِحُّ صلاةُ القادرِ عليها إلَّا بها، وبهذا قال جمهورُ العلماء، مِن الصحابة والتابعين فمَن بعدَهم، وقد حكاه ابنُ المنذر عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن العاص، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وخوات بن جبير، والزهري، وابن عون، والأوزاعي، ومالك، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وحكاه أصحابنا عن الثوري وداود) ((المجموع)) (3/327). وينظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (20/192).
الأدلة مِن السُّنَّةِ:
1- عن عُبادةَ بنِ الصَّامتِ رضيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا صلاةَ لِمَن لم يقرَأْ بفاتحةِ الكتابِ )) رواه البخاري (756)، ومسلم (394).
وجهُ الدَّلالةِ
أنَّ قولَه: ((لا صلاةَ)) ظاهرُه حملُ النَّفيِ فيه على الصِّحةِ ((نيل الأوطار)) للشوكاني (2/243).
2- عن أبي هريرةَ: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من صلَّى صلاةً لم يقرأْ فيها بفاتحةِ الكِتابِ، فهي خِداجٌ )) يقولُها ثلاثًا [1874] رواه مسلم (395)
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ قولَه ((خِداج)) معناه: ناقصةٌ، والأصل أنَّ الصَّلاةَ الناقصةَ لا تُسمَّى صلاةً حقيقةً ((نيل الأوطار)) للشوكاني (2/243).

الفَرْعُ الثاني: حُكمُ قراءةِ الفاتحةِ للمأمومِ في الصَّلاةِ الجَهريَّةِ
لا تجبُ قراءةُ الفاتحةِ على المأمومِ في الصَّلاةِ الجَهريَّةِ، وهذا مذهبُ الحنفيَّةِ  [1876] مذهب الحنفية أنه لا تجب قراءتها، لا في الجهرية ولا في السرية. ((العناية)) للبابرتي (1/338)، ((البناية)) للعيني (2/313). ، والمالكيَّةِ ((الكافي)) لابن عبد البرِّ (1/201)، وينظر: ((القوانين الفقهية)) لابن جُزَي (ص: 44). قال ابنُ عبد البرِّ: (ولا ينبغي لأحدٍ أن يدعَ القراءةَ خلفَ إمامِه في صلاة السرِّ الظُّهر والعصرِ والثالثة مِن المغربِ والأُخرتين مِن العشاء، فإن فعَل فقد أساء، ولا شيءَ عليه عند مالكٍ وأصحابِه). ، والحنابلةِ ((الإنصاف)) للمرداوي (2/163). لكن يستحبُّ للمأموم أن يقرأَ في سكتات الإمام وفيما لا يجهرُ فيه. وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/406)، ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (1/601)، ((الروض المربع)) للبهوتي (ص: 126). ، والقديمُ عند الشافعيَّةِ ((المجموع)) للنووي (3/364)، ((البيان)) للعمراني (2/194). ، وهو قولُ أكثرِ السَّلفِ [1880] قال ابنُ تَيميَّة: (والثالث - وهو قولُ أكثر السَّلف -: أنَّه إذا سَمِعَ قراءةَ الإمامِ أَنْصَت، ولم يقرأ؛ فإنَّ استماعَه لقراءة الإمامِ خَيْرٌ من قراءته، وإذا لم يسمَعْ قراءته قرأ لنَفْسِه، فإنَّ قراءتَه خيرٌ من سكوتِه؛ فالاستماعُ لقراءة الإمام أفضلُ من القراءة، والقراءةُ أفضل من السكوت) ((الفتاوى الكبرى)) (2/286). ، وبه قال ابنُ تيميَّةَ [1881] قال ابنُ تَيميَّة: (وهذا مِثلُ تنازُعهم في قراءَةِ الفاتحة خَلْفَ الإمامِ حالَ الجهر؛ فإنَّ للعلماءِ فيه ثلاثةَ أقوالٍ، قيل: ليس له أن يقرَأَ حالَ جَهْرِ الإمامِ إذا كان يسمَعُ، لا بالفاتحة ولا غيرها، وهذا قولُ الجمهورِ من السَّلَف والخلَف. وقول الجمهورِ هو الصَّحيحُ؛ فإن الله سبحانه قال: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ **الأعراف: 204**، قال أحمد: أجمَع الناسُ على أنَّها نزلت في الصَّلاة، وقد ثبت في الصَّحيح من حديث أبي موسى عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إنما جُعِل الإمامُ ليؤتمَّ به؛ فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا قرأ فأنْصِتوا، وإذا كبَّر وركع فكبِّروا واركعوا؛ فإنَّ الإمامَ يَرْكَع قَبْلَكم، ويرفع قَبْلَكم، فتلك بتلك)) الحديث إلى آخره) ((مجموع الفتاوى)) (22/294-295).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِن الكتابِ
قال تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف: 204]
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
قال الإمامُ أحمدُ: أجمَعَ النَّاسُ على أنَّ هذه الآيةَ في الصَّلاةِ ((المغني)) لابن قدامة (1/407)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/295).
ثانيًا: من السُّنَّة
عن أبي موسى الأشعريِّ رضيَ اللهُ عنه، قال: ((إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خطَبَنا فبيَّنَ لنا سُنَّتَنا وعلَّمَنا صلاتَنا، فقال: إذا صلَّيْتُم فأقِيموا صفوفَكم، ثمَّ لْيَؤُمَّكم أحدُكم، فإذا كبَّرَ فكبِّروا، وإذا قرَأ فأنصِتوا )) رواه مسلم (404).
ثالثًا: مِن الآثار
عن عطاءِ بنِ يَسارٍ: أنَّه سأَل زيدَ بنَ ثابتٍ عن القراءةِ مع الإمامِ؟ فقال: لا قراءةَ مع الإمامِ في شيءٍ رواه مسلم (577).
رابعًا: أنَّ المأمومَ مخاطَبٌ بالاستماعِ إجماعًا، فلا يجبُ عليه ما ينافيه؛ إذ لا قدرةَ له على الجمعِ بينهما، فصار نظيرَ الخُطبةِ، فإنَّه لَمَّا أُمِرَ بالاستماعِ، لا يجبُ على كلِّ واحدٍ أنْ يخطُبَ لنفسِه، بل لا يجوزُ، فكذا هذا ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/131).
خامسًا: أنَّه لو كانتِ القراءةُ في الجَهر واجبةً أو مستحبَّةً على المأمومِ، للزِم إمَّا أنْ يقرَأَ مع الإمامِ، وقراءتُه معه منهيٌّ عنها بالكتابِ والسنَّةِ، وإمَّا أنْ يسكُتَ الإمامُ له حتَّى يقرَأَ، وهذا غيرُ واجبٍ بلا نزاعٍ بين العلماءِ، بل ولا يُستحَبُّ عند جماهيرِ العُلماءِ [1886] ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (2/172).
سادسًا: أنَّه لم يُنقَلْ أنَّ الصَّحابةَ كانوا يقرَؤونَ خلفَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَكْتَتِه الأُولى أو الثانية، ولو كان مشروعًا لكانوا أحقَّ النَّاسِ بعِلمِه وعمَلِه، ولتوفَّرتِ الهِمَمُ والدَّواعي على نقلِه [1887] ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (2/173).

الفَرعُ الثَّالِثُ: حُكمُ قِراءةِ الفاتحةِ للمأمومِ في الصَّلاةِ السِّرِّيَّةِ
يجبُ على المأمومِ قراءةُ الفاتحةِ في الصَّلاةِ السِّرِّيَّةِ، وهذا مذهبُ الشَّافعيَّةِ                   [1]   ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/ 156)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (1/ 476).     ، واختيارُ ابنِ العَربيِّ من المالِكيَّةِ            [2]   قال ابنُ العربيِّ: (الصَّحيحُ عندي وجوبُ قراءتِها فيما يُسَرُّ) ((أحكام   القرآن)) (1/ 10). وينظر: ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (1/ 237).     ، وبه قال ابنُ حزمٍ            [3]   قال ابنُ حزمٍ: (قراءةُ أمِّ القرآنِ: فَرضٌ في كلِّ ركعةٍ من كلِّ صلاةٍ، إمامًا   كان أو مأمومًا) ((المحلى)) (2/ 265).     ، والصَّنعانيُّ            [4]   قال الصَّنعانيُّ: (وأمَّا المؤتمُّ فدخولُه في ذلك واضِحٌ، وزاد إيضاحًا في قولِه:   [وفي أُخرى] من روايةِ عُبادةَ لأحمدَ، وأبي داودَ، والتِّرمذيِّ، وابنِ حِبَّانَ:   «لعلَّكم تقرؤونَ خَلفَ إمامِكم؟ قُلنا، نعم، قال: لا تفعلوا إلَّا بفاتحةِ الكتابِ؛   فإنَّه لا صلاةَ لمَن لم يقرأْ بها»؛ فإنَّه دليلٌ على إيجابِ قراءةِ الفاتحةِ خَلفَ   الإمامِ تخصيصًا، كما دلَّ اللَّفظُ الذي عند الشَّيخينِ لعُمومِه، وهو أيضًا ظاهرٌ   في عمومِ الصَّلاةِ الجهريَّةِ والسِّرِّيةِ) ((سبل السلام)) (1/ 254).     ، والشَّوكانيُّ            [5]   قال الشَّوكانيُّ: (وظاهِرُ هذه الأدِلَّةِ وجوبُ قراءةِ الفاتحةِ في كُلِّ ركعةٍ،   من غيرِ فرقٍ بينَ الإمامِ والمأمومِ، وبينَ إسرارِ الإمامِ...) ((نيل الأوطار))   (2/ 247).     ، وابنُ بازٍ              [6]   قال ابنُ باز: (اختلف العُلَماءُ في وجوبِها على المأمومِ على أقوالٍ: ... والأرجَحُ   أنَّها واجبةٌ عليه في السِّرِّ ...) ((فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر))   (8/ 72، 73).     ، وابنُ عُثَيمين            [7] قال   ابنُ عُثَيمين: (الصَّوابُ في هذه المسألةِ: أنَّ قراءةَ   الفاتحةِ واجِبةٌ على الإمامِ والمأمومِ والمنفَرِدِ في السِّرِّيَّةِ ... إلَّا   المسبوقَ) ((فتح ذي الجلال والإكرام)) (2/70).     ، والألبانيُّ            [8]   قال الألبانيُّ: (وجوبُ القراءةِ في السِّرِّيَّةِ.. وأمَّا في السِّرِّيَّةِ فقد   أقرَّهم على القراءةِ فيها...) ((أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم)) (3/   1055).     ، وأفتت به اللَّجنةُ الدَّائمةُ            [9]   جاء في فتاوى اللَّجنةِ الدَّائمةِ: (الصَّحيحُ من أقوالِ العُلَماءِ وجوبُ قراءةِ   الفاتحةِ في الصَّلاةِ على المنفَرِدِ والإمامِ والمأمومِ في الصَّلاةِ ... السِّرِّيَّةِ)   (فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الأولى)) (6/386).     .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: من السُّنَّةِ
1- عن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رضِي اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا صلاةَ لمن لم يقرأْ بفاتحةِ الكتابِ))            [10]   رواه البخاري (756)، ومسلم (394).     .
وجهُ الدَّلالةِ:
قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا صلاةَ)) أنَّه نفى الصَّلاةَ لمن لم يقرأْ بفاتحةِ الكتابِ عُمومًا، ولم يخُصَّ منها حالًا من أحوالِ المصلِّي            [11]   ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى)) (6/410).     ، ومَن: اسمٌ موصولٌ، واسمُ الموصولِ يفيدُ العُمومَ، بمعنى: أيُّ إنسانٍ لم يقرأِ الفاتحةَ فلا صلاةَ له، سواءٌ أكان مأمومًا، أم إمامًا، أم مُنفرِدًا              [12] ((الشرح   الممتع)) لابن عثيمين (4/ 173)     .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضِي اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن صلَّى صلاةً لم يقرأْ فيها بفاتحةِ الكتابِ، فهي خِداجٌ. يقولُها ثلاثًا))            [13]   رواه مسلم (395).     .
وجهُ الدَّلالةِ:
قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فهي خِداجٌ)) بمعنى: فاسدةٍ غيرِ صحيحةٍ            [14]   ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (13/151).     .
ثانيًا: لأنَّ أمْرَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقراءتِها عامٌّ في كُلِّ صلاةٍ وحالةٍ، وخُصَّ من ذلك حالةُ الجَهرِ بوُجوبِ فَرضِ الإنصاتِ، وبقِيَ العُمومُ في غيرِ ذلك على ظاهرِه            [15]   ((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/10).     .
ثالثًا: لأنَّه لا معنى لسُكوتِ المأمومِ فيما لا يجهَرُ فيه الإمامُ            [16]   ينظر: ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/ 162).     .

مسألة: قِراءةُ المأمومِ مَا زادَ على الفَاتِحةِ
على المأمومِ أنْ يستَمِعَ لقِراءةِ إمامِه فيما زادَ على الفاتحةِ.
الدَّليل من الإجماع:
نقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ تَيميَّة قال ابنُ تَيميَّة: (وقدْ أجمَعوا على أنَّه فيما زاد على الفاتحة، كونُه مستمعًا لقِراءة إمامه خيرٌ من أنْ يقرأ معه). ((مجموع الفتاوى)) (18/21). وقال أيضًا: (والأمَّة متَّفقة على أنَّ استماعَه لِمَا زاد على الفاتحة أفضلُ مِن قراءته لِمَا زاد عليها). ((مجموع الفتاوى)) (23/270).

انظر أيضا: