الموسوعة الفقهية

المَطْلَبُ الثَّاني: البَيْعُ بالكِتابةِ  ويَصِحُّ البيعُ أيضًا عن طريقِ الكِتابةِ ببرامِجِ المحادَثةِ بالإنترنتِ وعَبْرَ المتاجِرِ الإلكترونيَّةِ أو الفاكسِ والتِّلكسِإلخ وسيأتي الحديثُ عنه في مسألةِ: البَيعُ بوَسائِلِ الاتِّصالِ الحديثةِ


يَصِحُّ البَيعُ بالكِتابةِ مُطلَقًا، سَواءٌ كانا حاضِرَينِ أم غائِبَينِ [216] ذهب الحنفيَّةُ والحنابِلةُ إلى صِحَّةِ البَيعِ بالكتابةِ للغائِبِ. ينظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/4)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/148). ، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ [217] ((الشرح الكبير)) للدردير (3/3)، ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (3/3). ، والشَّافِعيَّةِ في المعتَمَدِ [218] يَنعَقِدُ عِندَهم بالكتابةِ مع النِّيَّةِ؛ لأنَّه كنايةٌ. ((المجموع)) للنووي (9/167)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (4/222)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (2/5). ، وهو اختيارُ الشَّوكانيِّ [219] قال الشَّوكاني: (أمَّا... صِحَّةُ البَيعِ بالكتابةِ فصَحيحٌ؛ لأنَّها من جملةِ المُشعِراتِ بالرِّضا وطِيبِ النَّفسِ) ((السيل الجرار)) (ص: 478). وقال: (إنَّ كُلَّ مُشْعرٍ بالتَّراضي يَحصُلُ به البَيعُ والشِّراءُ الشَّرعيَّانِ حُصولًا لا يَخفَى على عارِفٍ، ولَو كانَ بالإشارةِ مِن قادِرٍ على النُّطقِ، أو بالكِتابةِ، أو بمُجَرَّدِ التَّقابُضِ مِن غَيرِ لَفظٍ أصلًا إذا عُرِفَ مِن ذلك التَّراضي) ((السيل الجرار)) (ص: 540). ، ودَلَّ عليه كلامُ ابنِ تَيمِيَّةَ قال ابنُ تيميَّةَ: (كُلُّ ما عَدَّه النَّاسُ بَيعًا أو هِبةً مِن مُتعاقِبٍ أو متراخ ٍمنِ قَولٍ أو فِعلٍ، انعقد به البيعُ والهِبةُ) ((الفتاوى الكبرى)) (5/387). وقال: (الِاكتِفاءُ في العُقودِ المُطلَقةِ بما يَعرِفُه النَّاسُ، وأنَّ ما عَدَّه النَّاسُ بَيعًا فهوَ بَيعٌ، وما عَدُّوه إجارةً فهوَ إجارةٌ، وما عَدُّوه هِبةً فهوَ هِبةٌ، وما عَدُّوه وَقفًا فهوَ وقفٌ؛ لا يُعتَبَرُ في ذلك لَفظٌ مُعَيَّنٌ) ((مجموع الفتاوى)) (20/230)، وينظر: ((الإنصاف)) للمرداوي (4/190). ، وابنِ القَيِّمِ قال ابنُ القَيِّمِ: (فرَّقتُم بَينَ ما جَمَعَ اللهُ بَينَه مِن عَقَدَينِ مُتَساويَينِ مِن كُلِّ وجهٍ، وقَد صَرَّحَ المُتَعاقِدانِ فيهما بالتَّراضي، وعَلِمَ اللهُ سُبحانَه تَراضِيَهما والحاضِرونَ، فقُلتُم: هَذا عَقْدٌ باطِلٌ لا يُفيدُ المِلكَ ولا الحِلَّ حَتَّى يُصرِّحا بلَفظِ: بِعْتُ واشتَريتُ، ولا يَكفيهما أن يَقولَ كُلُّ واحِدٍ مِنهما: أنا راضٍ بهَذا كُلَّ الرِّضا، ولا قَد رَضِيتُ بهَذا عِوَضًا عَن هَذا، مَعَ كونِ هَذا اللَّفظِ أدَلَّ على الرِّضا الَّذي جَعله اللهُ سُبحانَه شَرطًا لِلحِلِّ مِن لَفظِه: بِعْتُ واشتَريتُ؛ فإنَّه لَفظٌ صَريحٌ فيه، وبِعْتُ واشتَريتُ إنَّما يَدُلُّ عليه باللُّزومِ، وكَذلك عَقْدُ النِّكاحِ، ولَيسَ ذلك مِنَ العِباداتِ الَّتي تَعبَّدَنا الشَّارِعُ فيها بألفاظٍ لا يَقومُ غَيرُها مَقامَها؛ كالأذانِ، وقِراءةِ الفاتِحةِ في الصَّلاةِ، وألفاظِ التَّشَهُّدِ، وتَكبيرةِ الإحرامِ وغَيرِها، بَل هذه العُقودُ تَقَعُ مِنَ البَرِّ والفاجِرِ، والمُسلِمِ والكافِرِ، ولَم يَتَعَبَّدْنا الشَّارِعُ فيها بألفاظٍ مُعَيَّنةٍ... وأمَّا العُقودُ والمُعامَلاتُ فإنَّما يُتبَعُ مَقاصِدُها والمُرادُ مِنها بأيِّ لَفظٍ كانَ؛ إذ لَم يَشرَعِ اللهُ ورَسولُه لَنا التَّعَبُّدَ بألفاظٍ مُعَيَّنةٍ لا نَتَعَدَّاها) ((إعلام الموقعين)) (1/343). وقال: (فمَن عَرف مُرادَ المُتَكَلِّمِ بدَليلٍ مِنَ الأدِلَّةِ وجَبَ اتِّباعُ مُرادِه، والألفاظُ لَم تُقصَدْ لِذَواتِها، وإنَّما هيَ أدِلَّةٌ يُستَدَلُّ بها على مُرادِ المُتَكَلِّمِ، فإذا ظَهَرَ مُرادُه ووَضحَ بأيِّ طَريقٍ كانَ عُمِلَ بمُقتَضاه، سَواءٌ كانَ بإشارةٍ أو كِتابةٍ أو بإيماءةِ، أو دَلالةٍ عَقليَّةٍ أو قَرينةٍ حاليَّةٍ) ((إعلام الموقعين)) (1/258). ، وابنِ عُثَيمين قال ابنُ عُثَيمين: (جَميعُ العُقودِ تَنعَقِدُ بما دَلَّ عليها عُرفًا، وهَذا القَولُ هوَ الرَّاجِحُ، وهوَ المُتَعَيِّنُ، وهوَ اختيارُ شَيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ رَحِمِه الله... فالصَّوابُ: أنَّ جَميعَ العُقودِ لَيسَ لَها صيَغٌ مُعَيَّنةٌ، بَل تَنعَقِدُ بما دَلَّ عليها) ((الشرح الممتع)) (8/102).
فَرْعٌ: تراخي القَبولِ عن الإيجابِ في البَيْعِ عن طَريقِ الكِتابةِ
يَجوزُ تَراخي القَبولِ عنِ الإيجابِ في البَيعِ بالكِتابةِ أوِ الرِّسالةِ حَتَّى وُصولِ الكِتابِ أوِ الرِّسالةِ إلى المُشتَري، نَصَّ عليه الحَنَفيَّةُ (البحر الرائق)) لابن نجيم (5/290)، ((حاشية ابن عابدين)) (4/512). وينظر: ((الاختيار لتعليل المختار)) للموصلي (2/5). ، والشَّافِعيَّةُ اشترط الشَّافعيَّةُ قَبولَ المشتري فورًا بعد عِلْمِه. ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (4/224،222) ((نهاية المحتاج)) للرَّملي (3/381)، ((حاشياتا قليوبي وعميرة)) (2/193). ، والحَنابِلةُ ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/148)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (3/7). ، وذلك لأنَّ تَأخُّرَ القَبولِ لا يَدُلُّ على إعراضِ العاقِدِ عنِ العَقْدِ مع غَيبَتِه ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/148).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّه إذا عُرِفَ مُرادُ المُتَكَلِّمِ بدَليلٍ مِنَ الأدِلَّةِ اتُّبِعَ، والألفاظُ لم تُقصَد لذَواتِها، وإنَّما هيَ أدِلَّةٌ يُستَدَلُّ بها على مُرادِ المُتَكَلِّمِ، فإذا ظَهَرَ مُرادُه ووَضَحَ بأيِّ طَريقٍ كانَ، عُمِلَ بمُقتَضاه، سَواءٌ كانَ بإشارةٍ، أو كِتابةٍ، أو بإيماءةٍ، أو دَلالةٍ عَقليَّةٍ، أو قَرينةٍ حاليَّةٍ ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/258).
ثانيًا: لأنَّ البَيعَ بالكِتابةِ فيه الإشعارُ بالرِّضا وطِيبةِ النَّفْسِ اللَّذَينِ هما المَناطُ لصِحَّةِ البَيعِ وسائِرِ التَّصَرُّفاتِ الشَّرعيَّةِ [228] ((السيل الجرار)) للشوكاني (ص: 478).

انظر أيضا: