الموسوعة الفقهية

المطلب الأول: اشتِراطُ توبةِ الزانيةِ في النكاح


يَحرُمُ تزوُّجُ المرأةِ الزَّانيةِ إن لم تَتُبْ [826]     سواءٌ مَن زنى بها أو مَن زنى بها غيرُه. يُنظر: ((كشاف القناع)) (5/82). ، وهو مَذهَبُ الحَنابِلةِ [827]     ((الإنصاف)) للمرداوي (8/99)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/82). ، وقَولُ طائفةٍ من السَّلَفِ [828]     قال البهوتي: (تحرُمُ الزانيةُ -إذا عُلِمَ زناها- على الزاني وغيرِه حتى تتوبَ وتنقضيَ... عند أكثَرِ أهلِ العلمِ، منهم: أبو بكر، وعمر، وابنه، وابن عباس، وجابر. وروي عن ابن مسعود، والبراء ابن عازب، وعائشة: أنَّها لا تحِلُّ للزاني بحالٍ، فيحتمِلُ أنَّهم أرادوا بذلك ما قبل التوبةِ أو قبلَ استبرائِها فيكونُ كقَولنِا. «ولا يُشتَرَطُ» لصحة نكاحِها «توبةُ الزَّاني بها إذا نكَحَها»، أي: إذا أراد أن ينكِحَ الزانيةَ كالزاني بغيرِها). ((كشاف القناع)) (5/82). وقال ابن قدامة: (به قال قتادة، وإسحاق، وأبو عُبيد). ((المغني)) (7/141). ، اختاره ابنُ حَزمٍ [829]     قال ابن حزم: (لا يحِلُّ للزانيةِ أن تَنكِحَ أحدًا؛ لا زانيًا ولا عفيفًا حتى تتوبَ، فإذا تابت حَلَّ لها الزواجُ مِن عفيفٍ حينئذٍ). ((المحلى)) (9/63). ، وابنُ تيميَّةَ [830]     قال ابن تيمية: (العلماءُ قد تنازعوا في جوازِ نكاحِ الزانيةِ قبل توبتِها على قولينِ مشهورينِ، لكِنَّ الكتابَ والسُّنَّة والاعتبارَ يدُلُّ على أنَّ ذلك لا يجوزُ). ((مجموع الفتاوى)) (32/145). وقال أيضًا: (نكاحُ الزَّانيةِ حرامٌ حتى تتوبَ، سواءٌ كان زنى بها هو أو غَيرُه. هذا هو الصَّوابُ بلا ريبٍ، وهو مذهبُ طائفةٍ مِن السَّلَفِ والخَلَفِ: منهم أحمد بن حنبل وغيرُه). ((مجموع الفتاوى)) (32/109). ، وابنُ القيِّمِ [831]     قال ابن القيم: (أمَّا نِكاحُ الزانية فقد صرَّح اللهُ سبحانه وتعالى بتحريمِه في سورة النور، وأخبر أنَّ من نكَحَها فهو إما زانٍ أو مُشرِكٌ؛ فإنَّه إما أنْ يلتَزِمَ حُكمَه سبحانه ويعتَقِدَ وُجوبَه عليه أو لا، فإنْ لم يلتَزِمْه ولم يعتَقِدْه فهو مُشرِكٌ، وإن التزمه واعتقد وجوبَه وخالفه فهو زانٍ. ثمَّ صَرَّح بتحريمِه، فقال: وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ  [النور: 3] ). ((زاد المعاد)) (5/104). وقال: (الزِّنا يُفضي إلى اختلاطِ المياه، واشتباهِ الأنسابِ؛ فمِن محاسِنِ الشَّريعةِ: تحريمُ نكاحِ الزانية،حتى تتوبَ وتستبرئَ). ((إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان)) (1/67). ، والشنقيطيُّ [832]     قال الشنقيطي: (أظهَرُ قولَي أهلِ العلمِ عندي أنَّ الزانيةَ والزانيَ إن تابا من الزِّنا، ونَدِما على ما كان منهما، ونوَيَا ألَّا يعودَا إلى الذَّنبِ؛ فإنَّ نكاحَهما جائزٌ، فيجوزُ له أن ينكِحَها بعد توبتِهما، ويجوزُ نكاحُ غيرِهما لهما بعد التوبةِ). ((أضواء البيان)) (5/427). ،  وابنُ عثيمين [833]     قال ابن عثيمين: (لا يجوزُ لك أن تُزوِّجَ ابنَتَك برجلٍ زانٍ، حتى تظهَرَ توبتُه من الزنا وتستقيمَ حالُه؛ لقول الله تعالى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور: 3] ، ومعنى الآية الكريمة: أنَّه يحرُمُ على المؤمنين أن يزوِّجوا الزانيَ أو أن يتزوَّجوا الزانيةَ، فإن فعلوا ذلك كانوا إمَّا زناةً وإمَّا مشركين، ووجْهُ هذا أنَّ الرَّجُل إذا تزوَّج الزانيةَ فإمَّا أن يرفُضَ كَونَ الزواج بها حرامًا ولا يعتَرِف به وحينئذ يكون مُشرِكًا؛ لأنه أحلَّ ما حرَّم الله، وإما أن يؤمِنَ بأن الزواج بها حرامٌ ولكن لم يتمكَّنْ مِن التحكُّم في نفسِه حتى عصى الله عزَّ وجَلَّ بفعلِ ذلك، فيكون زانيًا؛ لأن النِّكاح ليس بصحيحٍ، هذا هو معنى الآيةِ البيِّنُ الظاهِرُ الواضِحُ الذي لا يحتاج إلى تكَلُّفٍ أو تأويلٍ). ((فتاوى نور على الدرب)) (10/28). ، وبه أفتت اللَّجنةُ الدَّائمةُ [834]     جاء في فتاوى اللجنة الدائمة: (لا يجوزُ التزوُّجُ من الزانيةِ ولا يَصِحُّ العقدُ عليها حتى تتوبَ وتنتهيَ عِدَّتُها). ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى)) (18/384).
الأدِلَّةُ:
أولًا: مِنَ الكِتابِ
قال تعالى: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور: 3]
وَجهُ الدَّلالةِ:
1- أنَّ الله جعَلَه إمَّا زانيًا وإمَّا مُشرِكًا؛ فإنَّه إمَّا أن يلتَزِمَ حُكمَه سُبحانَه، ويعتَقِدَ وُجوبَه عليه أو لا؛ فإنْ لم يلتزِمْه ويعتَقِدْه فهو مُشرِكٌ، وإن التزَمَه واعتقد وجوبَه وخالفَه، فهو زانٍ، ثمَّ صرَّح بتحريمِه فقال: وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [835]     ((التنبيه على مشكلات الهداية)) لابن أبي العز الحنفي (3/1197).           
2- قال تعالى: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء: 25]
وَجهُ الدَّلالةِ:
قَولُه: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ أي: عفائِفَ غيرَ زانياتٍ، ويُفهَمُ مِن مَفهومِ مخالفةِ الآية: أنهنَّ لو كُنَّ مُسافِحاتٍ غيرَ مُحصَناتٍ لَما جاز تزوُّجُهنَّ [836]     ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/422)، ((التنبيه على مشكلات الهداية)) لابن أبي العز الحنفي (3/1198).
3- قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 68-70]
وجهُ الدَّلالةِ:
صرَّح -جلَّ وعلا- في هذه الآيةِ أنَّ الذين يَزنون ومَن ذُكِرَ معهم: إن تابوا وآمنوا، وعَمِلوا عملًا صالحًا، يبدِّلِ اللهُ سيِّئاتِهم حَسناتٍ؛ ففيه دَلالةٌ على أنَّ التوبةَ مِن الزِّنا تُذهِبُ أثَرَه [837]                 ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/422).
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الزَّاني المجلودُ لا يَنكِحُ إلَّا مِثلَه )) [838]     أخرجه أبو داود (2052)، وأحمد (8300) واللَّفظُ له، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. صحَّحه ابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/489)، وجوَّد إسناده ابن عبد الهادي في ((تنقيح تحقيق التعليق)) (3/180)، وقوَّاه ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/149)، ووثَّق رجاله ابن حجر في ((بلوغ المرام)) (296)، والشوكاني في ((الدراري المضية)) (210)، وصحَّح الحديثَ الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2052)، وحسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1451).
ثالثًا: أنَّ مِن القبائِحِ أن يكونَ الرَّجُلُ زَوجَ بَغيٍّ، وقُبحُ هذا مُستَقِرٌّ في الفِطَرِ [839]     ((التنبيه على مشكلات الهداية)) لابن أبي العز الحنفي (3/1199).
رابعًا: أنَّ البَغِيَّ لا يُؤمَنُ أن تُفسِدَ على الرَّجُلِ فِراشَه، وتُعَلِّقَ عليه أولادًا مِن غَيرِه [840]     ((التنبيه على مشكلات الهداية)) لابن أبي العز الحنفي (3/1199).

انظر أيضا: