الموسوعة الفقهية

المبحث الثَّاني: الاستحالة


المطلب الأوَّل: تعريفُ الاستحالة
الاستحالةُ لغةً: تُطلَقُ على تغيُّرِ الشَّيءِ عن طَبعِه ووَصفِه ((المصباح المنير)) للفيومي (1/157)، ((لسان العرب)) لابن منظور (11/188).
الاستحالة اصطلاحًا: تَحوُّلُ العَينِ النَّجسةِ بنَفْسِها أو بواسطةٍ ((الفقه الإسلامي وأدلته)) للزحيلي (1/250). ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (3/213).
المطلب الثَّاني: طهارةُ العَينِ النَّجسةِ بالاستحالة
إذا استحالت العَينُ النَّجسةُ إلى عينٍ أخرى من أمثلة ذلك: الرَّوْثُ إذا صار بالإحراقِ رمادًا، والزَّيتُ المتنجِّس بجعلِه صابونًا، وطينُ البالوعةِ إذا جَفَّ وذهَب أثره، والنَّجاسةُ إذا دُفِنت في الأرضِ وذهب أثرُها بمرورِ الزَّمانِ. ((الفقه الإسلامي وأدلته)) للزحيلي (1/250). طهُرَت بالاستحالةِ؛ وهذا مَذهَبُ الحنفيَّة ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/220)، وينظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (1/200). ، والمالكيَّة ((التاج والإكليل)) للمواق (1/97)، وينظر: ((الذخيرة)) للقرافي (1/188). ، وروايةٌ عن أحمد ((الإنصاف)) للمرداوي (1/318). ، وهو اختيارُ ابنِ حَزمٍ قال ابن حزم: (الحرام إذا بطَلت صفاتُه التي بها سُمِّي بذلك الاسم ِالذي به نُصَّ على تَحريمِه؛ فقد بطَل ذلك الاسمُ عنه، وإذا بطَل ذلك الاسمُ سقط التَّحريم؛ لأنَّه إنَّما حُرِّمَ ما يُسمَّى بذلك الاسمِ، كالخَمرِ والدَّمِ والمَيتةِ، فإذا استحال الدَّمُ لَحمًا، أو الخَمرُ خلًّا، أو الميتةُ بالتغذِّي أجزاءً في الحيوانِ الآكِلِ لها من الدَّجاج وغيره، فقد سقَطَ التَّحريمُ، وبالله تعالى التوفيق. ومَن خالف هذا لَزِمَه أن يحرِّم اللَّبَنَ؛ لأنَّه دمٌ استحال لبنًا، وأن يُحرِّمَ التَّمرَ والزَّرع المسقيَّ بالعَذِرةِ والبَولِ، ولزِمه أن يُبيحَ العَذِرة والبَولَ؛ لأنَّهما طعامٌ وماءٌ حلالانِ استحالَا إلى اسمٍ مَنصوصٍ على تحريمِ المسمَّى به). ((المحلى)) (6/100). ، وابنِ تيميَّة قال ابن تيميَّة: (وقول القائل: إنَّها تَطهُر بالاستحالةِ أصحُّ؛ فإنَّ النَّجاسةَ إذا صارت مِلحًا أو رَمادًا، فقد تبدَّلت الحقيقةُ، وتبدَّلَ الاسمُ والصِّفةُ، فالنُّصوصُ المُتناولة لتحريمِ المَيتةِ والدَّمِ ولَحمِ الخِنزير، لا تتناوَلُ المِلح والرَّمادَ والتُّرابَ، لا لفظًا ولا معنًى). ((مجموع فتاوى ابن تيميَّة)) (20/522). ، وابنِ القيِّم قال ابن القيِّم: (وعلى هذا الأصلِ؛ فطهارةُ الخَمرِ بالاستحالةِ على وَفقِ القِياسِ، فإنَّها نجِسةٌ لوصفِ الخَبَث، فإذا زال الموجِبُ زال الموجَبُ، وهذا أصلُ الشريعةِ في مصادرِها وموارِدِها، بل وأصلُ الثَّوابِ والعِقابِ؛ وعلى هذا فالقِياسُ الصَّحيحُ تعديةُ ذلك إلى سائِرِ النَّجاساتِ إذا استحالت). ((أعلام الموقعين)) (2/14)، وينظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/30-31)، ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الأولى)) (22/299). ، وبه أفتت اللَّجنةُ الدَّائمة ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الأولى)) (22/299). ، وهو قول أكثر العُلَماءِ قال ابن تيميَّة: (وأكثرُ عُلَماءِ المسلمين يقولون: إنَّ النَّجاسةَ تَطهُرُ بالاستحالةِ، وهو مذهَبُ أبي حنيفةَ وأهلِ الظَّاهِرِ، وأحدِ القَولينِ في مذهَبِ مالكٍ وأحمد) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/299).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: القياسُ على ما أجمَعوا عليه من أنَّ الخَمرةَ إذا استحالتْ بنفْسِها وصارتْ خلًّا، كانت طاهرةً؛ فكذلك سائِرُ النَّجاساتِ إذا انقلَبَت إلى عينٍ طاهرةٍ، صار لها حُكمُ الطَّاهراتِ ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (21/502).
ثانيًا: أنَّ المعنى الذي لأجْله كانت تلك العَينُ نَجسةً، معدومٌ في العَينِ التي استحالَت إليها؛ فلا معنى لبقاءِ الاسمِ عليه، فالشَّرعُ رتَّبَ وَصفَ النَّجاسةِ على تلك الحقيقةِ، فينتفي بانتفائِها ((مجموع فتاوى ابن تيميَّة)) (20/522، 21/610)، ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيميَّة (1/415، 5/313).
المطلب الثَّالث: حُكم الخَمرِ إذا استحالَت إلى خَلٍّ
الفرع الأوَّل: حُكمُ الخَمرِ إذا انقلَبَت خلًّا بنَفسِها
تطهُرُ الخَمرُ- عند مَن يقول بنَجاسَتِها- إذا انقلَبَت خَلًّا بنَفسِها، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (10/106)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/48). ، والمالكيَّة ((الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي)) (1/52)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/88)، ((الذخيرة)) للقرافي (4/118). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (2/578)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/81). ، والحنابلة ((الإنصاف)) للمرداوي (1/230)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/173). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (احتجُّوا بالإجماعِ على أنَّ الخَمرَ إذا تخلَّلَت من ذاتها، طهُرَت وطابَت) ((الاستذكار)) (1/172). وقال ابن قدامة: (فأمَّا إذا انقلَبَت بنَفسِها, فإنَّها تطهُرُ وتحِلُّ, في قَولِ جَميعِهم). ((المغني)) (9/173). وقال ابنُ تيميَّة قال ابن تيميَّة: (أمَّا التخليلُ ففيه نزاعٌ؛ قيل: يجوز تخليلُها كما يُحكَى عن أبي حنيفةَ. وقيل: لا يجوزُ؛ لكن إذا خُلِّلَت طَهُرَت كما يُحكَى عن مالكٍ، وقيل: يجوزُ بنَقلِها من الشَّمسِ إلى الظلِّ، وكشْفِ الغِطاء عنها، ونحو ذلك؛ دون أن يُلقَى فيها شيءٌ، كما هو وجه في مذهب الشافعيِّ وأحمد. وقيل: لا يجوزُ بحال، كما يقولُه مَن يقولُه مِن أصحاب الشافعيِّ وأحمدَ، وهذا هو الصَّحيحُ) ((مجموع الفتاوى)) (21/483). وقال أيضًا: (فهذا يُشبِهُ مِن بَعضِ الوُجوهِ ما لو خَلَّلَ الخَمرَ بنَقلِها من موضعٍ إلى موضعٍ مِن غيرِ أن يُلقِيَ فيها شيئًا؛ فإنَّ التَّخليلَ لَمَّا حصل بفعلٍ محرَّمٍ، اختُلف فيه، والصَّحيحُ أنَّها لا تَطهُرُ، وإنْ كانت لو تخلَّلَت بفِعل اللهِ حلَّت) ((الفتاوى الكبرى)) (6/183). ، وابنُ القَيِّم قال ابن القيِّم: (إذا كان له عصيرٌ فخاف أن يتخمَّرَ؛ فلا يجوز له بعد ذلك أن يتَّخِذَه خلًّا؛ فالحِيلة: أن يُلقَى فيه أولًا ما يمنَعُ تخمُّره، فإن لم يفعل حتى تخمَّرَ، وجَب عليه إراقَتُه، ولم يجُزْ له حبسُه حتى يتخلَّلَ، فإن فعل لم يطهُرْ؛ لأنَّ حبسَه معصيةٌ، وعَوْدَه خلًّا نعمةٌ، فلا تُستباحُ بالمعصيةِ) ((إغاثة اللهفان)) (2/11). ، وبه أفتَت اللَّجنةُ الدَّائمةُ جاء في فتاوى اللَّجنة الدَّائمة برئاسة ابن باز: (إذا حُوِّلَتِ الخمرة إلى خلٍّ بَقِيَت على تحريمِها، ولا تنقُلُها الإزالة عن حُكمِها؛ لَمَا في صحيحِ مُسلمٍ عن أنس رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِلَ عن الخمر تُتَّخذ خلًّا، فقال: لا))، أمَّا إذا تخلَّلت بنَفسِها من دون عملِ أحدٍ؛ فإنَّها تطهُرُ بذلك وتُباحُ) ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الأولى)) (22/109). ، وبه قال أكثَرُ أهلِ العِلمِ قال النوويُّ: (أمَّا حُكمُ المسألةِ؛ فالتَّخليلُ عندنا وعند الأكثرينَ حرامٌ، فلو فَعَله فصار خلًّا، لم يَطهُرْ) ((المجموع)) (2/576).
الأدلَّة:
أولًا: مِن السُّنَّةِ
عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِلَ عَن الخَمرِ تُتَّخَذُ خلًّا؟ فقال: لا )) رواه مسلم (1983).
ثانيًا: أنَّ الشَّيءَ المَطروحَ في الخَمرِ يتنجَّسُ بملاقاتِها، فيُنجِّسُها بِدَورِه بعد انقلابِها خلًّا ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (5/27).
المسألة الثَّانية: حُكمُ الخَمرِ إذا خُلِّلَت بنَقلِها
اختَلف أهلُ العِلمِ في الخَمرِ إذا خُلِّلَت بنَقلِها، كما لو نُقِلَت من الظِّلِّ إلى الشَّمسِ، أو العكس؛ هل تطهُرُ أم لا؟ وذلك على أقوالٍ، أقواها قولانِ:
القول الأوّل: إذا خُلِّلَت الخَمرُ بنَقلِها مِنَ الظلِّ إلى الشَّمسِ، أو العكس، فإنَّها تطهُرُ، وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ: الحنفيَّة ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (10/106)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/48). ، والمالكيَّة ((شرح التلقين)) للمازري (2/3/359)، ((الذخيرة)) للقرافي (4/118). ، وهو الأصحُّ عند الشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (2/576)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/81).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ الشِّدَّة المُطْرِبةَ في الخَمرِ قد زالَت مِن غَيرِ نجاسةٍ تَخلُفُها ((البيان)) لابن أبي الخير العمراني (1/428).
ثانيًا: أنَّ علَّةَ التَّحريمِ قد زالت، فتكونُ كما لو تخلَّلَت بنَفسِها ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (1/294).
القول الثاني: إذا خُلِّلَت الخَمرُ بنَقلِها مِنَ الظِّلِّ إلى الشَّمسِ أو العكس، فإنَّها لا تطهُرُ، وهو مذهَبُ الحنابلة ((الإنصاف)) للمرداوي (1/230). ، وقولُ ابنِ تَيميَّة قال ابن تيميَّة: (أمَّا التَّخليل ففيه نزاع، قيل: يجوز تخليلها، كما يُحكى عن أبي حنيفة. وقيل: لا يجوز؛ لكن إذا خُلِّلت طهُرت، كما يُحكَى عن مالك. وقيل: يجوز بنقلها من الشَّمس إلى الظِّلِّ، وكشْف الغطاء عنها، ونحو ذلك؛ دون أن يُلقَى فيها شيء، كما هو وجه في مذهب الشافعيِّ وأحمد. وقيل: لا يجوز بحال، كما يقوله مَن يقوله من أصحاب الشافعيِّ وأحمد، وهذا هو الصَّحيح) ((مجموع الفتاوى)) (21/483). وقال أيضًا: (فهذا يشبه من بعض الوجوه ما لو خَلَّل الخمر بنقلها من موضع إلى موضع من غير أن يُلقي فيها شيئًا، فإنَّ التخليل لمَّا حصل بفعل محرَّم اختُلف فيه، والصَّحيح أنَّها لا تطهر، وإنْ كانت لو تخلَّلت بفعل الله حلَّت) ((الفتاوى الكبرى)) (6/183). ؛ وذلك لأنَّ للآدَميِّ في تخليلِها فِعلًا، كما لو وضع فيها شيئًا فتخلَّلَت ((الشرح الكبير)) لشمس الدِّين ابن قدامة (1/294).

انظر أيضا: