الموسوعة الفقهية

المطلب الرَّابع: الأقرأُ والأفقهُ


يُقدَّمُ الأقرأُ [4454] أكثرُ الأحاديث تدلُّ على أنَّ الأقرأ هو الأكثرُ حفظًا، لا الأجودُ قراءةً: قال ابنُ قُدامة: (يرجح أحدُ القارئين على الآخَر بكثرة القرآن؛ لقول النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ليؤمَّكم أكثرُكم قرآنًا»). ((المغني)) (2/135). وقال ابنُ رجب: (وهذه المسألة لأصحابنا فيها وجهان: إذا اجتمع قارئان، أحدهما أكثرُ قرآنًا، والآخر أجود قراءةً؛ فهل يُقدَّم الأكثر قرآنًا على الأجود قراءة، أم بالعكس؟ وأكثر الأحاديث تدلُّ على اعتبار كثرةِ القرآن) ((فتح الباري)) (4/120).  وينظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/368)، ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/219)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/242). على الأفقهِ، وهو مذهبُ الحَنابِلَةِ [4455]  ((الإنصاف)) للمرداوي (2/172)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/133). ، وقولُ أبي يُوسفَ من الحَنَفيَّة [4456] ((الهداية)) للمرغيناني (1/57). ، وقولٌ عندَ الشافعيَّة [4457] ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/242). ، وقولُ بعضِ السَّلفِ [4458] قال الشوكانيُّ: («يؤمُّ القومَ أقرؤُهم»، فيه حُجَّة لِمَن قال: يُقدَّم في الإمامة الأقرأُ على الأفقه. وإليه ذهب الأحنفُ بن قيس، وابن سيرين، والثوريُّ، وأبو حنيفة، وأحمد، وبعض أصحابهما) ((نيل الأوطار)) (3/188). ، واختارَه ابنُ المنذرِ [4459] قال ابنُ المنذر: (أحقُّ القوم بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله، فإنْ كانوا في القراءة سواء فأعلمُهم بالسُّنَّة) ((الإقناع)) (1/113). ، وابنُ حزمٍ قال ابنُ حزم: (والأفضل أن يؤمَّ الجماعةَ في الصلاة أقرؤُهم للقرآن، وإن كان أنقصَ فضلًا، فإنِ استووا في القراءة فأفقهُهم) ((المحلى)) (3/121- 122). ، وابنُ تَيميَّة قال ابنُ تَيميَّة: (إنما يكون ترجيحُ بعض الأئمَّة على بعض إذ استووا في المعرفة بإقام الصلاة على الوجه المشروع، وفِعلها على السُّنة، وفي دِين الإمام الذي يخرج به المأموم عن نقْص الصلاة خلفه. فإذا استويا في كمال الصَّلاة منهما وخلفهما قُدِّم الأقرأُ ثم الأعلم بالسُّنة، وإلا ففضل الصلاة في نفسها مُقدَّم على صِفة إمامها، وما يحتاج إليه من العِلم والدِّين فيها مُقدَّم على ما يُستحبُّ من ذلك) ((مجموع الفتاوى)) (23/244). ، والصنعانيُّ قال الصنعانيُّ: (ولا يَخفى أنه يُبعِد هذا (أنَّ الأقرأ هو الأفقهُ أو الأعلمُ بالسُّنة) قولُه: «فإنْ كانوا في القراءة سواءً فأعلمُهم بالسُّنة»؛ فإنه دليلٌ على تقديمِ الأقرأ مطلقًا، والأقرأ على ما فسَّروه به هو الأعلم بالسُّنة؛ فلو أُريد به ذلك لكان القسمان قسمًا واحدًا» ((سبل السلام)) (1/372). ، والشوكانيُّ قال الشوكانيُّ: (... وقد جعل القارئ مقدَّمًا على العالم بالسُّنة، وأمَّا ما قيل من أنَّ الأكثر حفظًا للقرآن من الصحابة أكثرُهم فقهًا، فهو وإنْ صحَّ باعتبار مطلق الفِقه لا يصحُّ باعتبار الفقه في أحكام الصَّلاة؛ لأنَّها بأسْرها مأخوذة من السُّنة قولًا وفعلًا وتقريرًا، وليس في القرآن إلَّا الأمر بها على جِهة الإجمال، وهو ممَّا يستوي في معرفته القارئُ للقرآن وغيره) ((نيل الأوطار)) (3/188). ، وابنُ باز [4464] قال ابنُ باز: ((الأفضلُ أن يختار الأقرأ من الجماعة، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسُّنة) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (30/166). ، وابنُ عُثَيمين [4465] قال ابنُ عُثيمين: (فلو وُجِد أقرأ، ولكن لا يَعلم فِقه الصلاة، فلا يعرف من أحكام الصَّلاة إلَّا ما يعرفه عامَّةُ الناس من القراءة والركوع والسجود؛ فهو أَوْلى من العالم فِقهَ صلاته) ((الشرح الممتع)) (4/205). ورجَّح تقديم الأفقه فيما إذا كان أحدهما أجودَ قراءةً والثاني قارئ دونه في الإجادة، وأعلم منه بفقه أحكام الصلاة؛ قال: (ومن المعلوم أنه إذا اجتمع شخصان، أحدهما أجودُ قراءةً، والثاني قارئ دونه في الإجادة، وأعلم منه بفقه أحكام الصلاة، فلا شكَّ أنَّ الثاني أقوى في الصلاة من الأوَّل، أقوى في أداء العمل؛ لأنَّ ذلك الأقرأ ربما يُسرع في الركوع أو في القيام بعد الركوع، وربما يطرأ عليه سهو ولا يَدري كيف يتصرَّف، والعالم فقهَ صلاته يُدرك هذا كلَّه، غاية ما فيه أنه أدنى منه جودةً، في القراءة، وهذا القول هو الراجح) ((الشرح الممتع)) (4/206).
الأدلَّة:
أولًا: من السُّنَّة
1- عن أبي مَسعودٍ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يؤمُّ القومَ أقرؤُهم لكتابِ اللهِ، فإنْ كانوا في القِراءة سواءً، فأعلمُهم بالسُّنة... )) [4466] رواه مسلم (673).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قدَّم الأقرأَ على الأعلمِ بالسُّنَّة.
2- عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا كانوا ثلاثةً فليؤمَّهم أحدُهم؛ أحقُّهم بالإمامةِ أقرؤُهم )) [4467] رواه مسلم (672).
3- عن أبي قِلابَة، عن عَمرِو بن سَلِمة، قال: قال لي أبو قِلابةَ: ألَا تَلْقاهُ فتسألَه؟ قال: فلقيتُه فسألتُه، فقال: كنَّا بماءٍ ممرَّ الناسِ، وكان يمرُّ بنا الركبانُ فنَسألهم: ما للناسِ، ما للناسِ؟ ما هذا الرَّجُل؟ فيقولون: يَزعُمُ أنَّ اللهَ أَرْسلَه، أوْحَى إليه، أو: أَوْحَى اللهُ بكذا، فكنتُ أحفظُ ذلك الكلامَ، وكأنَّما يقرُّ في صدْري، وكانتِ العربُ تَلوَّمُ قَوْله: (تَلوَّم): أي: تنْتَظر؛ أَرَادَ تتلوَّم، فَحذف إِحْدَى التَّاءينِ تَخفيفًا. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/184)، (8/23). بإسلامِهم الفتحَ، فيقولون: اتركُوه وقومَه، فإنَّه إنْ ظهَرَ عليهم فهو نبيٌّ صادِق، فلمَّا كانتْ وقعةُ أهلِ الفتحِ، بادَرَ كلُّ قومٍ بإسلامِهم، وبدَرَ أَبي قَومِي بإسلامِهم، فلمَّا قدِم قال: جِئتُكم واللهِ من عندِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حقًّا؛ فقال: ((صَلُّوا صلاةَ كذا في حِينِ كذا، وصلُّوا صلاةَ كذا في حِين كذا، فإذا حضرتِ الصَّلاةُ فليؤذِّنْ أحدُكم، ولْيؤمَّكم أكثرُكم قرآنًا))، فنظروا فلمْ يكُنْ أحدٌ أكثرَ قرآنًا منِّي؛ لِمَا كنتُ أتلقَّى من الركبان، فقدَّموني بين أيديهم، وأنا ابنُ ستٍّ، أو سَبعِ سِنينَ رواه البخاري (4302).
ثانيًا: مِن الآثار
عن عبدِ اللهِ بن عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: (لَمَّا قدِم المهاجرون الأوَّلون العَصَبةَ- موضع بقُباءٍ- قَبلَ مَقدَمِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يؤمُّهم سالمٌ مولى أبي حُذيفةَ، وكان أكثرَهم قُرآنًا) رواه البخاري (692). وفي روايةٍ: وفيهم عُمرُ بن الخطَّابِ، وأبو سَلمةَ بنُ عبدِ الأَسَدِ أخرجه البخاري (7175).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ إمامةَ سالمٍ مع وجودِ عُمرَ فيها دلالةٌ على أنَّ الأقرأَ مُقدَّمٌ على الأفقهِ ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (3/870).

انظر أيضا: