الموسوعة الفقهية

الفصل الثَّاني: من حِكَم مشروعيَّةِ الحَجِّ


1- تحقيقُ توحيدِ اللهِ تعالى:
- قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ قال ابنُ كثير: (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي **الحج: 26** أي: ابْنِهِ على اسْمِي وحدِي، وَطَهِّرْ بَيْتِيَ **الحج: 26** قال مجاهد وقتادة: من الشِّرْك، لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ **الحج: 26** أي: اجعله خالصًا لهؤلاء الذين يعبدون اللهَ وحده لا شريكَ له) ((تفسير ابن كثير)) (5/413). [الحج: 26-27]
- عن جابر رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال في بيانِ حَجَّتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلام: ((فأهلَّ بالتوحيدِ قال النووي: (وفيه إشارةٌ إلى مخالفة ما كانت الجاهليَّة تقوله في تَلْبِيَتها من لفْظِ الشِّرْك) ((شرح النووي على مسلم)) (8/174). : لبَّيكَ اللهُمَّ لبَّيك، لبَّيْك لا شريكَ لك لبَّيْك؛ إنَّ الحمدَ والنِّعمَةَ لك والْمُلْك، لا شريكَ لك قال ابنُ باز: (كله –أي الحج- دعوةٌ إلى توحيده، والاستقامَةِ على دينه، والثَّباتِ على ما بُعِثَ به رسولُه محمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلام، فأعظمُ أهدافه توجيهُ الناس إلى توحيدِ الله، والإخلاص له، والاتِّباع لرسوله صلَّى الله عليه وسَلَّم فيما بعثه اللهُ به من الحق والهدى في الحَجِّ وغيره، فالتَّلْبِيَةُ أوَّلُ ما يأتي به الحاجُّ والمعتمر؛ يقول: لبَّيْكَ اللهم لبيك، لبَّيْك لا شريك لك لبيك. يعلن توحيدَه لله وإخلاصَه لله، وأنَّ الله سبحانه لا شريك له) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/186). )) رواه مسلم (1218).
2- إظهارُ الافتقارِ إلى اللهِ سبحانه:
فالحاجُّ يبتعِدُ عن الترفُّهِ والتزيُّنِ، ويلبَسُ ثيابَ الإحرامِ؛ متجرِّدًا عن الدنيا وزينَتِها، فيُظْهِر عَجْزَه، ومسكَنَتَه، ويكون في أثناءِ المناسك ضارعًا لربِّه عزَّ وجَلَّ، مفتقرًا إليه، ذليلًا بين يديه، مُنقادًا بطواعِيَةٍ لأوامِرِه، مجتَنِبًا لنواهِيه سبحانه، سواءٌ عَلِمَ حِكْمَتَها أم لم يعلَمْ قال السعدي: (والمقصودُ من الحج، الذلُّ والانكسارُ لله، والتقرُّبُ إليه بما أمكن من القُرُبات، والتنزُّه عن مقارفة السيئات؛ فإنَّه بذلك يكون مبرورًا، والمبرورُ ليس له جَزَاءٌ إلا الجنَّةُ، وهذه الأشياءُ وإن كانت ممنوعةً في كل مكان وزمان، فإنها يتغلَّظُ المنع عنها في الحج) ((تفسير السعدي)) (1/92). وقال ابنُ عُثيمين: (وهو في الحقيقة-أعني رَمْيَ الجَمَرات- غايةُ التعبُّد والتذلل لله سبحانه وتعالى؛ لأنَّ الإنسانَ لا يعرف حكمةً مِن رَمْيِ هذه الجمرات في هذه الأمْكِنَة، إلَّا لأنها مجرَّدُ تعبدٍ لله سبحانه وتعالى، وانقيادُ الإنسانِ لطاعة الله، وهو لا يعرِفُ الحكمة، أبلغُ في التذلُّل والتعبد؛ لأنَّ العباداتِ منها ما حكمته معلومةٌ لنا وظاهرةٌ، فالإنسان ينقاد لها تعبُّدًا لله تعالى وطاعةً له، ثم اتِّباعًا لِمَا يعلم فيها من هذه المصالح، ومنها ما لا يعرف حكمته، ولكن كونُ الله يأمر بها ويتعبَّدُ بها عباده، فيمتثلون؛ فهذا غايةُ التذلُّل والخضوع لله) ((فتاوى نور على الدرب)) (8/220).
3- تحقيقُ التقوى لله تعالى:
قال تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ قال ابنُ جرير: (وتزوَّدوا من أقواتِكم ما فيه بلاغُكم إلى أداءِ فَرْضِ ربكم عليكم؛ في حجِّكم ومناسككم؛ فإنَّه لا بِرَّ لله جلَّ ثناؤه في تَرْكِكم التزوُّدَ لأنفُسِكم ومسألَتِكم النَّاسَ، ولا في تضييعِ أقواتِكم وإفسادها، ولكن البرَّ في تقوى ربِّكم؛ باجتناب ما نهاكم عنه في سَفَرِكم لحَجِّكم، وفِعْل ما أمركم به، فإنَّه خيرُ التزوُّد، فمنه تزودوا) ((تفسير ابن جرير)) (4/161). [البقرة: 197]
ومما تتحقَّقُ به التقوى في الحجِّ، الابتعادُ عن محظوراتِ الإحرامِ.
4- إقامَةُ ذِكْرِ اللهِ عزَّ وجَلَّ:
قال تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة: 198–200]
5- تهذيبُ النَّفْسِ البشريَّةِ:
قال تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ قال السعدي: (قوله: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ **البقرة: 197** أي: يجب أن تعظِّموا الإحرامَ بالحج، وخصوصًا الواقعَ في أشهُرِه، وتصونوه عن كل ما يُفسِده أو ينقصه، من الرفث: وهو الجماعُ ومُقَدِّماته الفعلية والقوليَّة، خصوصًا عند النساء بحضرتهن، والفُسوقِ: وهو جميع المعاصي، ومنها محظوراتُ الإحرام، والجدالِ: وهو المماراة والمنازعة والمخاصمة؛ لكونها تثير الشَّرَّ؛ وتوقع العداوة... واعلم أنَّه لا يَتِمُّ التقرُّب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الأوامِرَ؛ ولهذا قال تعالى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ **البقرة: 197** أتى بـ (مِن) للتنصيصِ على العموم، فكلُّ خيرٍ وقُربةٍ وعبادة، داخلٌ في ذلك، أي: فإنَّ الله به عليم، وهذا يتضمَّن غاية الحثِّ على أفعال الخير، وخصوصًا في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنيفة، فإنَّه ينبغي تدارُكُ ما أمكن تدارُكُه فيها؛ من صلاةٍ، وصيامٍ، وصدقةٍ، وطوافٍ، وإحسانٍ قوليٍّ وفعليٍّ) ((تفسير السعدي)) (1/91-92). [البقرة: 197]
عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه قال: سمعْتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم يقول: ((من حجَّ لله، فلم يرْفُثْ ولم يفْسُقْ، رجع كيومَ وَلَدَتْه أمُّه )) رواه البخاري (1521) واللفظ له، ومسلم (1350).
6- في الحَجِّ تذكيرٌ بالآخِرَة ووقوفِ العبادِ بين يَدَيِ اللهِ تعالى يومَ القيامَةِ:
فالمشاعِرُ تجمع النَّاسَ من مختَلِفِ الأجناسِ في زيٍّ واحدٍ؛ مكشوفي الرُّؤوس، يلبُّون دعوةَ الخالق عزَّ وجَلَّ، وهذا المشهَدُ يُشْبِهُ وقوفَهم بين يديه سبحانه يومَ القيامة في صعيدٍ واحدٍ حفاةً عراةً غُرْلًا خائفينَ وَجِلِينَ مُشْفِقينَ؛ وذلك مما يبعَثُ في نَفْسِ الحاجِّ خَوْفَ اللهِ ومراقَبَتَه والإخلاصَ له في العَمَلِ ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/246-247).
7- تربيةُ الأُمَّةِ على معاني الوَحْدَةِ الصَّحيحةِ:
ففي الحجِّ تختفي الفوارِقُ بين النَّاسِ من الغنى والفَقْرِ، والجِنْسِ واللَّوْنِ، وغيرِ ذلك، وتتوحَّد وِجْهَتُهم نحو خالقٍ واحدٍ، وبلباسٍ واحدٍ، يؤدُّون نفْسَ الأعمالِ في زمنٍ واحد ومكانٍ واحدٍ، بالإضافة إلى ما يكون بين الحجيجِ مِن مظاهِرِ التعاوُنِ على البِرِّ والتقوى، والتَّواصي بالحقِّ، والتواصي بالصَّبْر قال ابنُ عُثيمين ضِمْن ذِكْرِه لبعض فوائِدِ الحج: (5- ما يكون فيه من اجتماعِ المسلمينَ من جميع الأقطارِ وتبادُلِ المودَّة والمحبَّة والتعارف بينهم، وما يتَّصِل بذلك من المواعِظِ والتوجيه والإرشادِ إلى الخير والحثِّ على ذلك. 6- ظهورُ المسلمين بهذا المظهَرِ الموحَّدِ في الزمان والمكان والعمَلِ والهيئة، فكلُّهم يقفون في المشاعِرِ بزمنٍ واحد، وعملُهم واحدٌ، وهيئتهم واحدة؛ إزارٌ ورداءٌ، وخضوعٌ، وذلك بين يَدَيِ اللهِ عزَّ وجَلَّ) ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (24/241).
8- أنَّ أداءَ فريضةِ الحَجِّ فيه شكرٌ لنِعْمَةِ المالِ وسلامَةِ البَدَنِ:
ففي الحجِّ شُكر هاتين النِّعْمَتينِ العظيمتينِ؛ حيث يُجْهِدُ الإنسانُ نفسَه، ويُنفِقُ مالَه في التقرُّبِ إلى الله تبارك وتعالى ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (17/26-27).
إلى غير ذلك من الحِكَم والفوائِدِ والمنافِعِ ((مجموع ورسائل العُثيمين)) (24/239-241).

انظر أيضا: