الموسوعة الفقهية

المطلب السَّادس: الجَلَّالَة


الفرع الأوَّل: تعريفُ الجَلَّالَة
الجَلَّالَة لغةً: هي البهيمةُ تأكُلُ الجِلَّة والعَذِرةَ، والجِلَّة: البَعرُ ((لسان العرب)) لابن منظور (11/119)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (10/261). قال ابن حجر: (والجلَّالةُ عبارةٌ عن الدابَّةِ التي تأكُلُ الجِلَّة- بكسر الجيم والتشديد- وهي البَعر، وادَّعى ابنُ حزم اختصاص الجلَّالةِ بذواتِ الأربَعِ، والمعروفُ التَّعميمُ). ((فتح الباري)) (1/326). وقال ابنُ عثيمين: (هي التي تأكل الجِلَّة؛ أي: العَذِرة، يعني: تأكل نجاسةَ الآدميِّ، وروْثَ الحَميرِ، وما أشبه ذلك، والعادة أنَّها إذا كانت تأكُلُ هذا أن يتلوَّثَ شيءٌ من بدَنها أو قَدَمِها أو ما أشبَهَ). ((شرح رياض الصالحين)) (4/266).
الجَلَّالَة اصطلاحًا: ما كان أكثرُ أكْلِها النَّجاسة، وقيل: ما ظهَر فيها أثرُ النَّجاسة، وقيل غيرُ ذلك قال النوويُّ: (والصَّحيحُ الذي عليه الجمهورُ: أنَّه لا اعتبارَ بالكثرةِ، وإنَّما الاعتبارُ بالرَّائحةِ والنَّتْنِ؛ فإنْ وُجد في عَرَقِها وغَيرِه رِيحُ النَّجاسةِ، فجلَّالةٌ، وإلَّا فلا). ((المجموع)) (9/28). وقال ابنُ قدامة في ((المغني)): قال القاضي في (المجرَّد): (هي التي تأكُلُ القَذَرَ، فإذا كان أكثرُ عَلَفِها النَّجاسة، حرُم لَحمُها ولبنها... وإنْ كان أكثرُ علفها الطَّاهرَ، لم يحرُم أكْلُها ولا لبَنُها. وتحديد الجلَّالةِ بكون أكثَرِ عَلَفِها النَّجاسة، لم نسمعْه عن أحمدَ، ولا هو ظاهِرُ كَلامِه، لكن يمكِنُ تَحديدُه بما يكون كثيرًا في مأكولِها، ويُعفَى عن اليسيرِ). ((المغني)) (9/413).  قال ابن باز: (... فإذا وُجِد من هذه الأشياء شيءٌ من النَّجَس أو من الحرامِ كالخِنزير؛ إذا كان قليلًا، فإنَّه يُعفى عنه، كما يُعفى عمَّا تأكُلُه الجلَّالةُ من الأشياء الحقيرة القليلة، وإنَّما الذي يضرُّ أن يغلبَ النَّجَسُ والخبيث على طعام الدواجِنِ وشرابها، فإذا كان ما تأكُلُه ممَّا يُستقبَحُ إذا كان قليلًا يغلبُ عليه الطعام الطيِّب والشَّراب الطيِّب، فإنَّه لا يضرُّ... والأصل السَّلامةُ وبراءة الذِّمَّة، حتى يُعلمَ يقينًا أنها غُذيَت بما حرَّمَ الله ويغلب ذلك، ويكون ذلك كثيرًا، يعني: يغلبُ على طعامِها وشرابِها حتى تكون كالجلَّالة، أمَّا الشيء اليسير، فيُغتَفَر) ((الموقع الرسمي للشيخ ابن باز)). قال ابن عثيمين: (...كالجلَّالة، وهي التي أكثرُ عَلَفِها النَّجاسةُ...). ((الشرح الممتع)) (15/22). وينظر: ((المحلى)) لابن حزم (6/85). 
الفرع الثَّاني: حُكمُ أكْلِ الجَلَّالَة
يحرُمُ أكلُ لحمِ الجلَّالةِ وشُربُ لَبَنِها، وهو مذهَبُ الحنابلةِ قال المرداويُّ: (هو من مفردات المذهب) ((الإنصاف)) (10/275)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/193). وأضافوا حُرمة أكلِ بَيضِها، وكرِهوا ركوبَها. ، واختاره الصَّنعانيُّ قال الصنعانيُّ: (الحديثُ دليلٌ على تحريمِ الجلَّالة وألبانها، وتحريمِ الرُّكوبِ عليها... وظاهِرُ الحديث: أنَّه إذ ثبَتَ أنَّها أكلت الجِلَّة فقد صارت محرَّمة... ومن قال: يُكرَه ولا يحرُم، قال: لأنَّ النهيَ الوارد فيه إنَّما كان لتغيُّرِ اللَّحمِ، وهو لا يُوجِبُ التَّحريمَ بدليل المُذكَّى إذا جفَّ، ولا يخفى أنَّ هذا رأي في مقابلةِ النصِّ... والعملُ بالأحاديث هو الواجب، وكأنَّهم حملوا النهيَ على التنزيهِ، ولا ينهَض عليه دليلٌ). ((سبل السلام)) (4/77، 78). ، والشوكانيُّ قال الشوكانيُّ: (قد ثبَت النهيُ عن أكلِ لَحمِها... وثبَت أيضًا النهيُ عن شُربِ لَبَنِها... وظاهِرُ هذه الأحاديثِ التحريمُ؛ لأنَّه حقيقةُ النَّهيِ، فلا يجوز ذَبحُها قبل الحبْسِ، فإنْ فعَل كان أكْلُها حرامًا). ((السيل الجرار)) (ص: 728). ، وبه أفتت اللَّجنةُ الدَّائمةُ قالت اللَّجنة الدائمة برئاسة ابن باز: (الغنمُ التي تشرَب من الماء النَّجس وتأكُل النجاسات، إذا كان ذلك يغلِبُ على شرابِها وأكْلها، فلا يجوز شُرْبُ لَبَنِها، ولا أكْلُ لحمها؛ لِنَهيِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن أكْلِ لُحومِ الجلَّالةِ، وهي: التي تتغذَّى من النَّجاسة). ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الأولى)) (22/300). وقالت اللجنة أيضًا: (الجَديُ الذي غُذيَ بلبَنِ الكَلبِ يحرُمُ لَحمُه حتى يُحبَسَ ويُغذى بطاهرٍ). ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الأولى)) (22/300). وممَّن ذهَبَ إلى تحريمِ أكْلِ لُحومِها بعضُ الشافعيَّة؛ قال النوويُّ: (يُكرَه أكلُ لحمِ الجلَّالة كراهةَ تنزيهٍ على الأصحِّ الذي ذكره منهم العراقيُّون والرُّويانيُّ وغيرهم، وقال أبو إسحاق والقفَّال: كراهة تحريمٍ، ورجَّحَه الإمامُ، والغزاليُّ، والبغويُّ) ((روضة الطالبين)) (3/278)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/327).
الأدلَّة مِن السُّنَّةِ:
1- عَنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((نهَى رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن لَبَنِ شاةِ الجلَّالةِ )) رواه أبو داود (3786)، والترمذي (1825)، والنَّسائي (4448)،، وأحمد (1/226) (1989) واللفظ له. قال الترمذيُّ: حسن صحيح، وصحَّحه ابنُ دقيق العيد في ((الاقتراح)) (107)، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (9/564): على شرطِ البخاريِّ في رجاله، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (3/307)، وصحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (3719)، والوادعي على شرط مسلم في ((الصحيح المسند)) (664).
2- عن عَمرو بن شُعَيبٍ عن أبيه، عن جَدِّه، قال: ((نهَى رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ خيبرَ عَن لُحومِ الحُمُرِ الأهليَّة، وعن الجلَّالةِ؛ عن رُكوبِها، وأكْلِ لَحمِها )) رواه أبو داود (3811)، والنَّسائي (4447)، وأحمد (2/219) (7039). حسَّن إسنادَه ابن حجر في ((فتح الباري)) (9/564)، ووثَّق رجالَه الهيثميُّ في ((مجمع الزوائد)) (4/266)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (6/12)، وقال الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (3811): حسن صحيح.
وجه الدَّلالة:
أنَّ الحديث ورَد في النَّهيِ عن ذلك، والأصلُ في النَّهي التَّحريمُ ((سبل السلام)) للصنعاني (4/77، 78)، ((السيل الجرار)) للشوكاني (ص: 728).
الفرع الثَّالث: تطهيرُ الجلَّالة
المسألة الأولى: كيفيَّةُ تَطهيرِ الجلَّالةِ
تزولُ حُرمةِ أكلِ لَحمِ الجلَّالةِ بمَنعِها من النَّجاساتِ، وحَبسِها على العَلَفِ الطَّاهِر.
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الإجماع
نقل الإجماعَ على ذلك: ابنُ قُدامةَ قال ابن قدامة: (تزولُ الكراهةُ بحَبسِها اتِّفاقًا، واختُلِفَ في قَدْرِه). ((المغني)) (9/414). ، وابنُ تيميَّة قال ابن تيميَّة: (فإنَّ الجلَّالةَ التي تأكُلُ النَّجاسةَ قد نهى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن لَبَنِها، فإذا حُبِسَت حتَّى تطيبَ، كانت حلالًا باتِّفاقِ المُسلمينَ؛ لأنَّها قَبْل ذلك يظهَرُ أثر النَّجاسة في لَبَنِها وبَيضِها وعَرَقِها، فيظهر نَتْنُ النَّجاسةِ وخَبَثِها، فإذا زال ذلك، عادَتْ طاهرةً؛ فإنَّ الحُكمَ إذا ثبَت بعلَّةٍ، زال بزَوالِها) ((مجموع الفتاوى)) (21/618).
ثانيًا: أنَّ المانِعَ مِنَ الحِلِّ- وهو أكْل النَّجاسةِ- قد زال بحَبسِها على العَلَفِ الطَّاهِرِ، والحُكم إذا عُلِّق بعِلَّة، زال بزوالِها ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (21/618)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/194).
المسألة الثانية: مُدَّةُ حبسِ الجلَّالةِ لِتَطهيرِها
لا يُقيَّدُ الحَبسُ بمدَّةٍ معيَّنةٍ؛ فمتى ما زالَت نجاسَتُها، وذهب أثَرُ نَتْنِها، طهُرَت، وهذا مَذهَبُ الحنفيَّة كان أبو حنيفةَ رَحِمه الله تعالى لا يوقِّتُ في حَبسِها، وقدَّرَه بعض الحنفيَّة: بثلاثة أيَّام للدَّجاجةِ، وللشَّاة بأربعة، وللإبِلِ والبَقَر بعشرةٍ. ((حاشية الطحطاوي)) (ص: 22)، ((حاشية ابن عابدين)) (1/223)، ((المبسوط)) للسرخسي (11/217)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (5/40). ، والشَّافعيَّة العادة عندهم: أنَّ النَّجاسةَ تَزولُ بِحَبس النَّاقةِ أربعين يومًا، والبَقَرة ثلاثين، والشَّاة سبعة أيَّام، والدَّجاجة ثلاثة أيَّام، فالأغلَبُ أن تزولَ النَّجاسةُ بهذه المقادير؛ فإنْ زالت بأقلَّ منها زالت الكراهةُ، وإنْ لم تَزُل فيها بَقِيَت الكراهةُ حتَّى تزولَ بما زاد عليها. قال النوويُّ: (قال أصحابنا: ولو حُبِسَت بعد ظهورِ النَّتْن وعُلِفَت شيئًا طاهرًا، فزالت الرائحةُ ثم ذُبِحَت، فلا كراهةَ فيها قطعًا، قال أصحابنا: وليس للقدْرِ الذي تُعلَفُه من حدٍّ، ولا لزمانِه مِن ضَبطٍ، وإنَّما الاعتبارُ بما يُعلَمُ في العادة أو يُظَنُّ أنَّ رائحةَ النَّجاسةِ تَزولُ به) ((المجموع)) (9/29)، وينظر: ((روضة الطالبين)) للنووي (3/278). ، واختاره ابنُ حَزمٍ قال ابن حزم: (فإذا قطَعَ عنها أكلَها فانقطَعَ عنها الاسمُ حلَّ أكلُها، وألبانُها، وركوبُها). ((المحلى بالآثار)) (6/85).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ العِبرةَ بزَوالِ الوَصفِ الذي أدَّى إلى كراهَتِها وهو النَّجاسةُ، وهو شيءٌ مَحسوسٌ؛ فإذا زالت النَّجاسةُ، زال حُكمُها ((المبسوط)) للسرخسي (11/217).
ثانيًا: أنَّه لا يتقدَّرُ بالزَّمانِ لاختلافِ الحيواناتِ في ذلك؛ فيُصارُ فيه إلى اعتبارِ زوالِ المُضِرِّ ((المبسوط)) للسرخسي (11/217).

انظر أيضا: