الموسوعة الفقهية

الفصلُ الثَّاني: مَن نذَرَ التَّصدُّقَ بمالِه كلِّه


اختلَفَ العلماءُ في حُكمِ مَن نذَر التصدُّقَ بمالِه كلِّه؛ على قولَينِ:
القولُ الأوَّلُ: إذا نذَرَ الرجُلُ التصدُّقَ بمالِه كلِّه، أَخرَجَ الثُّلُثَ ولا شَيءَ عليه، وهو مذهَبُ المالكيَّةِ [354] ((الكافي)) لابن عبد البر (1/460)، ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (2/29). ، والحنابِلةِ [355] ((الإقناع)) للحَجَّاوي (4/359)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (6/278). ، وهو اختيارُ ابنِ تيميَّةَ [356] قال ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ السُّنَّةَ قد جاءت فيمَن نذَرَ الصَّدقةَ بجميعِ مالِه أنَّه يَجزيه الثُّلُثُ، أقامَ في النَّذرِ الثُّلُثَ مُقامَ الجميعِ، كما أُقيم مُقامَه في الوصيَّةِ وغَيرِها؛ لِما في إخراجِ الجميعِ مِنَ الضَّررِ). ((الفتاوى الكبرى)) (6/188). ، وابنِ القَيِّمِ [357] قال ابنُ القَيِّمِ: (ألَا ترى أنَّ السُّنَّةَ قد جاءت فيمَن نذَرَ الصَّدقةَ بجميعِ مالِه أنَّه يَجزيه الثُّلُثُ، فأقامَ الثُّلُثَ في النَّذرِ مُقامَ الجميعِ؛ رحمةً بالناذِرِ، وتخفيفًا عنه، كما أُقيم مُقامَه في الوصيَّةِ؛ رحمةً بالوارثِ، ونظرًا له). ((إعلام الموقعين)) (3/165). ، والشِّنقيطيِّ [358] قال الشِّنقيطيُّ: (الأظهرُ عندي أنَّ مَن نذَرَ جميعَ مالِه للهِ ليُصرَفَ في سبيلِ اللهِ، أنَّه يَكفيه الثُّلُثُ، ولا يَلزَمُه صَرفُ الجميعِ، وهذا قولُ مالكٍ وأصحابِه، وأحمدَ وأصحابِه، والزُّهْريِّ). ((أضواء البيان)) (5/250). ، وابنِ باز [359] قال ابنُ باز في حُكمِ مَن نذَرَ أنْ يَتصدَّقَ بمالِه كلِّه: (يُجزئُ عنه الثُّلُثُ؛ لحديث أبي لُبابةَ: «يُجزئُ عنك الثُّلُثُ»، ولقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حديثِ سعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه: «والثُّلُثُ كثيرٌ»). ((مسائل الإمام ابن باز)) (ص: 227).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعودُني وأنا مريضٌ بمكَّةَ، فقلتُ: لي مالٌ، أُوصي بمالي كلِّه؟ قال:لا. قلتُ: فالشَّطرُ؟ قال: لا. قلتُ: فالثُّلُثُ؟ قال: الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كثيرٌ، أنْ تَدَعَ وَرَثتَكَ أغنياءَ خَيرٌ مِن أنْ تَدَعَهُم عالَةً يَتكَفَّفونَ النَّاسَ في أيديِهم )) [360] أخرجه البخاري (5354) واللفظ له، ومسلم (1628).
وَجهُ الدَّلالةِ:
في قَولِه: ((الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كَثيرٌ)) دليلٌ على أنَّ مَن أَوْصى بمالِه فإنَّه يُخرَجُ الثُّلُثُ، والنَّذرُ يُقاسُ عليه [361] ((السيل الجرار)) للشوكاني (ص: 698).
ثانيًا: لِما في إخراجِ الجميعِ مِنَ الضَّررِ [362] ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيميَّة (6/188).
القولُ الثَّاني: إذا نذَرَ الرجُلُ التصدُّقَ بمالِه كلِّه تَعلَّقَ النَّذرُ بمالِه كلِّه [363] المعتمَدُ عند الحَنفيَّةِ أنَّه يَتصدَّقُ بجِنسِ ما يَجِبُ فيه الزكاةُ، كالنَّقدَينِ وعُروضِ التِّجارةِ والسَّوائمِ والغَلَّةِ والثَّمرةِ العُشْريَّةِ، ولا يَتصدَّقُ بغَيرِ ذلك مِنَ الأموالِ؛ لأنَّها ليست بأموالِ الزَّكاةِ. ((الهداية)) للمَرْغِيناني (3/231)، ((البناية شرح الهداية)) للعَيْني (10/218). ، وهو مذهَبُ الشافعيَّةِ [364] ((المجموع)) للنووي (8/461)، ((روضة الطالبين)) للنووي (3/297). ، وقولُ بعضِ الحَنفيَّةِ [365] ((تبيين الحقائق)) للزَّيْلَعي (4/202)، ((الفتاوى الهندية)) (4/407). ، وهو اختيارُ الشَّوْكانيِّ [366] قال الشَّوكانيُّ: (والظاهرُ أنَّ النذرَ في حالِ الصحةِ نافِذٌ مِن جميعِ المالِ كسائرِ التصرُّفاتِ الماليَّةِ، وأمَّا مَنِ ادَّعى تخصيصَ النَّذرِ بهذا الحُكمِ فعليه الدليل). ((السيل الجرار)) (ص: 698). ، ومال إليه ابنُ عُثيمينَ [367] قال ابنُ عُثيمينَ: (ذهَبَ بعضُ العلماءِ إلى أنَّه يَجِبُ عليه أنْ يَتصدَّقَ بجميعِ مالِه؛ لأنَّ الصدقةَ بجميعِ المالِ لِمَن عَلِم مِن نفْسِه التوكُّلَ جائزةٌ، بل هي سُنَّةٌ فَعَلَها أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، فتدخُلُ في عمومِ قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَن نَذَرَ أنْ يُطيعَ اللهَ فلْيُطِعْهُ»... فلا شكَّ أنَّ الإنسانَ إذا أَوْفى بنَذرِه وتَصدَّقَ بجميعِ مالِه مع حُسنِ ظَنِّه بربِّه، وصِدقِ اعتِمادِه عليه، وأنَّ له جهاتٍ يُمكِنُ أنْ يقومَ بواجبِ كفايتِه وكفايةِ عائلتِه؛ لا شكَّ أنَّ صدقتَه بجميعِ مالِه أبرأُ لذِمَّتِه وأحوطُ، وأمَّا الاقتِصارُ على الثُّلُثِ مُطْلقًا ففي النفْسِ منه شَيءٌ). ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) (15/227).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّها قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن نَذَرَ أنْ يُطيعَ اللهَ فلْيُطِعْهُ، ومَن نَذَرَ أنْ يَعصِيَهُ فلا يَعْصِهِ )) [368] أخرجه البخاري (6696).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّذرَ بجميعِ المالِ نَذْرُ طاعةٍ؛ فلَزِمَه الوفاءُ به، كنَذرِ الصلاةِ والصيامِ [369] ((المغني)) لابن قُدامةَ (10/9).
ثانيًا: أنَّ ذلك أبرأُ للذِّمَّةِ وأحوطُ [370] ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمينَ (15/227).

انظر أيضا: