الموسوعة الفقهية

مطلبٌ: إذا كان المَصِيدُ ممَّا تَوَحَّشَ مِنَ الأَهليَّاتِ فلم يُقدَرْ على ذَكاتِه


يُباحُ اصطيادُ الحيوانِ الأهليِّ إذا تَوَحَّش [227] ليس المرادُ بالتَّوَحُّشِ مُجرَّدَ الإفلاتِ، بل متى تَيسَّرَ اللُّحوقُ به بعَدْوٍ أو استِعانةٍ بمَن يُمْسِكُه فليس ذلك تَوَحُّشًا، ولا يَحِلُّ حينئذٍ إلَّا بالذَّبح. يُنظر: ((المجموع)) للنَّووي (9/123).   ، ولم يُقدَرْ على ذَكاتِه، وهو مذهبُ الجمهورِ: الحَنَفيَّةِ [228] وسواءٌ نَدَّ البعيرُ والبقرُ في الصَّحراءِ أو في المِصْرِ فذَكاتُهُما العَقْرُ... وأمَّا الشَّاةُ فإنْ نَدَّتْ في الصَّحراءِ فذَكاتُها العَقْرُ؛ لأنَّه لا يُقدَرُ عليها، وإنْ نَدَّتْ في المِصْرِ لم يَجُزْ عقْرُها؛ لأنَّه يُمكِنُ أخْذُها؛ إذْ هي لا تَدفَعُ عن نفْسِها، فكان الذَّبحُ مَقدورًا عليه، فلا يَجوزُ العَقرُ. ((الفتاوى الهندية)) (5/430)، ويُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (5/43).   ، والشَّافِعيَّةِ [229] ((المجموع)) للنَّووي (9/123)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهَيْتَمي (9/319).   ، والحنابلةِ [230] ((كشَّاف القِناع)) للبُهُوتي (6/207). ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامةَ (9/389).   ، والظَّاهِريَّةِ [231] قال ابنُ حَزْمٍ: (وأمَّا غيرُ المُتَمكَّنِ منه فذَكاتُه أنْ يُماتَ بذبْحٍ أو بنَحْرٍ حيث أَمكَنَ منه، مِن خاصرةٍ، أو مِن عَجُزٍ، أو فَخِذٍ، أو ظَهْرٍ، أو بطنٍ، أو رأسٍ، كبعيرٍ، أو شاةٍ، أو بقرةٍ، أو دجاجةٍ، أو طائرٍ، أو غيرِ ذلك: سَقَطَ في غَوْرٍ فلم يُتمكَّنْ مِن حلْقِه، ولا مِن لَبَّتِه، فإنَّه يُطعَنُ حيث أَمكَنَ بما يُعَجَّلُ به مَوتُه، ثُمَّ هو حلالٌ أكْلُه. وكذلك كلُّ ما استَعصَى مِن كلِّ ما ذَكَرْنا فلم يُقدَرْ على أخْذِه؛ فإنَّ ذَكاتَه كذَكاةِ الصَّيْدِ، ثُمَّ يُؤْكَلُ... وهو قولُ أبي حنيفةَ وأصحابِه، وسفيانَ الثَّوريِّ، والشَّافِعيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وأحمدَ، وإسحاقَ، وأصحابِهِم. وهو قولُ أبي سفيانَ وأصحابِنا). ((المحلى)) (6/133). وقال النَّوويُّ: (وبه قال جمهورُ العلماءِ... وداودُ). ((المجموع)) (9/126).   ، وهو قولُ طائفةٍ مِنَ السَّلفِ [232] قال النَّوويُّ: (وبه قال جمهورُ العلماءِ، منهم: عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ مسعودٍ، وابنُ عُمرَ، وابنُ عبَّاسٍ، وطاوُوسٌ، وعَطاءٌ، والشَّعبيُّ، والحسنُ البصريُّ، والأَسْوَدُ بنُ يزيدَ، والحَكَمُ، وحَمَّادٌ، والنَّخَعيُّ، والثَّوريُّ، وأبو حنيفةَ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، والمُزَنيُّ). ((المجموع)) (9/126).  
الأدلَّة:
أولًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن رافِعِ بنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه، قال: ((قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّا لاقُو العَدوِّ غدًا، وليستْ معنا مُدًى، فقال: أَعْجِلْ- أو: أَرْني-، ما أَنهَرَ الدَّمَ وذُكِرَ اسمُ اللهِ فكُلْ، ليس السِّنَّ والظُّفُرَ، وسأُحَدِّثُك: أمَّا السِّنُّ فعَظْمٌ، وأمَّا الظُّفُرُ فمُدَى الحبشةِ. وأَصَبْنا نَهْبَ إبلٍ وغَنَمٍ، فنَدَّ [233] نَدَّ: هو- بفتح النُّون وتشديدِ الدَّال- أي: هَرَبَ. والأَوابِدُ- بفتح الهمزة وبالباء الموحَّدةِ-، وهي النُّفورُ والتَّوَحُّشِ، جمْعُ: آبِدَةٍ - بالمد وكسر الباء -. ويقالُ: أَبَدَتْ- بفتح الباء والتخفيف- يَأْبِدُ ويَأْبُدُ- بكسْرِ الباءِ وضَمِّها- وتَأبَّدَتْ، أي: تَوحَّشَتْ ونَفَرَتْ مِنَ الإنسِ. يُنظر: ((المجموع)) للنَّووي (9/123).   منها بعيرٌ، فرَماهُ رَجُلٌ بسهمٍ فحَبَسَه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : إنَّ لهذهِ الإبلِ أَوابِدَ كأوابِدِ الوَحْشِ، فإذا غَلَبكُم منها شيْءٌ فافعَلوا به هكذا )) [234] أخرجه البخاري (5503)، ومسلم (1968) واللَّفظ له.  
ثانيًا: من الآثار
قال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنه: (ما أَعجَزَكَ مِنَ البهائمِ ممَّا في يدَيْكَ فهو كالصَّيْدِ) [235] أخرجه عبد الرزاق في ((المصنف)) (8478)، وابن أبي شَيْبةَ في ((المصنَّف)) (19784)، والبَيْهَقي في ((السنن الكبرى)) (18932)، والبخاري في ((صحيحه)) (7/93) مُعلَّقًا بصيغة الجَزْم. قال النَّووي في ((المجموع)) (9/122): أَثَرٌ صحيح. وذكره البخاري في صحيحه تعليقًا بصيغة الجَزْم؛ فهو صحيحٌ عندَه.  
وعنه رضيَ اللهُ عنه قال: (إذا وَقَع البعيرُ في البئرِ، فاطعَنْهُ مِن قِبَلِ خاصِرَتِه، واذكُرِ اسمَ اللهِ، وكُلْ) [236] أخرجه عبد الرَّزَّاق في ((المصنَّف)) (8488).  
ثالثًا: أنَّ الاعتِبارَ في الذَّكاةِ بحالِ الحيوانِ وقْتَ ذبْحِه، لا بأصْلِه، بدليلِ الوَحْشيِّ إذا قُدِرَ عليه وجَبَتْ تذْكِيَتُه في الحَلْقِ واللَّبَّةِ، فكذلك الأهليُّ إذا تَوَحَّشَ يُعتبَرُ بحالِه [237] ((الاستذكار)) لابن عبد البر (5/269)، ((المغني)) لابن قُدامةَ (9/390).  
رابعًا: أنَّ الإنسيَّ إذا تَوَحَّشَ يَكونُ في معنَى الصَّيْدِ [238] ((بدائع الصنائع)) للكاساني (5/43).  
خامسًا: أنَّ البعيرَ إذا نَدَّ أَقوَى شَبَهًا بالوَحْشِ ممَّا وَقَع في مَهْواةٍ (حفرةٍ)، وقد أُبيحَ تَذْكِيَتُه كيف كانت؛ فهذا أَوْلى [239] ((التوضيح)) لخليل بن إسحاق (3/195).  

انظر أيضا: