الموسوعة الفقهية

المطلب الأوَّلُ: حُكمُ الاستخلافِ


الاستخلافُ [4863] هو استنابةُ الإمامِ غيرَه من المأمومينَ؛ لتكميلِ الصَّلاة بهم لعُذرٍ قامَ به. يُنظر: ((الشرح الصغير لأقرب المسالك)) للدردير (1/465). وقد ذكَر الفقهاءُ شروطًا في صِحَّة الاستخلافِ، منها: - أنْ يستخلفَ الإمامُ مَن يصلح للإمامة. - وأنْ يكونَ الاستخلافُ قبلَ خروج الإمامِ من المسجد. - وأنْ يكونَ في جماعةٍ؛ فلو لم يكُن خلفَ الإمام إلَّا واحد لم يصحَّ له أن يستخلفَ. - ومِن شروط صِحَّة الاستخلافِ: إدراكُ المستخلَف ما قبل الركوع، أي: ما قبل تمامِ الركوع. - وأنْ يكونَ الاستخلافُ قبل أن يأتيَ المأمومون برُكنٍ. يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/227)، ((المجموع)) للنووي (4/243)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/460) (2/480،479). مشروعٌ [4864] على خلافٍ بين القائلين به في درجةِ مشروعيَّته. ، وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّةِ الأربعة: الحَنَفيَّة [4865] ((الفتاوى الهندية)) (1/ 95)، ويُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/224)، ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (1/378). ، والمالِكيَّة [4866] ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/479)، ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/49)، والمالكيَّة يقولون باستحبابِ الاستخلاف. ، والصَّحيحُ عند الشافعيَّة [4867] ((المجموع)) للنووي (4/242)، ((روضة الطالبين)) للنووي (1/393). ، والحَنابِلَةِ [4868] ((الإنصاف)) للمرداوي (2/25)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/321). ، وهو قولُ طائفةٍ من السَّلفِ [4869] قال ابنُ المنذر: (اختلَف أهلُ العِلم في الإمامِ يُحدِث؛ فقالت طائفة: يُقدِّم رَجُلًا يَبتدي من حيث بلَغَ الإمامُ المحدِث، ويَبني على صلاته، فممَّن رُوي عنه أنَّه رأى أن يُقدِّم الإمامُ المحدثُ رجلًا: عمر بن الخطاب، وعليُّ بن أبي طالب، وعلقمة، والحسن البصريُّ، وقتادة، والنَّخَعيُّ، وبه قال سفيان الثوريُّ، وأصحاب الرأي) ((الأوسط)) (4/241). ، وحُكِي الإجماعُ على ذلك [4870] وقال ابنُ قُدامة: (والصحيحُ الأوَّلُ «يعني: عدم فَسادِ صلاةِ المأمومينَ إن فسدت صلاة الإمام لفِعْلٍ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ عن غير عمدٍ»؛ لأنَّ عُمرَ رضي الله عنه، لَمَّا طُعِن أخذ بيدِ عبد الرحمن بن عوف فقدَّمه، فأتمَّ بهم الصَّلاة، وكان ذلك بمحضرٍ من الصَّحابة وغيرِهم، ولم يُنكره مُنكِرٌ، فكان إجماعًا) ((المغني)) (4/75).
الأدلَّة:
أولًا: من السُّنَّة
عنِ الأسودِ، قال: كنَّا عندَ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، فذكَرْنا المواظبةَ على الصَّلاةِ والتعظيمَ لها، قالت: لَمَّا مَرِضَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مرضَه الذي ماتَ فيه، فحضرتِ الصَّلاةُ فأذَّن، فقال: ((مُروا أبا بكرٍ فلْيُصلِّ بالناسِ، فقيل له: إنَّ أبا بكرٍ رجلٌ أسيفٌ، إذا قام في مقامِك لم يستطعْ أن يُصلِّي بالناسِ، وأعادَ فأعادوا له، فأعادَ الثالثةَ، فقال: إنَّكُنَّ صواحبُ يوسف! مُروا أبا بكر فلْيُصلِّ بالناسِ، فخرَج أبو بكر فصلَّى، فوجَدَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من نفسه خِفَّةً، فخرج يُهادَى بين رَجُلين، كأنِّي أنظرُ رِجليه تخطُّانِ من الوجعِ، فأرادَ أبو بكر أنْ يَتأخَّر، فأومأَ إليه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ مكانَك، ثم أُتِي به حتى جلَسَ إلى جَنبِه- قيل للأعمش: وكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصلِّي وأبو بكرٍ يُصلِّي بصلاتِه، والناس يُصلُّون بصلاةِ أبي بكر؟ فقال برأسه: نعم)) رواه البخاري (664)، ومسلم (418). وفي روايةٍ زاد: ((جلَس عن يَسارِ أبي بكرٍ، فكان أبو بكر يُصلِّي قائمًا)) رواه البخاري (713)، ومسلم (418).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ في الحديثِ استخلافَ الإمامِ في الصَّلاةِ- إذا نابَهُ فيها ما يُخرِجُه منها- مَن يُتمُّ بهم صلاتَهم، فالنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جاءَ وقد صلَّى أبو بكرٍ بالناسِ بعضَ الصَّلاة، فتقدَّم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وصارَ الإمام، وصار أبو بكر مأمومًا بعد أنْ كان إمامًا، وائتمَّ القومُ بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعدَ أنْ كانوا يأتمُّون بأبي بكرٍ، وبنَوْا على صلاتِهم ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (2/302).
ثانيًا: مِن الآثار
عن عَمرِو بنِ مَيمونٍ، قال: (رأيتُ عُمرَ بنَ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه قبل أن يُصابَ بأيَّامٍ بالمدينةِ وقَف على حُذيفةَ بنِ اليَمانِ وعُثمانَ بن حُنَيف، قال: كيف فعَلْتُما؟ أتخافانِ أنْ تكونَا قد حمَّلْتُما الأرضَ ما لا تُطيق؟ قالا: حمَّلْناها أمرًا هي له مُطيقةٌ، ما فيها كبيرُ فضل، قال: انظرَا، أنْ تكونَا حمَّلْتُما الأرضَ ما لا تُطيق، قال: قالا: لا، فقال عمر: لئنْ سلَّمني اللهُ لأدَعنَّ أراملَ أهلِ العِراقِ لا يَحْتَجْنَ إلى رجلٍ بعدي أبدًا، قال: فما أتتْ عليه إلَّا رابعةٌ حتى أُصيب، قال: إنِّي لقائمٌ ما بيني وبينَه إلَّا عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ غَداةَ أُصيب، وكان إذا مرَّ بين الصَّفَّينِ قال: استووا، حتى إذا لم يرَ فيهنَّ خَللًا تقدَّمَ فكَبَّر، وربَّما قرأ سورةَ يُوسف أو النَّحل- أو نحو ذلك- في الركعةِ الأولى؛ حتى يجتمعَ الناسُ، فما هو إلَّا أنْ كبَّر فسمعتُه يقول: قتَلَني- أو أَكَلني- الكلبُ، حين طَعَنَه، فطار العلجُ بسكِّينٍ ذاتِ طَرفينِ، لا يمرُّ على أحدٍ يمينًا ولا شمالًا إلَّا طعَنَه، حتى طَعَن ثلاثةَ عَشرَ رَجُلًا، مات منهم سبعةٌ، فلمَّا رأى ذلك رجلٌ من المسلمينَ، طرَح عليه بُرنُسًا، فلمَّا ظنَّ العلجُ أنه مأخوذٌ نَحَرَ نَفْسَه، وتَناوَلَ عُمرُ يَدَ عَبدِ الرَّحمن بن عوفٍ فقَدَّمَه، فمَن يلي عُمرَ فقدْ رأى الذي أَرى، وأمَّا نواحي المسجدِ؛ فإنَّهم لا يَدْرُونَ غيرَ أنَّهم قد فقَدوا صوتَ عُمرَ، وهم يقولون: سبحانَ اللهِ! سبحان اللهِ! فصلَّى بهم عبدُ الرحمنِ صَلاةً خفيفةً... ) رواه البخاريُّ (3700).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عه استَخْلَفَ في الصَّلاةِ، وكان بمحضَرٍ من الصَّحابةِ، ولم يُنكِروا عليه [4875] ((المغني)) لابن قدامة (2/75).
ثالثًا: قدْ أجمع المسلمونَ على الاستخلافِ فيمَن يُقيم لهم أمرَ دِينهم ودُنياهم، والصَّلاةُ أعظمُ الدِّينِ ((الاستذكار)) لابن عبد البر (1/285).

انظر أيضا: