الموسوعة الفقهية

الفصل الخامس: صلاتا المَغْرِبِ والعشاءِ في المُزْدَلِفةِ


المبحث الأوَّل: الجمْعُ بين صلاتَيِ المغْرِبِ والعشاءِ في المُزْدَلِفةِ
يُسَنُّ للحاجِّ أن يجمَعَ في مُزْدَلِفةَ بين صلاتَيِ المغرِبِ والعشاءِ جَمْعَ تأخيرٍ قال ابنُ حزم: (واتَّفقوا على أنَّ جَمْعَ صلاتَيِ الظُّهر والعصر بعَرَفةَ... وعلى أنَّ جَمْعَ صلاتَيِ المَغْرِب والعِشاء في مُزْدَلِفةَ بعد غروب الشَّمس) ((مراتب الإجماع)) (ص: 45). وقال ابنُ تيميَّة: (اتَّفق المسلمون على الجَمْعِ بين الصلاتين بعَرَفة ومُزْدَلِفة؛ لأنَّ جَمْعَ هاتين الصلاتين في حجَّة الوداع دون غيرهما ممَّا صلاه بالمسلمينَ بمِنًى، أو بمكَّةَ- هو مِنَ المنقولِ نقلًا عامًّا متواترًا مستفيضًا) ((مجموع الفتاوى)) (22/85). ، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ: المالِكيَّة في المشهورِ ((الشرح الكبير)) للدردير (2/44)، ((حاشية الدسوقي)) (2/44). ويُنظر: ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (22/202). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (8/133)، ويُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/176). ، والحَنابِلة ((شرح منتهي الإرادات)) للبهوتي (1/ 298)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/ 374)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/437). ، وبه قال أبو يوسفَ مِنَ الحَنَفيَّة ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/155). ، وهو قَوْلُ طائِفةٍ مِنَ السَّلَفِ قال شمس الدين ابن قُدامة: ( "وإنْ صلَّى المغربَ في الطريقِ تَرَكَ السنَّة وأجْزَأَه" وبه قال عطاء وعروة والقاسم وسعيد بن جبير ومالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأبو يوسف وابن المُنْذِر). ((الشرح الكبير)) (3/439). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك قال ابنُ المُنْذِر: (وأجمعوا على أنَّ السنَّةَ أن يجمَعَ الحاجُّ بين المَغْرِب والعِشاء) ((الإجماع)) (ص: 57). وقال ابنُ عَبْدِ البَرِّ: (وأجمع العُلَماءُ أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَفَعَ من عَرَفة بالنَّاس بعدما غَرَبت الشَّمس يوم عَرَفة فأفاض إلى المُزْدَلِفة، وأنَّه عليه السلام أخَّرَ حينئذٍ صلاةَ المغرب فلم يُصَلِّها حتى أتى المُزْدَلِفة فصلى بها بالنَّاسِ بالمَغْرِب والعِشاءِ جميعًا بعدما غاب الشَّفَق ودخل وقتُ العشاء الآخرة، وأجمعوا أنَّ ذلك سنَّةُ الحاجِّ في ذلك الموضِعِ) ((التمهيد)) (9/269). وقال ابنُ رشد: (أجمعوا على أنَّ الجمْعَ بين الظهر والعصر في وقتِ الظُّهْرِ بعَرَفة سُنَّة، وبين المَغْرِب والعِشاء بالمُزْدَلِفة أيضًا في وقت العشاءِ سُنَّة أيضًا. واختلفوا في الجَمْعِ في غير هذين المكانينِ) ((بداية المجتهد)) (1/170).
الأدِلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن ابنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((جمَعَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بين المغرِبِ والعِشاءِ بجَمْعٍ كلَّ واحدةٍ منهما بإقامةٍ، ولم يُسَبِّحْ بينهما، ولا على إِثْرِ كلِّ واحدةٍ منهما )) رواه البخاري (1673) واللفظ له، ومسلم (703)
2- عن أبي أيُّوبَ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جمَعَ في حجَّةِ الوداعِ المغربَ والعِشاءَ بالمُزْدَلِفة )) رواه البخاري (1674) واللفظ له، ومسلم (1287)
3- عن كُرَيبٍ عن أسامةَ بنِ زيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه سَمِعَه يقول: ((دفَعَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من عَرَفة، فنزل الشِّعْبَ، فبال ثمَّ توضَّأَ ولم يُسْبِغِ الوضوءَ، فقلتُ له: الصَّلاةَ؟ فقال (الصَّلاةُ أمامَك). فجاء المُزْدَلِفةَ فتوضَّأَ فأسبَغَ، ثم أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فصَلَّى المغرِبَ، ثمَّ أناخ كلُّ إنسانٍ بَعيرَه في منزِلِه، ثم أقيمَتِ الصَّلاةُ فصَلَّى، ولم يُصَلِّ بينهما )) رواه البخاري (1672) واللفظ له، ومسلم (1280)
المبحث الثَّاني: الجمعُ بين المغرِبِ والعشاءِ بأذانٍ واحدٍ وإقامَتينِ
يُجمَعُ بين المغرِبِ والعِشاءِ بأذانٍ واحدٍ وإقامتينِ، وهذا مذهَبُ الشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (8/134)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/135). ، والحَنابِلة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/491)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/374). ، وبه قال زُفَرُ ((الهداية شرح البداية)) للمرغيناني (1/145)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (2/27). والطحاويُّ قال الطحاويُّ بعدما ذكر الخلافَ في المسألة: (فلما اختلفوا في ذلك على ما ذَكَرْنا, وكانت الصلاتانِ يُجمَع بينهما بمُزْدَلِفة, وهما المغربُ والعشاء, كما يُجمَع بين الصلاتينِ بعَرَفة, وهما الظهرُ والعصر, فكان هذا الجمعُ في هذين الموطنينِ جميعًا لا يكونُ إلا لمُحْرِمٍ في حرمةِ الحجِّ, فلا يكونُ لحلالٍ ولا لمعتَمِرٍ غيرِ حاجٍّ, وكانت الصلاتانِ بعَرَفةَ تُصَلَّى إحداهما في إِثْرِ صاحبتها, ولا يُعْمَل بينهما عمَلٌ, وكانتا يؤذَّنُ لهما أذانًا واحدًا, ويقامُ لهما إقامتينِ، كما يُفعَل بعَرَفةَ سواء. هذا هو النَّظَر في هذا البابِ، وهو خلافُ قول أبي حنيفة, وأبي يوسف, ومحمَّد) ((شرح معاني الآثار)) (2/214)، وانظر ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (2/27). ((حاشية رد المحتار)) لابن عابدين (1/391). مِنَ الحَنَفيَّة، وعبدُ الملِك ابنُ الماجِشون مِنَ المالِكيَّة ((كفاية الطالب الرباني)) لأبي الحسن المالكي (1/424)، ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (9/266). ، واختاره ابنُ المُنْذِر يُنْظَر: ((الإشراف)) (3/316). ، وابْنُ حَزْمٍ ((المحلى)) لابْن حَزْمٍ (7/129). ، وابنُ القَيِّم قال ابنُ القيم: (والصحيحُ: أنَّه صلَّاهما بأذانٍ وإقامتينِ، كما فعل بعَرَفة) ((زاد المعاد)) (2/247). ، والشوكانيُّ قال الشوكاني بعد أنْ ذَكَرَ الأقوال: (والحقُّ ما قاله الأوَّلون؛ لأنَّ حديث جابر مشتمِلٌ على زيادة الأذان، وهي زيادةٌ غيرُ منافيةٍ، فيتعَيَّن قَبولُها) ((نيل الأوطار)) (3/221). ، والشنقيطيُّ قال الشنقيطي: (فاعلَمْ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نزل في الطَّريقِ، فبال وتوضَّأَ وضوءًا خفيفًا وأخبَرَهم بأنَّ الصَّلاةَ أمامَهم، ثم أتى المُزْدَلِفةَ فأسبَغَ وُضوءَه وصلَّى المَغْرِبَ والعِشاءَ بأذانٍ واحدٍ وإقامتينِ) ((أضواء البيان)) (4/442). ، وابنُ باز قال ابنُ باز: (المشروعُ لجميعِ الحُجَّاج المبادرةُ بصلاةِ المَغْرِب والعِشاء جمعًا وقصرًا بأذانٍ واحدٍ وإقامتينِ مِن حينِ وُصولِهم إلى مُزْدَلِفةَ قبلَ حَطِّ الرِّحالِ) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (17/243). ، وابنُ عُثيمين قال ابنُ عثيمين: (وقوله: ((بأذانٍ واحدٍ وإقامتين))، وهذا هو الصَّحيحُ في الجمع أنَّه أذانٌ واحدٌ للصلاتين جميعًا وإقامتان، لكلِّ صلاةٍ إقامةٌ) ((مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين)) (24/491).
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أتى المُزْدَلِفةَ، فصلَّى بها المَغْرِبَ والعِشاءَ بأذانٍ واحدٍ وإقامتينِ، ولم يُسَبِّحْ بينهما شيئًا، ثم اضطجَعَ حتى طلَعَ الفجرُ، وصلَّى الفجْرَ )) رواه مسلم (1218)
2- عن أسامَةَ بنِ زيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((دفَعَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنْ عَرَفةَ حتى إذا كان بالشِّعْبِ نزل فبال، ثم توضَّأَ ولم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصَّلاةَ يا رسولَ اللهِ، فقال: الصَّلاةُ أمامك. فرَكِبَ، فلما جاء المُزْدَلِفةَ نزل، فتوضَّأَ فأسبَغَ الوضوءَ، ثم أقيمَتِ العشاء فصلَّى المغرِبَ، ثم أناخ كلُّ إنسانٍ بعيرَه في مَنْزِلِه، ثم أقيمَتِ الصَّلاةُ فصَلَّى، ولم يُصَلِّ بينهما )) رواه البخاري (139) واللفظ له، ومسلم (1280).
ثانيًا: الاعتبارُ بالجمعِ بعَرَفة ((شرح معاني الآثار)) للطحاوي (2/214)، ((الهداية شرح البداية)) للمرغيناني (1/145).
المبحث الثَّالث: صلاةُ الفَجْرِ في مُزْدَلِفةَ تُصَلَّى في أوَّلِ وَقْتِها
يُشْرَعُ للحاجِّ بعد بياتِه بمُزْدَلِفةَ أن يُصَلِّيَ صلاةَ الفَجْرِ في أوَّلِ وَقتِها، ويأتي المشعَرَ الحرامَ (جَبَلَ قُزَحَ) ويقف عنده فيدعو اللهَ سبحانه وتعالى قال ابنُ عَبْدِ البَرِّ: (وأجمع العُلَماء على أنَّ النبيَّ عليه السلام وقف بالمشعَرِ الحرامِ بعد ما صلَّى الفجرَ ثمَّ دفَعَ قبل طلوعِ الشَّمس) ((الاستذكار)) (4/292). ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة ((المبسوط)) للسرخسي (4/33)، ويُنظر:((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/156). ، والمالِكيَّة ((الكافي)) لابن عَبْدِ البَرِّ (1/374)، ((التاج والإكليل)) للمواق (3/478) ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (8/125). ، والحَنابِلة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/ 497)، ((المغني)) لابن قُدامة (3/375- 376).
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- فِعْلُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما في حديث جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، وفيه: ((حتَّى أتى المُزْدَلِفةَ فصَلَّى بها المَغْرِبَ والعِشاءَ بأذانٍ واحدٍ وإقامتينِ، ولم يُسَبِّحْ بينهما شيئًا، ثم اضطجَعَ حتى طلَعَ الفَجْرُ، وصلَّى الفَجْرَ حين تَبَيَّنَ له الصبحُ، بأذانٍ وإقامةٍ، ثم رَكِبَ حتى أتى المشعَرَ الحرامَ، فاستقبَلَ القبلةَ، فدعا اللهَ تعالى وكبَّرَه وهلَّلَه، فلم يَزَلْ واقفًا حتى أسفَرَ جِدًّا، فدفع قبل أن تطلُعَ الشَّمْسُ )) رواه مسلم (1218)
2- عن ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال ((ما رأيتُ رسولَ الله صلي الله عليه وسلم صلَّى صلاةً إلَّا لميقاتِها إلَّا صلاتين: صلاة المَغْرِبَ والعِشاءَ بجَمْعٍ، وصلى الفجرِ يومئذٍ قبلَ ميقاتِها )) رواه البخاري (1682)، ومسلم (1289) واللفظ له.
ثانيًا: أنَّه يُستَحَبُّ الدُّعاءُ بعدها، فاستُحِبَّ تقديمُها؛ ليَكْثُرَ الدُّعاءُ ((المجموع)) للنووي (8/125).
ثالثًا: ليتَّسِعَ الوقتُ لوظائِفِ هذا اليومِ مِنَ المناسِكِ؛ فإنَّها كثيرةٌ في هذا اليومِ، فليس في أيَّامِ الحجِّ أكثَرُ عملًا منه ((المجموع)) للنووي (8/141).

انظر أيضا: