الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الثَّالث: صلاةُ الاستخارةِ


الفَرعُ الأوَّل: تعريفُ الاستخارةِ
الاستخارةُ لُغةً: طلَبُ الخِيرةِ في الشيءِ، وهو استفعالٌ منه؛ يُقال: استخِرِ اللهَ يَخِرْ لك ((النهاية)) لابن الأثير (2/91).
الاستخارة شرعًا: طلَبُ صرفِ الهِمَّةِ لِمَا هو المختارُ عندَ اللهِ والأَوْلى ولا تُشرَع النيابةُ في صلاة الاستخارة، بل على صاحبِ الأمْر أن يستخيرَ بنفسِه. سُئل ابن باز: هل يجوز أن أُصلِّي صلاة الاستخارة لغيري، وأغيِّر صيغة الدعاء بحيث يأتي على هذا النمط: اللهم إن كنت تعلم أنَّ هذا الأمر هو خيرٌ لها أو له في دِينه أو دنياها وهكذا؟، فأجاب: (لا أعلم في هذا دليلًا، إنما جاءت السُّنة لمن أراد الشيء، فالحديث: «إذا همَّ أحدكم بأمرٍ فليصلِّ ركعتين، ثم يقول: اللهمَّ...» إلى آخر الدعاء، والسنة لِمَن همَّ بالأمر وأشكل عليه أن يستخير، أمَّا فلان يستخير لفلان لا أعلم لهذا أصلًا، لكن الرجل أو المرأة كل منهما يستخير لنفسه، يدعو بالدعاء الذي يَفهم، الذي يَعرِف، إذا كان ما يعرف الدعاء الوارد في الحديث يسأل ربَّه يقول: اللهمَّ يسِّر لي الأصلحَ، اللهمَّ اشرح صدري للأصلح، الأحبِّ إليك بما فيه نفعي وصلاحي. يدعو بالدعوات التي تناسبه، والحمد لله) ((فتاوى نور على الدرب)) (11/83). وقال ابن عثيمين: (الاستخارة لا تجوز إلَّا ممَّن أراد وهمَّ، ولا يصلُح أن يستخير لغيره، حتى لو وَكله وقال: استخر اللهَ لي؛ لأنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: «إذا همَّ أحدُكم فليركع ركعتينِ، ثم يقول:...» وذكَر الحديث، كما أنَّه لو دخل اثنان المسجد، وقال أحدهما للآخَرِ: صلِّ عني ركعتين تحيَّة المسجِدِ وأنا سأجلس، لا يصحُّ هذا، فصلاةُ الاستخارة متعلِّقة بنفس المُسْتَخيرِ الذي يُريد أن يفعَلَ) ((لقاء الباب المفتوح)) (رقم اللقاء: 83). وقالت اللَّجنةُ الدَّائمة: ( المشروعُ في صلاة الاستخارة أنْ يُصلِّيَ ويطلُب الخيرةَ كلُّ إنسانٍ لنفسه، ولا يجوز أن يصليَ الإنسانُ صلاةَ الاستخارة لغيره) ((فتاوى اللجنة الدائمة – المجموعة الثانية)) (6/156). ، بالصَّلاة، والدُّعاءِ الواردِ في الاستخارةِ ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (3/241)، ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (4/161).
الفرعُ الثَّاني: حُكمُ صلاةِ الاستخارةِ
صلاةُ الاستخارةِ سُنَّةٌ، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/55)، ((مراقي الفلاح)) للشرنبلالي (ص: 149). ، والمالكية ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/8)، وينظر: ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (ص: 33). ، والشافعية ((المجموع)) للنووي (4/54)، وينظر: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/205). ، والحنابلة ((الفروع)) لابن مفلح (2/403)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/443).
الدَّليلُ مِنَ السُّنَّة:
عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعلِّمُ أصحابَه الاستخارةَ في الأمورِ كلِّها، كما يُعلِّم السورةَ من القرآنِ؛ يقول: ((إذا همَّ أحدُكم بالأمرِ فلْيركَعْ ركعتينِ من غيرِ الفريضةِ، ثم لْيقُل: اللهمَّ إني أستخيرُك بعِلمك، وأستقْدِرُكَ بقُدرتِك، وأسألُك من فَضلِك؛ فإنَّك تَقدِرُ ولا أَقدِرُ، وتَعلمُ ولا أَعلمُ، وأنت علَّامُ الغيوب، اللهمَّ فإنْ كنتَ تَعلَمُ هذا الأمْرَ- ثم تُسمِّيه بعَينِه- خيرًا لي في عاجلِ أمْري وآجلِه- قال: أو في دِيني ومعاشي وعاقبةِ أمري- فاقْدُرْه لي، ويَسِّره لي، ثم بارِكْ لي فيه، اللهمَّ وإنْ كنتَ تعلمُ أنَّه شرٌّ لي في دِيني ومعاشي وعاقبةِ أمْري- أو قال: في عاجِلِ أمْري وآجِلِه- فاصْرِفني عنه، واقدُرْ لي الخيرَ حيثُ كانَ ثمَّ رضِّني به )) رواه البخاري (7390).
الفَرع الثَّالِث: أداءُ صلاةِ الاستخارةِ في أوقاتِ النَّهي
لا تُصلَّى صلاةُ الاستخارةِ في أوقاتِ النَّهي ولكن ذهب بعضُ أهل العلم إلى أدائها في أوقات النَّهي إذا كانتِ الاستخارةُ في أمر مستعجل يفوت بالتأخير إلى وقت الإباحة. قال ابن تيمية: (ويُصلِّي صلاة الاستخارة وقتَ النهي في أمر يفوت بالتأخير إلى وقتِ الإباحة). ((الفتاوى الكبرى)) (5/345). وقال ابن عثيمين: (صلاة الاستخارة إنْ كانت لأمر مستعجلٍ لا يتأخَّر حتى يزول النهي، فإنَّها تُفعَل، وإن كانت لسببٍ يمكن أن يتأخَّر، فإنَّه يجب أن تؤخَّر). ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (14/275). ، وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّة الأربعة: الحَنَفيَّة ((البناية)) للعيني (2/60)، ((الدر المختار)) للحصكفي (1/370). لعموم المنع عندهم من الصَّلاة في هذه الأوقات. ، والمالِكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/58)، وينظر: ((حاشية العدوي على شرح مختصر خليل للخرشي)) (1/37)، ، والشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/170)، وينظر: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/124). ، والحَنابِلَة ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/453)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/258).
الأدلَّة:
أولًا: من السُّنَّة
1- عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((شهِد عندي رجالٌ مرضيُّون، وأرْضاهم عندي عُمرُ: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عن الصَّلاةِ بعدَ الصُّبحِ حتَّى تُشرِقَ الشمسُ، وبعدَ العصرِ حتَّى تغرُبَ )) [3869] رواه البخاري (581)، ومسلم (826).
2- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَحرَّوا بصلاتِكم طلوعَ الشمسِ ولا غُروبَها )) رواه البخاري (582)، ومسلم (828).
3- عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا طلَعَ حاجبُ الشمسِ فأَخِّروا الصلاةَ حتى ترتفعَ، وإذا غابَ حاجبُ الشَّمسِ فأخِّروا الصلاةَ حتى تغيبَ )) رواه البخاري (583) واللفظ له، ومسلم (829).
4- عن عُقبةَ بنِ عامرٍ الجهنيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((ثلاثُ ساعاتٍ كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَنهانا أنْ نُصلِّي فيهنَّ أو أن نَقبُرَ فيهنَّ موتانا: حينَ تَطلُعُ الشمسُ بازغةً حتى ترتفعَ، وحين يقومُ قائمُ الظهيرةِ حتى تميلَ الشمسُ، وحين تَضيَّفُ الشمسُ للغروبِ حتى تغرُبَ )) رواه مسلم (831).
وجهُ الدَّلالة من هذه الأحاديثِ:
أنَّ النصوصَ عامَّةٌ في النَّهي، فتشمَلُ صلاةَ الاستخارةِ ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/453).
 ثانيًا: لأنَّ سببَ الصلاةِ هو الاستخارةُ، وهو متأخِّرٌ عن الصَّلاةِ ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/124).
الفرعُ الرابع: وقتُ الدعاءِ في صلاةِ الاستخارةِ
الدُّعاءُ في صلاةِ الاستخارةِ يكونُ عقِبَ السَّلامِ، وهذا مذهبُ الجمهور: المالِكيَّة ((حاشية العدوي على شرح مختصر خليل للخرشي)) (1/37)، ((منح الجليل)) لعليش (1/21). ، والشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/54)، وينظر: ((المنهاج القويم)) لابن حجر الهيتمي (ص: 140)، ((شرح المقدمة الحضرمية)) لسعد بن محمد الحضرمي (1/320). ، والحَنابِلَة ((الإقناع)) للحجاوي (1/345)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (1/578). ، وحُكي الإجماعُ على ذلك قال الشوكانيُّ: (والحديثُ يدلُّ على مشروعيَّة صلاة الاستخارة والدعاء عقيبها، ولا أعلم في ذلِك خلافًا) ((نيل الأوطار)) (3/89).
الدَّليلُ مِنَ السُّنَّة:
عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعلِّمُ أصحابَه الاستخارةَ في الأمورِ كلِّها، كما يُعلِّم السورةَ من القرآنِ؛ يقول: ((إذا همَّ أحدُكم بالأمرِ فلْيركَعْ ركعتينِ من غيرِ الفريضةِ، ثم لْيقُل: اللهمَّ إني أستخيرُك بعِلمك، وأستقدرِكُ بقُدرتِك، وأسألُك من فَضلِك؛ فإنَّك تَقدِرُ ولا أَقدِرُ، وتَعلمُ ولا أَعلم، وأنت علَّامُ الغيوب، اللهمَّ فإنْ كنتَ تَعلَمُ هذا الأمْرَ- ثم تُسمِّيه بعَينِه- خيرًا لي في عاجلِ أمْري وآجلِه- قال: أو في دِيني ومعاشي وعاقبةِ أمري- فاقْدُرْه لي، ويَسِّره لي، ثم بارِكْ لي فيه، اللهمَّ وإنْ كنتَ تعلمُ أنَّه شرٌّ لي في دِيني ومعاشي وعاقبةِ أمْري- أو قال: في عاجِلِ أمْري وآجِلِه- فاصْرِفني عنه، واقدُرْ لي الخيرَ حيثُ كانَ ثمَّ رضِّني به )) رواه البخاري (7390).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذكَر الدعاءَ بعدَ (ثم) التي تُفيدُ الترتيبَ والتعقيبَ مع التَّراخي ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (رقم اللقاء: 171).
الفَرعُ الخامس: تَكرارُ صلاةِ الاستخارةِ
إذا لم يتبيَّنْ للمستخيرِ أمرٌ يختارُه، فله تَكرارُ الاستخارةِ، وهذا مذهبُ الجمهور: الحَنَفيَّة ((حاشية ابن عابدين)) (2/27)، ((مراقي الفلاح)) للشرنبلالي (1/149). ، والمالِكيَّة ((حاشية العدوي على شرح مختصر خليل للخرشي)) (1/38)، ((الفواكه الدواني)) للقيراوني (1/185). ، والشافعيَّة ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/225).
الأدلَّة:
أولًا: من السُّنَّة
عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا دعَا، دعا ثلاثًا، وإذا سألَ، سألَ ثلاثًا)) رواه مسلم (1794).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الدُّعاءَ الذي تُسَنُّ له الصلاةُ تُكرَّر الصلاةُ له كالاستسقاءِ ((نيل الأوطار)) للشوكاني (3/90).
ثانيًا: من الآثار
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: (لَمَّا احترقَ البيتُ (أي: الكَعبة) زمَنَ يزيدَ بنِ معاويةَ، حين غزاها أهلُ الشام، فكان من أمْره ما كان، ترَكَه ابنُ الزُّبَير، حتى قدِمَ الناسُ الموسِمَ، يريد أنْ يُجرِّئهم (أو يُحرِّبهم بهم) على أهلِ الشام، فلمَّا صدَر الناسُ، قال: يا أيُّها الناس، أَشِيروا عليَّ في الكعبةِ، أَنقضُها ثمَّ أَبني بناءَها، أو أُصلِحُ ما هو منها؟ قال ابن عبَّاس: فإني قدْ فَرَقَ فَرَق: أيْ: بَدَا وظَهر، وقيل الرِّوَايَةُ: فُرِقَ- مبنيٌّ على مَا لَمْ يُسَمَّ فاعِلُه. ينظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/440)، ((لسان العرب)) لابن منظور (10/306). لي رأيٌ فيها؛ أرى أنْ تُصلِحَ ما وَهَى منها، وتدَعَ بيتًا أسلمَ الناسُ عليه، وأحجارًا أسلمَ الناسُ عليها وبُعِثَ عليها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال ابنُ الزُّبَيرُ: لو كان أحدُكم احترَقَ بيتُه، ما رضِي حتى يُجِدَّه؛ فكيف بيتُ ربِّكم؟! إنِّي مُستخيرٌ ربِّي ثلاثًا، ثم عازمٌ على أمْري، فلمَّا مضى الثلاثُ أجْمَع رأيَه على أنْ يَنقُضَها ) رواه مسلم (1333).
ثالثًا: قياسُها على صلاةِ الاستسقاءِ؛ فصلاةُ الاستخارةِ أشبهُ ما تكونُ بصلاةِ الاستسقاءِ، من حيثُ إنَّها صلاةُ حاجةٍ، وتُشابهها من حيثُ ارتباطُ الصلاةِ بالدُّعاءِ ((نيل الأوطار)) للشوكاني (3/90).

انظر أيضا: