الموسوعة الفقهية

المطلب الأوَّل: حُكمُ غُسْلِ الميِّت، وبعضُ الأحكامِ المتعلِّقة به


الفرع الأوَّل: حُكمُ غُسْلِ المَيِّتِ
غُسْلُ الميِّتِ المسلمِ فَرْضُ كفايةٍ، وهذا باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنفيَّة [7467] ((المبسوط)) للسرخسي (30/277). ويُنظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/105)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/299). ، والمالِكيَّة [7468] ((الكافي)) لابن عبد البر (1/270). ويُنظر: ((الشرح الصغير)) للدردير (1/543). وهناك قول آخر عند المالكية بالسنية. قال الخرشي: («ص» في وجوب غُسلِ المَيِّت بمُطَهِّر، ولو بزمزم، والصَّلاةِ عليه كَدَفْنِه وكَفَنه وسُنِّيَّتهما؛ خلافٌ. «ش» يعني أنه اختُلِفَ: هل غُسْلُ المَيِّت المُسلِمِ، المتقدِّمِ له استقرارُ حياةٍ، وليس بشهيدٍ ولا فُقِدَ أكثَرُه؛ واجِبُ كفايةٍ- وشَهَره ابنُ راشد وابن فرحون- أو سُنَّةٌ- وشَهَرَه ابن بزيزة؟ وكذلك اختُلِفَ: هل الصَّلاةُ عليه واجبةٌ وجوبَ الكفايةِ- وعليه الأكثرُ، وشهره الفاكهاني وغيره- أو سُنَّة؟). ((شرح مختصر خليل)) (2/113). ، والشَّافعيَّة [7469] ((المجموع)) للنووي (2/98). ويُنظر: ((البيان)) للعمراني (3/17)، ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/298). ، والحَنابِلَة [7470] ((الإنصاف)) للمرداوي (2/330)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/85). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك [7471] قال ابن حزم: (اتَّفقوا على أنَّ غُسله-أي المسلم- والصَّلاة عليه إن كان بالغًا، وتكفينَه ما لم يكن شهيدًا، أو مقتولًا ظُلمًا في قصاصٍ؛ فَرْضٌ). ((مراتب الإجماع)) (ص:34). وقال ابن عبد البَرِّ: (غُسْلُ الموتى قد ثبت بالإجماع ونَقْل الكافَّة؛ فواجِبٌ غسل كلِّ ميتٍ إلَّا من أخرجه إجماعٌ أو سنَّة ثابتةٌ، وهذا قول مالكٍ، واللهُ الموفِّقُ للصواب). ((التمهيد)) (24/246). وقال الكاساني: (الإجماع منعقِدٌ على وجوبه). ((بدائع الصنائع)) (1/299). وقال السمرقندي: (فإنَّ غُسْلَ المَيِّت واجبٌ بإجماع الأمَّةِ عليه مِن لَدُنْ آدمَ عليه السلام إلى يَوْمِنا هذا). ((تحفة الفقهاء)) (1/239). وقال النووي: (غُسْلُ المَيِّت فرضُ كفايةٍ بإجماع المسلمين). ((المجموع)) (5/128). وقال العيني: (في غُسْلِ الميت، هل هو فرضٌ أو واجبٌ أو سُنَّة؟ فقال أصحابنا: هو واجِبٌ على الأحياء بالسُّنَّة وإجماعِ الأُمَّةِ، أمَّا السُّنة: فقوله صلَّى الله عليه وسلَّم (للمُسْلِمِ على المُسْلِمِ سِتُّ حقوقٍ...) وذكر منها: إذا مات أن يُغَسِّلَه؛ وأجمعت الأمَّةُ على هذا). ((عمدة القاري)) (8/35). وقال ابن الهمام: («فصل في الغُسْلِ» غسل المَيِّت فرضٌ بالإجماعِ إذا لم يكن المَيِّت خنثى مشكلًا؛ فإنه مختلف فيه: قيل: يُيَمَّم، وقيل: يُغَسَّل في ثيابِه، والأوَّلُ أولى. وسنَدُ الإجماعِ في السنَّة: قيل: ونوع من المعنى). ((فتح القدير)) (2/105). وقال المرداوي: (قوله: «غسل المَيِّت وتكفينه والصلاة عليه ودفنُه فرضُ كفايةٍ». بلا نزاعٍ). ((الإنصاف)) (2/330). لكن قال ابن حجر: (وقد نقل النوويُّ الإجماعَ على أنَّ غُسل المَيِّت فرضُ كفايةٍ، وهو ذهولٌ شديدٌ؛ فإن الخلاف مشهور عند المالكية؛ حتى إنَّ القرطبيَّ رجَّحَ في شرح مسلم أنه سُنَّة، ولكنَّ الجمهورَ على وجوبِهِ، وقد رد ابنُ العربيِّ على من لم يَقُلْ بذلك، وقد توارَدَ به القولُ والعَمَلُ، وغُسل الطاهر المُطَهر فكيف بمن سواه). ((فتح الباري)) (3/125). وتعقَّبه العيني فقال: (وقد أنكر بعضُهم على النوويِّ في نقله هذا؛ فقال: وهو ذهولٌ شديدٌ؛ فإنَّ الخلافَ مشهورٌ جدًّا عند المالكية، حتى إنَّ القرطبيَّ رجَّحَ في (شرح مسلم) أنه سنَّة، ولكنَّ الجمهور على وجوبه. انتهى. قلت: هذا ذهولٌ أشدُّ من هذا القائل؛ حيث لم ينظر إلى معنى الكلامِ، فإن معنى قوله: سنَّة، أي: سنة مؤكَّدة، وهي في قوَّةِ الوجوب، حتى قال هو: وقد ردَّ ابن العربي على من لم يَقُلْ بذلك، أي: بالوجوب، وقال: توارَدَ به القولُ والعمل، وغسل الطاهر المطهر فكيف بمن سواه؟). ((عمدة القاري)) (8/36).
الدَّليلُ مِنَ السُّنَّة:
1- عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: بينما رجلٌ واقِفٌ بعرَفَةَ، إذْ وَقَعَ عن راحِلَتِه، فوقَصَتْه [7472] الوَقْصُ: كَسْرُ العُنُقِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (5/214)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/206). - أو قال: فأَوْقَصَتْه- قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((اغسِلوه بماءٍ وسِدْرٍ، وكَفِّنوه في ثوبينِ.. )) [7473] أخرجه البخاري (1265) واللفظ له، ومسلم (1206).
وَجهُ الدَّلالةِ:
2- أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أمَرَ بغُسْلِ الميِّتِ، فدَلَّ على وجوبِه، فإذا قام به بعضُ المُسلمين سَقَطَ عن الباقينَ؛ لحصولِ المقصود [7474] ((المبسوط)) للسرخسي (2 /105)، ((سبل السلام)) للصنعاني (2/92).
الفرع الثاني: حُكمُ أخْذِ الأُجرةِ على غُسْلِ المَيِّت
يجوز أخْذُ الأجرةِ على غُسلِ المَيِّت، وهو مذهَبُ الجمهور: الحَنفيَّة [7475] ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/187)، ((البناية)) للعيني (3/194). الأحناف قالوا: إن كان في البلدة غيره يجوز له أخذ الأجرة، وإن لم يكن لا يجوز. ، والمالِكيَّة [7476] ( ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (2/192). ويُنظر: (الذخيرة)) للقرافي (5/401). وقال المالكيَّة: (يجوز أخْذُ الأجرة ما لم يتعيَّنْ عليه؛ كأنْ لم يُوجَدْ غيرُه، فعندها لا يجوز أخْذُ الأجرة). ينظر: (الشرح الصغير)) للدردير (4/10). والشَّافعيَّة [7477] ((روضة الطالبين)) للنووي (5/187)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (2/344). ، وروايةٌ عن أحمَدَ [7478] ((الإنصاف)) للمرداوي (2/378). ، وهو قولُ ابنِ بازٍ [7479] ((مجموع فتاوى ابن باز)) (13/117).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّ هذه الأجرةَ تكون في مقابِلِ العَمَلِ المتعَدِّي للغَيْرِ، والعملُ المتعدِّي للغَيرِ يجوزُ أَخْذُ الأُجرَةِ عليه [7480] ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (6/60).
ثانيًا: لأنَّ وجوبَ مُؤَنِ ذلك في مالِ المَيِّتِ بالأصالةِ، ثمَّ في مالِ مُمَوِّنِه، ثمَّ المياسير، فلم يُقصَد الأجيرُ لِنَفسِه حتى يقَعَ عنه، ولا يضرُّ عروض تعيُّنِه عليه كالمضطرِّ؛ فإنَّه يَتَعَيَّنُ إطعامُه مع تَغْريمِه البَدلَ [7481] ((نهاية المحتاج)) للرملي (5/292).
الفرع الثالث: سَتْرُ الغاسِلِ القبيحَ الذي يراه
يجب على الغاسِلِ سَتْرُ قبيحٍ رآه من الميِّتِ، وهذا باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنفيَّة [7482] ((حاشية الطحطاوي)) (ص: 374). ويُنظر: ((الدر المختار)) للحصكفي (2/239). ، والمالِكيَّة [7483] ((مواهب الجليل)) للحطاب (3/29). ويُنظر: ((حاشية العدوي على شرح مختصر خليل للخرشي)) (2/125). ، والشَّافعيَّة [7484] ((المجموع)) للنووي (5/186)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/358). ، والحَنابِلَة [7485] ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/102). ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/340).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من السُّنَّة
عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((... ومن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَه اللهُ يومَ القيامة )) [7486] أخرجه البخاري (2442)، ومسلم (2580).
ثانيًا: لأنَّه غِيبَةٌ، والغِيبةُ محرَّمةٌ [7487] ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/358).
الفرع الرابع: حُكمُ حضورِ من لا يُحتاجُ إليه في الغُسْلِ
يُكْرَه أن يَحْضُرَ الميِّتَ من لا يُعينُ في غُسْلِه، ولا حاجَة تدعو إلى حُضورهِ، وهو مذهبُ الجمهورِ: المالِكيَّة [7488] ((مواهب الجليل)) للحطاب (3/29). ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/124). قال الخرشي: يُستحَبُّ عدمُ حضورِ غيرِ مُعينٍ للغاسِلِ لصَبٍّ أو تقليبٍ، بل يُكرَه حُضُوره. ، والشَّافعيَّة [7489] ((المجموع)) للنووي (5/160). ويُنظر: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/305). ونصُّوا على استحبابِ عَدَمِ حضورِ الغُسل إلَّا للغاسِلِ، ومن لا بدَّ له مِن مَعونَتِه، وقالوا: وللوليِّ أن يَدْخُلَ وإنْ لم يُغَسِّل. ، والحَنابِلَة [7490] ((الإنصاف)) للمرداوي (2/341). ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/339). ؛ وذلك لأنَّه يُكرَه النَّظَرُ إلى المَيِّتِ إلَّا لحاجةٍ [7491] ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (2/317).

انظر أيضا: