الموسوعة الفقهية

المَطْلَبُ الثَّاني: كونُ المَبِيعِ مَوجودًا حالَ العَقْدِ


يُشْتَرطُ في المَبيعِ أن يكونَ مَوجودًا (غيرَ مَعدومٍ) حالَ العَقْدِ المُرادُ به هوَ المَعدومُ عِندَ العَقْدِ، كأن يَبيعَ ثَمَرَ الشَّجَرةِ سَنَتَينِ أو ثَلاثًا أو أربَعَ سِنينَ، ويُستَثنَى مِن ذلك بَيعُ السَّلَمِ، وهوَ المَعدومُ المَوصوفُ في الذِّمَّةِ. قال ابنُ القَيِّمِ: (المَعدومُ ثَلاثةُ أقسامٍ: مَعدومٌ مَوصوفٌ في الذِّمَّةِ، فهَذا يَجوزُ بَيعُه اتِّفاقًا، وإن كانَ أبو حَنيفةَ شَرطَ في هَذا النَّوعِ أن يَكونَ وقتَ العَقْدِ في الوُجودِ مِن حَيثُ الجُملةُ، وهَذا هوَ السَّلَمُ... والثَّاني: مَعدومٌ تَبَعٌ لِلمَوجودِ، وإن كانَ أكثَرَ مِنه، وهوَ نَوعانِ: نَوعٌ مُتَّفَقٌ عليه، ونَوعٌ مُختَلَفٌ فيه؛ فالمُتَّفَقُ عليه بَيعُ الثِّمارِ بَعدَ بُدُوِّ صَلاحِ ثَمَرةٍ واحِدةٍ مِنها، فاتَّفَقَ النَّاسُ على جَوازِ بَيعِ ذلك الصِّنفِ الَّذي بَدا صَلاحُ واحِدةٍ مِنه، وإن كانَت بَقيَّةُ أجزاءِ الثِّمارِ مَعدومةً وقتَ العَقدِ، ولَكِن جازَ بَيعُها تَبَعًا لِلمَوجودِ، وقَد يَكونُ المَعدومُ مُتَّصِلًا بالمَوجودِ، وقَد يَكونُ أعيانًا أُخَرَ مُنفَصِلةً عَنِ الوُجودِ لَم تُخلَق بَعدُ. والنَّوعُ المُختَلَفُ فيه كبيعِ المَقاثِئِ والمَباطِخِ إذا طابَت، فهَذا فيه قَولانِ؛ أحَدُهما: أنَّه يَجوزُ بَيعُها جُملةً، ويَأخُذُها المُشتَري شَيئًا بَعدَ شَيءٍ، كما جَرَت به العادةُ، ويَجري مَجرَى بَيعِ الثَّمَرةِ بَعدَ بُدُوِّ صَلاحِها، وهَذا هوَ الصَّحيحُ مِنَ القَولَينِ الَّذي استَقَرَّ عليه عَمَلُ الأمَّةِ، ولا غِنَى لَهم عنه، ولَم يَأتِ بالمَنعِ مِنه كِتابٌ ولا سُنَّةٌ ولا إجماعٌ، ولا أثَرٌ ولا قياسٌ صَحيحٌ، وهوَ مَذهَبُ مالِكٍ وأهْلِ المَدينةِ، وأحَدُ القَولَينِ في مَذهَبِ أحمَدَ، وهوَ اختيارُ شَيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ. الثَّالِثُ: مَعدومٌ لا يُدرَى يَحصُلُ أو لا يَحصُلُ، ولا ثِقةَ لِبائِعِه بحُصولِه، بَل يَكونُ المُشتَري مِنه على خَطَرٍ، فهَذا الَّذي مَنعَ الشَّارِعُ بَيعَه لا لِكَونِه مَعدومًا، بَل لِكَونِه غَرَرًا، فمِنه صورةُ النَّهيِ الَّتي تَضَمَّنَها حَديثُ حَكيمِ بنِ حِزامٍ وابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، فإنَّ البائِعَ إذا باعَ ما لَيسَ في مِلْكِه، ولا لَه قُدرةٌ على تَسليمِه؛ ليَذهَبَ ويُحصِّلَه، ويُسَلِّمَه إلَى المُشتَري، كانَ ذلك شَبيهًا بالقِمارِ والمُخاطَرةِ مِن غَيرِ حاجةٍ بهما إلَى هَذا العَقْدِ، ولا تَتَوَقَّفُ مَصلَحَتُهما عليه، وكَذلك بَيعُ حَبَلِ الحَبَلةِ، وهوَ بَيعُ حَملِ ما تَحمِلُ ناقَتُه) ((زاد المعاد)) (5/716). لَكِنَّ ابنَ تيميَّةَ وابنَ القَيِّمِ قالا بجَوازِ بَيعِ بَعضِ المَعدومِ، وأنَّ العِلَّةَ في النَّهيِ عَن بَيعِ أنواعٍ مِنَ المَعدومِ لَيسَت هيَ العَدَمَ، بَلِ العِلَّةُ في النَّهْي هوَ الغَرَرُ؛ قال ابنُ تيميَّةَ: (لَيسَ في كِتابِ اللهِ ولا سُنَّةِ رَسولِه، بَل ولا عَن أحَدٍ مِنَ الصَّحابةِ أنَّ بَيعَ المَعدومِ لا يَجوزُ، لا لَفظٌ عامٌّ ولا مَعنًى عامٌّ، وإنَّما فيه النَّهيُ عَن بَيعِ بَعضِ الأشياءِ الَّتي هيَ مَعدومةٌ كما فيه النَّهيُ عَن بَيعِ بَعضِ الأشياءِ الَّتي هيَ مَوجودةٌ ولَيسَتِ العِلَّةُ في المَنعِ لا الوُجودَ ولا العَدَمَ، بَل الَّذي ثَبَتَ في الصَّحيحِ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه نَهَى عَن بَيعِ الغَرَرِ، والغَرَرُ: ما لا يُقدَرُ على تَسليمِه سَواءٌ كانَ مَوجودًا أو مَعدومًا) ((مجموع الفتاوى)) (20/542). وقال ابنُ القَيِّمِ: (لَيسَ في كِتابِ اللهِ ولا في سُنَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا في كلامِ أحَدٍ مِنَ الصَّحابةِ أنَّ بَيعَ المَعدومِ لا يَجوزُ، لا بلَفظٍ عامٍّ ولا بمَعنًى عامٍّ، وإنَّما في السُّنَّة النَّهيُ عَن بَيعِ بَعضِ الأشياءِ الَّتي هيَ مَعدومةٌ، كما فيها النَّهيُ عَن بَيعِ بَعضِ الأشياءِ المَوجودةِ؛ فلَيسَتِ العِلَّةُ في المَنعِ لا العَدَمَ ولا الوُجودَ، بَل الَّذي ورَدَت به السُّنَّةُ النَّهيُ عَن بَيعِ الغَرَرِ، وهوَ ما لا يُقْدَرُ على تَسليمِه، سَواءٌ كانَ مَوجودًا أو مَعدومًا) ((إعلام الموقعين)) (2/7). ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربعةِ: الحَنَفيَّةِ ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/279)، ((حاشية ابن عابدين)) (4/505). ، والمالِكيَّةِ لا يجوزُ عِنْدَهم بيعُ المجهولِ، والمعدومُ أبلَغُ من المجهولِ، فلا يجوزُ مِن بابِ أَولى. ((تهذيب الفروق لمحمد بن حسين، مطبوع مع الفروق للقرافي)) (3/296) ((الرسالة)) لابن أبي زيد القيرواني (ص 104)، ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (2/150) ((الذخيرة)) للقرافي (5/257)، كما منع المالِكيَّةُ بَيْعَ النَّجِسِ وقاسوه على بيعِ المعدومِ، وقالوا: إن المعدومَ شَرعًا كالمعدومِ حِسًّا. ينظر: ((مواهب الجليل)) للحطَّاب (6/59)، ((منح الجليل)) لعُلَيش (4/454). ، والشَّافِعيَّةِ ((المجموع)) للنووي (9/258). ، والحَنابِلةِ ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/361)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/162)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (3/200) ويُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (2/7). ، ونُقِل الإجْماعُ على ذلك ((المجموع)) للنووي (9/258)، ((روضة الطالبين)) للنووي (3/399).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1 - عن أبي هُرَيرةَ قال: ((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بَيعِ الحَصاةِ، وعن بَيعِ الغَرَرِ )) أخرجه مسلم (1513).
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ بَيعَ المَعدومِ بَيْعُ غَرَرٍ؛ لأنَّه غَيرُ مَعلومٍ عاقِبَتُه، فيَدخُلُ في النَّهيِ المَذكورِ في الحَديثِ ((الكافي)) لابن قدامة (2/8). وينظر: ((المهذب)) للشيرازي (2/12).
2 - عن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ قال: ((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ المُحاقَلةِ، والمُزابَنةِ، والمُعاوَمةِ، والمُخابَرةِ -قال أحَدُهما: بَيْعُ السِّنينَ هيَ المُعاوَمةُ- وعنِ الثُّنْيا، ورَخَّصَ في العَرايا )) أخرجه مسلم (1536).
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّهْيَ عن بَيْعِ السِّنينَ [520] بيعُ السِّنينَ أو بَيْعُ المعاوَمةِ هو: أن يبيعَ ثَمَرَ الشَّجَرةِ عامَينِ أو ثلاثةً أو أكثَرَ. ينظر: ((معالم السنن)) للخطابي (3/97)، ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (10/193). هو بَيعُ مَعدومٍ؛ لأنَّه يَبيعُ شَيئًا غَيرَ مَوجودٍ ولا مَخلوقٍ حالَ العَقْدِ، ولا يُدرى هَل يَكونُ ذلك أم لا، وهَل يَتِمُّ أم لا؟ فيَدخُلُ في النَّهيِ ((معالم السنن)) للخطابي (3/86). ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (10/193).
ثانيًا: لأنَّ المَعدومَ أبلَغُ في الجَهالةِ مِنَ المَجهولِ المَوجودِ؛ لأنَّ المَجهولَ المَوجودَ لهُ ثُبوتٌ مِن بَعضِ الوُجوهِ بخِلافِ المَعدومِ؛ فإنَّه نَفيٌ مَحْضٌ، وبَيعُ المَجهولِ المَوجودِ باطِلٌ قَطعًا، فيَبْطُلُ بطَريقِ الأَولى بَيعُ المَعدومِ ((تهذيب الفروق لمحمد بن علي المالكي، مع الفروق للقرافي)) (3/296).

انظر أيضا: