الموسوعة الفقهية

الفصل الثاني: النِّيابةُ عَنِ المَيِّتِ


المبحث الأوَّل: من مات وعليه حجٌّ واجِبٌ
من مات وعليه حجٌّ واجبٌ، بقِيَ الحجُّ في ذِمَّتِه، ووَجَبَ الحجُّ عنه مِن رأسِ مالِه يجِبُ مِن رأسِ المالِ؛ لأنَّه دَينٌ واجِبٌ، والدَّينُ الواجِبُ يَخرُجُ من رأس المالِ، فوجب مساواتُه له. ((المجموع)) للنووي (7/109)، ((المبدع شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/39). ، سواءٌ أوصى به أم لا من مات، ولم يكن له تَرِكةٌ لم يلزَمْ أحدًا أن يحُجَّ عنه، لكن يُستحَبُّ لوارِثِه أن يحُجَّ عنه. ينظر: ((المجموع)) للنووي (7/110)، ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/42). ، وهذا مذهَبُ الشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (7/98) ((روضة الطالبين)) للنووي (3/14). ، والحَنابِلَة ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/519)، ويُنظر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/183). ، والظَّاهِريَّةِ قال ابنُ حزم: (من مات وهو مستطيعٌ بأحدِ الوجوه التي قدَّمْنا؛ حُجَّ عنه من رأسِ مالِه واعتُمِرَ، ولا بدَّ؛ مُقَدَّمًا على ديونِ النَّاسِ إن لم يوجَدْ من يحُجُّ عنه تطوعًا، سواء أوصى بذلك أو لم يُوصِ بذلك). ((المحلى)) (7/62). وقال أيضًا: (وهو قولُ مَن ذَكَرْنا، وأحدُ قولي الشافعي، وقولُ جميع أصحابنا) ((المحلى)) (7/65). ، وقالت به طائفةٌ مِنَ السَّلَفِ وبه قال ابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهما والحسن وطاووس، والأوزاعي، والثوري، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبو ثور، وإسحاق، وأضافه ابن حزم إلى جمهور السلف. ((المحلى)) لابن حزم (7/62، 64)، ((المجموع)) للنووي (7/112، 116). واختارَه الشنقيطيُّ قال الشنقيطي: (الأحاديثُ التي ذَكَرْنا تدلُّ قطعًا على مشروعيَّةِ الحجِّ عن المعضوبِ والميت، والأظهرُ عندنا وجوبُ الحج فورًا، وعليه فلو فَرَّطَ، وهو قادِرٌ على الحجِّ حتى مات مُفَرِّطًا مع القدرةِ؛ أنَّه يُحَجُّ عنه مِن رأسِ ماله، إن تَرَك مالًا؛ لأنَّ فريضةَ الحجِّ ترتَّبتْ في ذِمَّته، فكانت دَينًا عليه، وقضاءُ دَين اللهِ صَرَّحَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الأحاديثِ المذكورة بأحقِّيَّتِه؛ حيث قال: ((فدَينُ اللهِ أحقُّ أن يُقضَى)) ). ((أضواء البيان)) (4/327). ، وابنُ باز قال ابنُ باز: (من مات ولم يحُجَّ وهو يستطيعُ الحَجَّ؛ وجب الحجُّ عنه مِنَ التركة، أوصى بذلك أو لم يُوصِ) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/122).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قال اللهُ تعالى في المواريثِ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء: 11]
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه عمَّ في الآيةِ الدُّيونَ كُلَّها، ومن مات وبَقِيَ حجٌّ في ذِمَّتِه؛ فإنَّه دَينٌ عليه، يجِبُ قضاؤُه عنه مِن مالِه قبل قِسمَةِ التَّرِكةِ ((المحلى)) لابن حزم (7/62).
ثانيًا: مِنَ السُّنَّة
1- عن عبدِ اللهِ بنِ بُريدةَ، عن أبيه رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بَينا أنا جالِسٌ عند رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إذ أتَتْه امرأةٌ، فقالت: إنِّي تصَدَّقْتُ على أمِّي بجاريةٍ، وإنَّها ماتَتْ، قال: فقال: وجَبَ أجرُكِ، ورَدَّها عليكِ الميراثُ، قالت: يا رسولَ اللهِ، إنَّه كان عليها صَومُ شَهْرٍ، أفأصومُ عنها؟ قال: صُومِي عنها، قالت: إنَّها لم تحُجَّ قَطُّ، أفأحُجُّ عنها؟ قال: حُجِّي عنها )) رواه مسلم (1149)
2- عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ امرأةً مِن جُهينةَ جاءت إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: إنَّ أمِّي نذَرَتْ أن تحُجَّ، فلم تحُجَّ حتى ماتتْ، أفأحُجُّ عنها؟ قال: نعم، حُجِّي عنها، أرأيتِ لو كان على أمِّكِ دَينٌ أكنتِ قاضِيَتَه؟ اقضُوا اللهَ؛ فاللهُ أحقُّ بالوفاءِ )) رواه مسلم (1852)
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ هذا الحديثَ وإن كان في نَذرِ الحَجِّ، إلَّا أنَّه يدلُّ على فريضةِ الحَجِّ مِن بابِ أَوْلى؛ لأنَّ وُجوبَ حَجِّ الفريضةِ أعظَمُ مِن وجوبِ الحَجِّ بالنَّذرِ، كما أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شبَّهَها بدَينِ الآدميِّ، والدَّينُ لا يسقُطُ بالموتِ، فوَجَبَ أن يتساوَيَا في الحُكْمِ ((الحاوي الكبير)) للمرداوي (4/17)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/324).
ثالثًا: مِنَ الآثارِ
عن ابنِ عبَّاسٍ قال: ((جاءت امرأةٌ إلى ابنِ عَبَّاسٍ، فقالت : إنَّ أمِّي ماتت وعليها حَجَّةٌ، فأقضيها عنها؟ فقال ابنُ عبَّاسٍ: هل كان على أمِّكِ دَينٌ؟ قالت: نعم. قال: فكيف صنعْتِ؟ قالت : قضيتُه عنها. قال ابنُ عبَّاسٍ: فاللهُ خَيرُ غُرَمائِك )) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (3/843).
رابعًا: أنَّه حقٌّ تدخُلُه النِّيابةُ، لَزِمَه في حالِ الحياةِ، فلم يسقُطْ بالموتِ، كدَينِ الآدَميِّ ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/17)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/323).
المبحث الثاني: التبرُّعُ بالحَجِّ عن المَيِّتِ
يجوزُ التبَرُّعُ بالحجِّ عن الميِّتِ، سواءٌ مِنَ الوارِثِ أو مِنَ الأجنبيِّ، وسواءٌ أذِنَ له الوارِثُ أم لا لأنه بموته خرج عن أن يكون من أهل الإذن. ((المجموع)) للنووي (7/110). ، وهو مذهَبُ الشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (7/110)، ((مغني المحتاج)) للشربيني(1/469). ، والحَنابِلَة ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/519)، ويُنظر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/183). واختيارُ ابنِ باز قال ابن باز عندما سُئِلَ عن رجلٍ مات ولم يوصِ أحدًا بالحجِّ عنه، فهل تسقُطُ عنه الفريضة إذا حجَّ عنه ابنُه؟ فأجاب: إذا حجَّ عنه ابنُه المسلمُ الذي قد حجَّ عن نفسِه؛ سقَطَتْ عنه الفريضةُ بذلك، وهكذا لو حجَّ عنه غيرُ ابنِه من المسلمينَ الذين قد حجُّوا عن أنفسِهم. ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/404)
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّة
عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((أتى رجلٌ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال له: إنَّ أختي نذَرَتْ أن تحُجَّ، وإنَّها ماتتْ؟ فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لو كان عليها دينٌ أكُنتَ قاضِيَه؟ قال: نعم، قال: فاقْضِ اللهَ؛ فهو أحقُّ بالقَضاءِ )) رواه البخاري (6699)
وَجهُ الدَّلالةِ:
تَشبيهُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له بالدَّينِ، ثمَّ إنَّه لم يستفْصِلْه أهو وارِثُها أم لا؟ فدلَّ على صِحَّةِ الحجِّ عن الميِّتِ، وقد تقَرَّرَ في الأصولِ: أنَّ عدمَ الاستفصالِ مِنَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُنَزَّلُ منزلةَ العُمومِ القوليِّ ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/323).
ثانيًا: القياسُ على جوازِ أن يتبَرَّعَ بقضاءِ دَينِه بغيرِ إذْنِ الوارِثِ، ويبرَأ الميِّتُ به ((المجموع)) للنووي (7/110).
ثالثًا: القياسُ على صِحَّةِ الصَّدقةِ عنه ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/397).

انظر أيضا: