الموسوعة الفقهية

الفَرعُ الأوَّلُ: الطَّلاقُ بثَلاثِ تَطليقاتٍ بألفاظٍ مُتكَرِّرةٍ


اختَلَف العُلَماءُ فيما إذا طَلَّق ثلاثَ تَطليقاتٍ بألفاظٍ مُتكَرِّرةٍ، كأن يقولَ: أنتِ طالِقٌ، أنتِ طالِقٌ، أنتِ طالِقٌ، أو أنتِ طالِقٌ طالِقٌ طالِقٌ؛ على قولَينِ:القول الأول: يَقَعُ الطَّلاقُ ثَلاثًا، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ [1900]   لكِنْ إن نوى التأكيدَ فتَقَعُ واحِدةً، وهو قَولُ الجُمهورِ مِن المالِكيَّة والشَّافِعيَّة والحَنابِلة: المالِكيَّة قالوا: إذا كرَّر الطَّلاقَ بلا عَطفٍ فقال: أنت طالقٌ، أنت طالِقٌ، أنت طالِقٌ، يلزمه الثلاثُ في المدخولِ بها إلَّا أن ينويَ بذلك التأكيدَ. والشَّافِعيَّةُ والحَنابِلةُ قالوا: إن نوى بذلك التأكيدَ لم يقع الطَّلاقُ ثلاثًا، لكن إذا تخلَّل فَصلٌ بينهما يقَعُ الطَّلاقُ ثلاثًا ولو مع قَصدِ التأكيد. وأما الحَنَفيَّةُ فقالوا: إذا أراد التأكيدَ والإفهامَ بتَكرارِ الطَّلاقِ، صدق في الفتوى، وأمَّا في القَضاءِ فيقعُ ثلاثًا. يُنظر: ((الفتاوى الهندية)) (1/355)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (5/335)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (6/459)، ((المبدع)) لابن مفلح (7/279). : الحَنَفيَّةِ [1901]   ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (2/218)، ((الفتاوى الهندية)) (1/355). ، والمالِكيَّةِ [1902]   ((مواهب الجليل)) للحطاب (5/335)، ((منح الجليل)) لعليش (4/93). ، والشَّافِعيَّةِ [1903]   ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (8/52)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (6/459). ، والحَنابِلةِ [1904]   ((المبدع)) لابن مفلح (7/279)، ((الإنصاف)) للمرداوي (9/19).
الدَّليلُ مِنَ السُّنَّةِ:
عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((كان الطَّلاقُ على عَهدِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأبي بكرٍ، وسَنَتينِ مِن خِلافةِ عُمَرَ؛ طَلاقُ الثَّلاثِ: واحِدةً، فقال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: إنَّ النَّاسَ قد استعجَلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أَناةٌ، فلو أمضَيناه عليهم، فأمضاه عليهم )) [1905]   أخرجه مسلم (1472).
وَجهُ الدَّلالةِ:
الحديثُ فيه دَلالةٌ على أنَّه كان في أوَّلِ الأمرِ إذا قال لها: أنتِ طالِقٌ: أنتِ طالِقٌ، أنتِ طالِقٌ، ولم ينوِ تأكيدًا ولا استِئنافًا: يُحكَمُ بوُقوعِ طَلقةٍ؛ لقِلَّةِ إرادتِهم الاستِئنافَ بذلك؛ فحُمِلَ على الغالِبِ الذي هو إرادةُ التأكيدِ، فلمَّا كان في زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه وكَثُرَ استِعمالُ النَّاسِ لهذه الصِّيغةِ، وغَلَب منهم إرادةُ الاستئنافِ بها- حُمِلَت عند الإطلاقِ على الثَّلاثِ؛ عَمَلًا بالغالِبِ السَّابقِ إلى الفَهمِ منها في ذلك العَصرِ. وقيل: المرادُ أنَّ المعتادَ في الزَّمَنِ الأوَّلِ كان طلقةً واحِدةً، وصار النَّاسُ في زمَنِ عُمَرَ يُوقِعونَ الثَّلاثَ دَفعةً، فنَفَّذَه عُمَرُ، فعلى هذا يكونُ إخبارًا عن اختِلافِ عادة النَّاسِ لا عن تغيُّرِ حُكمٍ في مسألةٍ واحِدةٍ [1906]   ((شرح النووي على مسلم)) (10/71). القول الثاني: يَقَعُ طَلقةً واحِدةً، وهو قَولُ طائفةٍ مِنَ السَّلَفِ [1907]   قال ابنُ القيِّم: (أفتى بأنَّها واحدةٌ: الزُّبيرُ بنُ العوَّامِ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ عوف، حكاه عنهما ابنُ وضاح. وعن عليٍّ كرَّم اللهُ وَجهَه، وابنِ مسعودٍ: روايتان، كما عن ابن عبَّاسٍ، وأمَّا التابعون فأفتى به عِكرمةُ، رواه إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ عن أيوبٍ عنه، وأفتى به طاوس، وأمَّا تابعو التَّابعين فأفتى به محمد بن إسحاق، حكاه الإمامُ أحمد وغيرُه عنه، وأفتى به خلاسُ بن عمرٍو، والحارثُ العكلي، وأمَّا أتباع تابعي التابعين فأفتى به داودُ  بنُ علي، وأكثرُ أصحابِه، حكاه عنهم أبو المفلس، وابنُ حزم، وغيرُهما، وأفتى به بعضُ أصحاب مالك، حكاه التلمساني في شرح تفريع ابن الجلاب قولًا لبعضِ المالِكيَّةِ...، والمقصودُ  أنَّ هذا القَولَ قد دَلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّةُ، والقياسُ والإجماعُ القديمُ، ولم يأتِ بعدَه إجماعٌ يُبطِلُه). ((إعلام الموقعين)) (3/34). ، واختيارُ ابنِ تيميَّةَ [1908]   قال ابنُ تَيميَّةَ: (إن طَلَّقها ثلاثًا في طُهرٍ واحِدٍ بكَلِمةٍ واحدةٍ أو كَلِماتٍ، مِثلُ أن يقولَ: أنتِ طالِقٌ ثلاثًا، أو أنتِ طالِقٌ وطالِقٌ وطالِقٌ، أو أنتِ طالِقٌ ثمَّ طالِقٌ ثمَّ طالِقٌ، أو يقولَ: أنتِ طالِقٌ، ثمَّ يقولَ: أنتِ طالِقٌ، ثمَّ يقولَ: أنتِ طالِقٌ، أو يقولَ: أنتِ طالِقٌ ثلاثًا. أو عَشرَ طَلَقاتٍ أو مِئةَ طَلقةٍ أو ألفَ طَلقةٍ، ونحوَ ذلك من العِباراتِ: فهذا للعُلماءِ مِن السَّلَفِ والخَلَفِ فيه ثلاثةُ أقوالٍ، سواءٌ كانت مدخولًا بها أو غيرَ مَدخولٍ بها... الثالِثُ: أنَّه مُحرَّمٌ، ولا يلزَمُ منه إلَّا طَلقةٌ واحِدةٌ... وهو الذي يدُلُّ عليه الكِتابُ والسُّنَّةُ؛ فإنَّ كُلَّ طلاقٍ شَرَعه الله في القرآنِ في المدخولِ بها: إنَّما هو الطَّلاقُ الرَّجعيُّ، لم يَشرَعِ الله لأحدٍ أن يُطَلِّقَ الثَّلاثَ جميعًا). ((مجموع الفتاوى)) (33/7). ، وابنِ القَيِّم [1909]   قال ابنُ القيم: (المقصودُ أنَّ هذا القولَ قد دَلَّ عليه الكِتابُ والسُّنَّةُ، والقياسُ والإجماعُ القديمُ، ولم يأتِ بعدَه إجماعٌ يُبطِلُه). ((إعلام الموقعين)) (3/34). وقال: (عن ابنِ عباسٍ قال: طَلَّق رُكانةُ بنُ عبد يزيدَ أخو بني المطَّلِبِ امرأتَه ثلاثًا في مجلسٍ واحدٍ، فحَزِنَ عليها حزنًا شديدًا، قال: فسأله رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «كيف طلَّقْتَها؟ قال: طلَّقتُها ثلاثًا، قال: فقال: في مجلسٍ واحدٍ؟ قال: نعم، قال: فإنَّما تَملِكُ واحِدةً فأرجِعْها إن شِئتَ»... وقد قال الترمذي فيه: ليس بإسنادِه بأسٌ. فهذا إسنادٌ صَحيحٌ عند أحمد، وليس به بأسٌ عند الترمذي؛ فهو حُجَّةٌ ما لم يعارِضْه ما هو أقوى منه، فكيف إذا عَضَّده ما هو نظيرُه أو أقوى منه). ((إعلام الموقعين)) (3/34). ، وابنِ عثيمين [1910]   قال ابنُ عثيمين: (فالطَّلاقُ ثبتت السُّنَّةُ بأنَّ الثلاثَ يقَعُ واحِدةً، وأمَّا قولَا أهلِ السُّنَّة: فالأوَّلُ: أنَّ الثَّلاثَ تَقَعُ ثلاثًا، وتَبيِنُ به المرأةُ، وهذا هو الذي عليه جمهورُ الأمَّةِ والأئمَّةِ، فإذا قال: أنتِ طالِقٌ ثلاثًا، بانت منه، وإذا قال: أنتِ طالِقٌ، أنتِ طالِقٌ، أنتِ طالِقٌ، بانت منه، فتقَعُ الثلاثُ ثلاثًا سواءً بكَلِمة واحدة أو بأكثَرَ. الثاني: وقال به بعضُ العُلَماءِ، وهم قليلون، لكِنَّ قولَهم حَقٌّ: أنَّه يقَعُ واحِدةً، وهذا اختيارُ شَيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ رحمه الله). ((الشرح الممتع)) (13/41). وقال: (إذا قال الرجُلُ لزَوجتِه: أنتِ طالِقٌ، أنت طالِقٌ، أنتِ طالِقٌ، وقال: أردتُ التوكيدَ، فهي واحدةٌ، ولا أعلَمُ في هذا خلافًا بين العُلَماءِ، ولكِنْ لو قال: أردتُ التأسيسَ، وأنَّ كُلَّ طلقةٍ نافِذةٌ، فأكثَرُ أهل العلم على أنَّها ثلاثٌ، وأنَّها تَبِينُ بها المرأة، والراجِحُ: أنَّها واحِدةٌ؛ لِعُمومِ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما الثابِتِ في صحيحِ مُسلمٍ: «كان الطَّلاقُ في عهدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعَهدِ أبي بكرٍ وعُمَرَ؛ طلاقُ الثلاثِ: واحِدةً، فلمَّا أكثر الناسُ في ذلك، قال عمَرُ: أرى النَّاسَ قد تعجَّلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ، فلأُمضِيَنَّه عليهم، فألزمهم عُمَرُ بالثَّلاثِ»، فتَبِعَه أكثَرُ أهلِ العِلمِ على هذا، ولكِنَّ الصحيحَ أنَّها واحدةٌ سواءً قال: أنتِ طالِقٌ ثلاثًا، أو قال: أنتِ طالِقٌ، أنتِ طالِقٌ، أنتِ طالِقٌ). ((لقاء الباب المفتوح)) اللقاء رقم (12). وقال: (أمَّا الحالُ الثانيةُ للطَّلاقِ الثَّلاثِ، فأن يقولَ: أنتِ طالِقٌ ثلاثًا. والحالُ الثالثةُ: أن يقولَ: أنتِ طالِقٌ، أنتِ طالِقٌ، أنتِ طالِقٌ، وفي هاتين الحالتين خِلافٌ بين أهل العلمِ؛ فجُمهورُ العُلَماءِ على أنَّ الطَّلاقَ يقع ثلاثًا بائنًا كالحالِ الأولى، لا تحِلُّ له إلَّا بعد زَوجٍ، واختار شيخُ الإسلامِ ابن تَيميَّةَ رحمه الله أنَّ الطَّلاقَ في هاتين الحالتين لا يقَعُ إلَّا واحدةً، وأنَّ له مُراجَعتَها ما دامت في العِدَّةِ، وله العَقدُ عليها إذا تمَّت العِدَّةُ، وهذا القَولُ هو القَولُ الرَّاجِحُ عندي). ((فتاوى نور على الدرب)) (10/386).  
الدَّليلُ مِنَ السُّنَّةِ:
عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((كان الطَّلاقُ على عَهدِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأبي بكرٍ، وسَنَتينِ مِن خِلافةِ عُمَرَ؛ طَلاقُ الثَّلاثِ: واحِدةً، فقال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: إنَّ النَّاسَ قد استعجَلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أَناةٌ! فلو أمضَيناه عليهم، فأمضاه عليهم )) [1911]   أخرجه مسلم (1472).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ إمضاءَ الثَّلاثةِ سياسةُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه؛ حتى لا يتعَجَّلَ النَّاسُ في الطَّلاقِ [1912]   ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (13/42).

انظر أيضا: