الموسوعة الفقهية

المطلب الثَّالث: الاحتلام


الفرع الأوَّل: مَن احتَلَم فأنزل
مَن احتلم فأنزَلَ منيًّا، فإنَّه يجِبُ عليه الغُسل.
الأدلَّة:
أولًا: مِن السُّنَّةِ
عن أمِّ سلمة أمِّ المؤمنين رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها قالت: ((جاءتْ أمُّ سُلَيم- امرأةُ أبي طلحةَ- إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: يا رسولَ الله، إنَّ اللهَ لا يستحيي من الحقِّ؛ هل على المرأةِ مِن غُسلٍ، إذا هي احتلَمتْ؟ فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نعَمْ، إذا رأتِ الماءَ )) رواه البخاري (282)، ومسلم (313).
وجه الدَّلالة:
أنَّ الحديثَ يدلُّ على أنَّ مَن احتَلَم فرأى الماء- أي: المنيَّ- فعليه الغُسلُ.
ثانيًا: من الإجماع
نقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ حَزمٍ قال ابن حزم: (اتَّفقوا على أنَّ خروجَ الجَنابة في نومٍ أو يقظةٍ، من الذَّكَر بلذَّةٍ، لغير مغلوبٍ باستنكاحٍ أو مضروبٍ، وقبل أن يغتسِلَ للجَنابة؛ فإنَّه يوجِبُ غَسلَ جميع الرَّأس والجَسَد). ((مراتب الإجماع)) (ص: 21). ، وابنُ عبدِ البَرِّ قال ابن عبدِ البَرِّ: (في إجماعِ العلماء على أنَّ المحتلِم رجلًا كان أو امرأةً، إذا لم يُنزِل ولم يجِد بَللًا، ولا أثَرَ للإنزالِ؛ أنَّه لا غُسل عليه، وإنْ رأى الوطءَ والِجماع الصَّحيحَ في نومِه، وأنَّه إذا أنزل فعليه الغُسلُ امرأةً كان أو رجلًا، وأنَّ الغُسلَ لا يجِبُ في الاحتلام إلَّا بالإنزالِ- ما يُغني عن كلِّ تأويلٍ وتفسيرٍ) ((التمهيد)) (8/337). ، وابنُ قدامة قال ابنُ قدامة: (فخروج المنيِّ الدافِق بشهوةٍ، يوجِبُ الغُسل من الرَّجلِ والمرأة، في يقظةٍ أو في نومٍ، وهو قولُ عامَّة الفقهاء، قال الترمذيُّ: ولا نعلَمُ فيه خلافًا) ((المغني)) (1/146). ، والنوويُّ قال النوويُّ: (أجمَعَ العُلَماءُ على وجوبِ الغُسل بخروجِ المنيِّ، ولا فرْق عندنا بين خروجِه بجِماع، أو احتلامٍ، أو استمناءٍ). ((المجموع)) (2/139). ، وابنُ تيميَّة قال ابن تيميَّة: (الموجِبُ له شيئان: خروج المنيُّ، وهو الماءُ الدَّافق... وسواءٌ خرَج المنيُّ من يقظةٍ أو نومٍ، عن تفكُّرٍ، أو نظرٍ، أو مسٍّ، أو غير ذلك، وهذا من العِلمِ العامِّ الذي استفاضت به السُّنَنُ، واجتمعت عليه الأمَّةُ). ((شرح العمدة)) (1/351).
الفرع الثَّاني: مَن احتلم ولم يُنزِل
مَن احتلم ولم يُنزل منيًّا، أو لم يرَ شيئًا، فلا غُسلَ عليه، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/65)، وينظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (1/62)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازَّة البخاري (1/85). ، والمالكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (1/445)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/162). ، والشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (2/142)، وينظر: ((البيان في مذهب الإمام الشافعي)) (1/241). ، والحنابلة ((الإنصاف)) للمرداوي (1/169)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/148). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك قال ابنُ المُنذِر: (أجْمعوا على أنَّ الرَّجل إذا رأى في منامِه أنَّه احتلم، أو جامَع ولم يجِد بللًا: أنْ لا غُسلَ عليه). ((الإجماع)) (24). وقال ابن عبدِ البَرِّ: (في إجماعِ العُلَماء على أنَّ المحتلِم رجلًا كان أو امرأة، إذا لم يُنزلْ ولم يجِد بَللًا، ولا أثَرَ للإنزال؛ أنَّه لا غُسل عليه، وإنْ رأى الوطء والجِماع الصَّحيح في نومه، وأنَّه إذا أنزل فعليه الغُسل امرأةً كان أو رجلًا، وأنَّ الغُسل لا يجب في الاحتلام إلَّا بالإنزال- ما يُغني عن كلِّ تأويل وتفسيرٍ، وبالله التوفيق). ((التمهيد)) (8/337). وقال النوويُّ: (أمَّا ما لم يُخرِجْ فلا يجِبُ الغُسل، وذلك بأن يرى النائمُ أنَّه يجامِعُ، وأنَّه قد أنزل، ثم يستيقِظُ فلا يرى شيئًا، فلا غُسلَ عليه بإجماعِ المسلمين). ((شرح صحيح مسلم)) (3/220). وقال ابن حجر: (لأنَّ الرَّجلَ لو رأى أنَّه جامَعَ، وعلِم أنَّه أنزل في النَّوم، ثمَّ استيقظ فلم يرَ بَللًا، لم يجب عليه الغُسل اتِّفاقًا). ((فتح الباري)) (1/389). وقال الكمال ابن الهمام: (لو تذكَّرَ الاحتلامَ والشَّهوة ولم يرَ بَللًا، لا يجِبُ اتفاقًا). ((فتح القدير)) (1/62). لكن هناك رِواية عند الحنابلة بخِلاف ذلك، قال المَرداويُّ: (إذا احتلَم ولم يجِد بَللًا، لم يجب الغُسل على الصَّحيح من المذهب، وعليه الأصحاب، وحكاه ابنُ المُنذِر وغيرُه إجماعًا، وعنه يجب. قال الزركشيُّ: وأغربَ ابنُ أبي موسى في حكايته رِوايةً بالوجوب، وعنه يجب إنْ وجَد لذَّة الإنزال، وإلَّا فلا). ((الإنصاف)) (1/169).
الدليل مِن السُّنَّةِ:
عن أمِّ سلمةَ، أمِّ المؤمنين رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّها قالت: ((جاءتْ أمُّ سُليمٍ- امرأةُ أبي طلحةَ- إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: يا رسولَ الله، إنَّ اللهَ لا يَستحيي من الحقِّ؛ هل على المرأةِ مِن غُسلٍ إذا هي احتلَمَتْ؟ فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نعَمْ، إذا رأتِ الماءَ )) رواه البخاري (282)، ومسلم (313).
وجه الدَّلالة:
أنَّ الحديث يدلُّ على أنَّها إنْ لم ترَ الماءَ، فلا غُسلَ عليها.
الفرع الثَّالث: مَن رأى منيًّا ولم يتذكَّر احتلامًا
مَن رأى منيًّا ولم يتذكَّر احتلامًا، فإنَّه يجِبُ عليه الغُسل، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة ((البناية شرح الهداية)) للعيني (1/331)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/37). ، والمالكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (1/445)، وينظر: ((الذخيرة)) للقرافي (1/295). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (2/143)، وينظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (1/214). ، والحنابلة ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/140)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/148). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك قال ابن العربيِّ: (لا إشكالَ عندي في وجوب الغُسل فيه؛ لإجماع الأمَّة على أنَّ مَن استيقظ ووجَد المنيَّ ولم يرَ احتلامًا، فعليه الغُسل) ((القبس)) (1/172). وقال ابن قدامة: (إنِ انتبه فرأى منيًّا، ولم يذكُر احتلامًا، فعليه الغُسل، لا نعلَمُ فيه اختلافًا). ((المغني)) (1/148). لكن ممَّن خالف في ذلك، المالكيَّة؛ فلهم قول آخَرُ في المسألة، كما رُوي الخلاف عن مجاهدٍ أيضًا، قال الحطَّاب: (فإنْ وجَد المنيَّ ولم يذكُر أنَّه احتلم فنَقل القرافيُّ الإجماعَ على وجوبِ الغُسل، ونصُّه: وإجماعُ الأمَّة على أنَّ من استيقَظَ ووجد المنيَّ ولم يرَ احتلامًا أنَّ عليه الغُسلَ، وقد قال صاحب المنتقى: قال مجاهد: إذا لم يذكُر شيئًا فلا شيءَ عليه، وفي أبي داود والترمذيِّ عنه عليه الصَّلاة والسَّلام أنَّه سُئِلَ عن الرَّجل يجِدُ البَلَل ولم يذكر احتلامًا، قال: ((عليه الغُسلُ))، انتهى، وانظر هذا الذي نقلَه من الإجماع مع ما مرَّ نقله ابن راشد في شرح ابن الحاجب، ونصُّه: وإن وجَدَ الأثَرَ ولم يذكُر أنَّه احتلم، ففي وجوبِ الغُسلِ قولان، انتهى). ((مواهب الجليل)) (1/445).
الأدلَّة:
أولًا: مِن السُّنَّةِ
- عن أمِّ سلمة أمِّ المؤمنين رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها قالت: ((جاءتْ أمُّ سُلَيم- امرأةُ أبي طلحةَ- إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: يا رسولَ الله، إنَّ الله لا يستحيي من الحقِّ؛ هل على المرأةِ مِن غُسلٍ إذا هي احتلَمتْ؟ فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نعَمْ، إذا رأتِ الماءَ )) رواه البخاري (282)، ومسلم (313).
ثانيًا: أنَّ الظَّاهر أنَّ المنيَّ عن احتلامٍ، والنَّائم قد لا يُحسُّ به؛ لأنَّه لا يضبِطُ حالَه ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/37)، ((الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي)) (1/127)، ((المغني)) لابن قدامة (1/149)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/335)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (11/221).
ثالثًا: أنَّها صورةٌ جُهِل السَّبب فيها، فحُمِل على الغالِب، وهو الخروجُ بلذَّة معتادةٍ ((الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي)) (1/127).
الفرع الرَّابع: مَن رأى بللًا وشكَّ في كونه منيًّا أو مَذيًا
مَن رأى بللًا وشكَّ في كونه منيًّا أو مذيًا، فإنَّه لا يجِبُ عليه الغُسل، وهو المشهورُ مِن مذهب الشَّافعيَّة المشهور من مذهب الشَّافعيَّة: أنَّه مخيَّرٌ بين التزام حُكم المنيِّ أو المَذْي؛ لأنَّه إذا أَتَى بمقتضى أحدهما برِئَ منه يقينًا، والأصلُ براءتُه من الآخَر، ولا معارِضَ لهذا الأصل. ((المجموع)) للنووي (2/146)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/70). ، وهو قَولُ أبي يوسف وبه قال خلف بن أيُّوب، وأبو اللَّيث من الحنفيَّة. ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/37)، ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (1/62). ، وقولٌ للمالكيَّة ((التاج والإكليل)) للمواق (1/305). ، وقولٌ للحنابلة ((المبدع شرح المقنع)) لابن مفلح الحفيد (1/139)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/140). ، وبه قال طائفةٌ من السَّلف قال قتادة: (إذا كان ماءً دافقًا، اغتسل، فقلت لقتادةَ: كيف يعلَمُ ذلك؟ قال: يَشَمُّه). ينظر: ((الأوسط)) لابن المُنذِر (2/206). وقال ابن المُنذِر: (وقالت طائفةٌ: لا يغتَسِل حتى يوقنَ بالماءِ الدَّافِق، هكذا قال مجاهد). ((الأوسط)) (2/206)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/148، 149). , واختاره ابن المُنذِر قال ابن المُنذِر: (فمَن رأى بَللًا؛ فإن أيقَنَ أنَّه بلَّةُ نُطفةٍ اغتسَلَ، وإنْ علم أنَّه مذْيٌ أو غيره، بعد أن يعلمَ أنَّ البَلَّة ليست ببلَّة نُطفةٍ، لم يجب عليه الاغتسالُ، والأحوط له إذا شكَّ فلم يدْرِ بلَّة نُطفة أو مذي، أن يغتسلَ؛ فإنْ أمكَنَه التمييزُ بينها بشمٍّ كما قال قتادة، فعَل؛ فإنَّ رائحةَ نطفة الرَّجلِ يُشبه رائحةَ الطَّلعِ). ((الأوسط)) (2/207). , وابن قُدامة قال ابن قدامة: (قد توقَّف أحمدُ في هذه المسألة في مواضِعَ، وقال مجاهدٌ وقتادة: لا غُسلَ عليه، حتى يوقِنَ الدَّافق، قال قتادة: يَشَمُّه. وهذا هو القياس؛ ولأنَّ اليقينَ بقاءُ الطَّهارة، فلا يزولُ بالشكِّ. والأولى الاغتسالُ؛ لموافقةِ الخبر، وإزالةِ الشكِّ). ((المغني)) (1/149). ، وابنُ باز قال ابن باز: (إذا تذكَّر أنَّه احتلَمَ وعرَف أنَّ الماء منيٌّ، وجَب أن يغتسل غُسل الجَنابة, ويُعيد الصَّلاةَ التي صلَّى بعد الاحتلامِ، وقبل الاغتسالِ, أمَّا إن كان لم يتذكَّر شيئًا من ذلك, والماءُ اشتبه عليه؛ لا يعرِفُ هل هو منيٌّ أو مَذْي أو بول؟ فإنَّه يغسِلُ ثوبَه للحَيطةِ, ولا يلزَمُه غُسلُ الجنابة, إلَّا إذا غلَبَ على ظنِّه أنَّه منيٌّ). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (10/178). ، وابنُ عثيمين قال ابن عثيمين: (قيل: يجِبُ عليه الغُسل احتياطًا، وقيل: لا يجب، وهو الصَّحيح؛ لأنَّ الأصلَ براءة الذِّمَّة). ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (11/221)، ((الشرح الممتع)) (1/336). وحُكي عن أكثَرِ أهلِ العِلمِ قال البغويُّ: (ذهَب أكثرُ أهلِ العِلمِ إلى أنَّه لا غُسلَ عليه، حتَّى يتيقَّنَ أنَّه بلَلُ الماءِ الدَّافق). ((شرح السنة)) (2/9).
الأدلَّة:
أولًا: مِن السُّنَّةِ
عن أمِّ سلمةَ أمِّ المؤمنين رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها قالت: ((جاءتْ أمُّ سُلَيمٍ- امرأةُ أبي طلحةَ- إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: يا رسولَ الله، إنَّ اللهَ لا يستحيي من الحقِّ؛ هل على المرأةِ مِن غُسلٍ إذا هي احتلَمتْ؟ فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نعَمْ، إذا رأتِ الماءَ )) رواه البخاري (282)، ومسلم (313).
وجه الدَّلالة:
أنَّ ظاهِرَ الحديث يدلُّ على أنَّ الغُسلَ إنَّما يجب إذا رُئيَ الماءُ، وتُحقِّقَ أنَّه منيٌّ، وإلَّا لم يجِب الغُسل.
ثانيًا: أنَّه طاهِرٌ بيقينٍ، والغُسلُ لا يثبُتُ بالشكِّ ((الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي)) (1/131)، ((روضة الطالبين)) للنووي (1/84)، ((المبدع)) لابن مفلح الحفيد (1/139).

انظر أيضا: