الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: تَخييرُ الغُلامِ في الحَضانةِ


يُخَيَّرُ الغلامُ بينَ أبيه وأمِّه إذا بلغَ سَبعَ سِنينَ، وهو مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ [788]     عندَ الشَّافِعيَّةِ: يخَيَّرُ إذا بلغ حَدَّ التَّمييزِ، وقُدِّرَ بسَبعِ أو ثماني سنينَ، فإن اختار أحَدَهما دُفِعَ إليه، وإذا عاد واختار الثَّانيَ نُقِلَ إليه، وهكذا كلَّما تغيَّرَ اختيارُه، إلَّا إنْ كَثُرَ ذلك منه بحيث يُظَنُّ أنَّ سَبَبَه قِلَّةُ تَمييزِه، فإنَّه يُجعَلُ عند الأمِّ ويُلغى اختيارُه، وإن امتنَعَ المَحْضُونُ عن الاختيارِ فالأمُّ أَولى. ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (8/360)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/457). ، والحَنابِلةِ [789]     عند الحَنابِلةِ: إن اختار أباه كان عندَه ليلًا ونهارًا ولا يُمنَعُ مِن زيارةِ أُمِّه، وإن اختار أمَّه كان عندها ليلًا وعند أبيه نهارًا؛ ليُعَلِّمَه الصِّناعةَ والكِتابةَ ويُؤَدِّبَه، فإنْ لم يختَرْ أحَدَهما أُقرِعَ بينهما. ((المبدع)) لابن مفلح (8/206، 207)، ((الإنصاف)) للمرداوي (9/316- 318). ، وقَولُ بَعضِ المالِكيَّةِ [790]     ((التبصرة)) لِلَّخمي (6/2573)، ((التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب)) لخليل بن إسحاق (5/170). ، وهو اختيارُ ابنِ القَيِّمِ [791]     قال ابنُ القيِّم: (قال المخَيِّرون في الغُلامِ دون الجاريةِ: قد ثبت التخييرُ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الغُلامِ مِن حديثِ أبي هُريرةَ، وثبت عن الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ وأبي هُريرةَ، ولا يُعرَفُ لهم مخالِفٌ في الصَّحابةِ البتَّةَ، ولا أنكَرَه مُنكِرٌ. قالوا: وهذا غايةٌ في العَدلِ المُمكِنِ؛ فإنَّ الأمَّ إنَّما قُدِّمت في حالِ الصِّغَرِ؛ لحاجةِ الولَدِ إلى التربيةِ والحَملِ والرَّضاعِ والمداراةِ التي لا تتهيَّأُ لغير النِّساءِ، وإلَّا فالأمُّ أحَدُ الأبوَينِ، فكيف تُقدَّمُ عليه؟ فإذا بلغ الغلامُ حَدًّا يُعرِبُ فيه عن نفسِه، ويَستغني عن الحَملِ والوَضعِ وما تعانيه النِّساءُ؛ تساوى الأبوانِ). ((زاد المعاد)) (5/418). ، والشَّوكانيِّ [792]     قال الشوكاني: (أمَّا كَونُه يَثبُتُ التَّخييرُ للصبيِّ بعد بلوغِ سِنِّ الاستقلالِ بين الأمِّ والأبِ؛ فلحَديثِ أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه عند أحمد وأهلِ السُّنَنِ، وصَحَّحه الترمذيُّ: «أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَيَّرَ غُلامًا بين أبيه وأمِّه»، وفي لفظٍ: «أنَّ امرأةً جاءت فقالت: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ زَوجي يريدُ أن يَذهَبَ بابني، وقد سقاني مِن بئرِ أبي عِنَبةَ، وقد نفَعَني، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: استَهِمَا عليه. قال زَوجُها: مَن يُحاقُّني في ولَدي؟ فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هذا أبوك، وهذه أمُّك، فخُذْ بِيَدِ أيِّهما شِئْتَ، فأخذَ بِيَدِ أمِّه، فانطَلَقَت به»). ((الدراري المضية)) (2/249). ، وابنِ عُثيمين [793]     قال ابنُ عُثيمين: (قَولُه: «وإذا بلغ الغُلامُ سَبعَ سِنينَ عاقِلًا، خُيِّرَ بين أبَوَيه، فكان مع من اختارَ منهما» المَحْضُونُ قبل سَبعِ سِنينَ عند الأُمِّ، سواءٌ كان ذكرًا أم أنثى، وقال بعضُ العُلَماءِ: إنَّ التخييرَ يكونُ بعد خمسِ سِنينَ، وبعضُهم قال: بعد تِسعِ سِنينَ، لكِنَّ الظَّاهِرَ أنَّه بعدَ سبعِ سِنينَ؛ لأنَّ التَّمييزَ غالِبًا يكونُ في هذه السِّنِّ، وهو قَولُ وَسَطٌ، أمَّا بعد سَبعِ سِنينَ فيَختَلِفُ الحُكمُ؛ فإذا كان غلامًا عاقِلًا فإنَّه يخيَّرُ، فإنْ لم يكنْ عاقِلًا فإنَّه مع أمِّه، فالبالِغُ العاقِلُ يخَيَّرُ، كما قضى بذلك عُمرُ وعليٌّ رَضِيَ اللهُ عنهما، وروى سعيدٌ والشافعيُّ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم «خَيَّرَ غُلامًا بين أبيه وأُمِّه»). ((الشرح الممتع)) (13/546). ، وحُكِيَ إجماعُ الصَّحابةِ على ذلك [794]     قال ابنُ قدامة: (لأنَّه إجماعُ الصَّحابةِ، فرُوِيَ عن عُمَرَ: أنَّه خَيَّرَ غُلامًا بين أبيه وأمِّه، رواه سعيد. ورُوِيَ عن عمارة الجرمي: أنَّه قال: خَيَّرَني عليٌّ بين عَمِّي وأمِّي، وكنتُ ابنَ سَبعٍ أو ثمانٍ. ورُوِيَ نحوُ ذلك عن أبي هريرة، وهذه قِصَصٌ في مَظِنَّةِ الشُّهرةِ، ولم تُنكَرْ؛ فكانت إجماعًا). ((المغني)) (8/240). وقال ابنُ القيم: (قد ثبت التخييرُ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الغُلامِ مِن حَديثِ أبي هريرة، وثبت عن الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ وأبي هريرةَ، ولا يُعرَفُ لهم مخالِفٌ في الصَّحابةِ البتَّةَ، ولا أنكَرَه مُنكِرٌ). ((زاد المعاد)) (5/48).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((جاءت امرأةٌ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنا قاعِدٌ عنده، فقالت: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ زَوجي يريدُ أن يَذهَبَ بابني، وقد سقاني مِن بئرِ أبي عِنَبةَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: استَهِمَا عليه. فقال زَوجُها: مَن يُحاقُّني في ولَدي؟ فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هذا أبوك، وهذه أمُّك، فخُذْ بِيَدِ أيِّهما شِئْتَ، فأخذَ بِيَدِ أمِّه، فانطَلَقَت به )) [795]     أخرجه أبو داود (2277) واللفظ له، والترمذي (1357)، وابن ماجه (2351)، وأحمد (7352) مختصرًا، والنسائي (3496) باختلاف يسير. قال الترمذي: حَسَنٌ صحيح. وصَحَّحه الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (8/98)، وصَحَّح إسناده الحاكم في ((المستدرك)) (4/108)، وقوَّى إسنادَه ابنُ كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/249)، ووثَّق رجال إسنادِه البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (5/411) وقال: وله شاهِدٌ. وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (13/74)، وابن باز في ((حاشية بلوغ المرام)) (646)، وصَحَّح الحديثَ الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2277)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (1293).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَيَّرَه، وتقييدُه بالسَّبعِ لأنَّها أوَّلُ حالٍ أمَرَ الشَّرعُ فيها بمُخاطبتِه بالصَّلاةِ [796]     ((المبدع)) لابن مفلح (8/206). ، ولأنَّ التَّمييزَ غالِبًا يكونُ في هذه السِّنِّ [797]     ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (13/546).
ثانيًا: مِنَ الآثارِ [798]     قال ابنُ قدامةَ: (لأنَّه إجماعُ الصَّحابةِ، فرُوِيَ عن عُمَرَ: أنَّه خَيَّرَ غُلامًا بين أبيه وأمِّه، رواه سعيد. ورُوِيَ عن عُمارة الجَرميِّ: أنَّه قال: خَيَّرَني عليٌّ بين عَمِّي وأمِّي، وكنتُ ابنَ سَبعٍ أو ثمانٍ. ورُوِيَ نحوُ ذلك عن أبي هُريرةَ، وهذه قِصَصٌ في مَظِنَّةِ الشُّهرةِ، ولم تُنكَرْ؛ فكانت إجماعًا). ((المغني)) (8/240).
1 - عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ غَنْمٍ قال: (شَهِدتُ عُمَرَ خيَّرَ صَبيًّا بين أبيه وأُمِّه) [799]     أخرجه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (19456) واللفظ له، وأخرجه مُعلَّقًا البيهقي بعد حديث (16180). صَحَّح إسناده الألباني في ((إرواء الغليل)) (7/251).
2 - عن عُمارةَ بنِ رَبيعةَ الجَرميِّ قال: (خاصَمَت فيَّ أُمي عَمِّي من أهلِ البَصْرةِ إلى عَليٍّ، قال: فجاء عَمِّي وأمِّي فأرسَلوني إلى عليٍّ، فدَعَوتُه فجاء فقَصُّوا عليه، فقال: أمُّك أحَبُّ إليك أم عَمُّك؟ قال: قُلتُ: بل أمِّي، ثلاثَ مرَّاتٍ. قال: وكانوا يَستَحِبُّونَ الثَّلاثَ في كُلِّ شَيءٍ. فقال لي: أنتَ مع أمِّك، وأخوك هذا إذا بَلَغ ما بلَغْتَ خُيِّرَ كما خُيِّرْتَ. قال: وأنا غُلامٌ) [800]     أخرجه عبد الرزاق في ((المصنف)) (12609). صَحَّح إسناده الألباني في ((إرواء الغليل)) (7/251).
ثالثًا: لأنَّه إذا مال إلى أحَدِ أبَوَيه دَلَّ على أنَّه أرفَقُ به وأشفَقُ عليه [801]     ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (8/206).
رابِعًا: لأنَّه اختيارُ شَهوةٍ لحَظِّ نَفسِه، فاتُّبِعَ ما يَشتَهيه، كما يُتَّبَعُ ما يَشتَهيه في المأكولِ والمشروبِ، وقد يشتهي المُقامَ عند أحَدِهما في وقتٍ، وعندَ الآخَرِ في وَقتٍ، وقد يَشتهي التَّسويةَ بينهما وألَّا يَنقَطِعَ عنهما [802]     ((المغني)) لابن قدامة (8/240).
خامسًا: لأنَّ الأُمَّ قُدِّمَت في حالِ الصِّغَرِ؛ لحاجتِه إلى حَملِه، ومُباشَرةِ خِدمتِه؛ لأنَّها أعرَفُ بذلك وأقْوَمُ به، فإذا استغنى عن ذلك تساوى والِداه؛ لِقُربِهما منه، فرُجِّحَ باختيارِه [803]     ((المغني)) لابن قدامة (8/240).

انظر أيضا: