الموسوعة الفقهية

الفرعُ الثَّالث: أفضلُ وقتٍ للوتر


الوترُ آخِرَ الليلِ أفضلُ قال ابن رجب: (كان أكثر السلف يُوتِر في آخر الليل، منهم: عمر، وعليٌّ، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم، ورَوى وكيع، عن الربيع بن صَبِيح، عن ابن سيرين، قال: (ما يختلفون أنَّ الوترَ من آخر الليل أفضلُ. واستحبَّه النخعيُّ، ومالك، والثوريُّ، وأبو حنيفة، وأحمد- في المشهور عنه- وإسحاق، إنْ قوي ووثق بنفسِه القيام من آخِر الليل، فأمَّا مَن ليس كذلك فالأفضل في حقِّه أن يُوتِر قبل النوم، ورُوي هذا المعنى عن عائشة). ((فتح الباري)) (6/247). لِمَن رجَا أن يستيقظَ آخِرَ اللَّيلِ، والوترُ أوَّلَ اللَّيلِ قال ابن رجب: (قد كان كثيرٌ من الصحابة يوتِر من أول الليل، منهم: أبو بكر الصِّدِّيق، وعثمانُ بن عفان، وعائذ بن عمرو، وأنس، ورافع بن خديج، وأبو هريرة، وأبو ذر، وأبو الدرداء. وهؤلاء الثلاثة أوصاهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك، فتمسَّكوا بوصيته، ومنهم مَن كان يفعل ذلك خشيةً من هجوم الموت في النَّوم؛ فإنَّهم كانوا على نهاية من قصر الأمل، وذهب طائفةٌ إلى أنَّ الوتر قبل النوم أفضل، وهو أحدُ الوجهين للشافعية، وهو مقتضى قول القاضي أبي يَعلَى من أصحابنا في كتابه "شرح المذهب"، حيث ذكر أنَّ وقت الوتر تابع لوقت العشاء، وأنه يخرج وقته بخروج وقت العشاء المختار، وقال أبو حفص البرمكيُّ من أصحابنا- في شهر رمضان خاصَّة لِمَن صلَّى التراويح خلف الإمام-: فإنَّ الأفضل أنْ لا ينصرفَ المأموم حتى ينصرفَ إمامه، ونقل مهنا، عن أحمد، أنه كان يُوتِر قبل أن ينام، وقال: هو أحوط، وما يُدريه؟ لعلَّه لا ينتبه، وهذا يدلُّ على أنَّ الأخذ بالاحتياط أفضل... وممَّن كان يقدم الوتر: ابن المسيب والشعبي) ((فتح الباري)) (6/247). أفضلُ لِمَن خافَ ألَّا يقومَ قال المروزيُّ: (باب اختيار الوتر في آخِر الليل لِمَن قوي عليه... باب اختيار الوتر أوَّل اللَّيل لِمَن خاف أن لا يقوم آخره) ((مختصر قيام الليل)) (ص: 279- 281). وقال ابنُ قُدامةَ: (الأفضل فِعله في آخر الليل... فإنْ خاف أن لا يقوم من آخِر الليل، استحبَّ أن يوتر أوله... وأي وقت أوتر من اللَّيل، بعد العشاء أجزأه، لا نعلم فيه خلافًا، وقد دلَّت الأخبار عليه). ((المغني)) (2/119، 120). وقال النوويُّ: (حديث جابر: «مَن خاف أنْ لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوَّلَه، ومَن طمع أن يقوم آخره فليوترْ آخر الليل» فيه دليل صريح على أنَّ تأخير الوتر إلى آخر الليل أفضلُ لِمَن وثق بالاستيقاظ آخِرَ الليل وأنَّ من لا يثق بذلك فالتقديم له أفضلُ، وهذا هو الصواب، ويحمل باقي الأحاديث المطلقة على هذا التفصيل الصَّحيح الصريح، فمِن ذلك حديث: «أوصاني خليلي أنْ لا أنام إلَّا على وتر»، وهو محمولٌ على مَن لا يثق بالاستيقاظ. قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «فإنَّ صلاة آخر الليل مشهودةٌ» وذلك أفضل أنْ يشهدَها ملائكة الرحمة، وفيه دليلان صريحان على تفضيل صلاة الوتر وغيرها آخرَ الليل). ((شرح النووي على مسلم)) (6/34، 35). ، وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّة الأربعة: الحَنَفيَّة ((حاشية ابن عابدين)) (1/369)، وينظر: ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (1/109). ، والمالِكيَّة ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (1/294)، وينظر: ((الثمر الداني)) للآبي الأزهري (ص: 142). ، والشافعيَّة ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/222)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (2/114). ، والحَنابِلَة ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/238)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/119).
الأدلة مِن السُّنَّة:
1- عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن خافَ أنْ لا يقومَ مِن آخِرِ اللَّيلِ فلْيُوترْ أوَّلَه، ومَن طَمِعَ أن يقومَ آخِرَه فلْيُوترْ آخرَ اللَّيلِ؛ فإنَّ صلاةَ آخِرِ الليلِ مشهودةٌ، وذلك أفضلُ )) رواه مسلم (755).
2- عنِ ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، ((أنَّ رجلًا سألَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن صلاةِ اللَّيلِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: صلاةُ اللَّيلِ مَثْنَى مَثْنَى، فإذا خشِي أحدُكم الصبحَ صَلَّى ركعةً واحدةً، تُوتِرُ له ما قدْ صلَّى )) رواه البخاري (990)، ومسلم (749).
3- عن عائشةَ، قالت: ((مِن كلِّ الليلِ قد أَوْترَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وانتهى وترُه إلى السَّحرِ)) وفي رواية: ((مِن كلِّ الليلِ أوترَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مِن أوَّله، وأوْسَطِه، وآخِرِه، فانتهى وترُه إلى السَّحر قال ابن رجب: (حديث عائشةَ: «أنَّه انتهى وترُه إلى السَّحر»، قد يشعر بذلك، وأنه ترك الوتر من أوَّل الليل ووسَطه، واستقرَّ عملُه على الوتر من آخِره، وإنَّما كان ينتقل من الفاضلِ إلى الأفضل) ((فتح الباري)) (6/249). )) رواه البخاري (996)، ومسلم (745). والرواية الثانية: رواها مسلم (745).
4- عن عَبدِ اللهِ بنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اجْعَلوا آخِرَ صلاتِكم بالليلِ وِترًا )) رواه البخاري (998)، ومسلم (751).
5- عن أبي قَتادَةَ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لأبي بكرٍ: متى تُوتِر؟ قال: أُوتِرُ من أولِ اللَّيل، وقال لعمر: متى توتر؟ قال: آخِرَ اللَّيلِ، فقال لأبي بكر: أخَذَ هذا بالحزمِ، وقال لعُمرَ: أخَذَ هذا بالقُوَّة )) رواه أبو داود (1434)، وابن خريمة (2/145) (1084)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (11/359) (4499). احتجَّ به ابنُ حزم في ((المحلى)) (3/49)، وقال ابن القطَّان في ((الوهم والإيهام)) (2/355): طريقه صحيحة. وصحَّح إسنادَه النوويُّ في ((الخلاصة)) (1/560) وقال: على شرط مسلم، وابن الملقِّن في ((البدر المنير)) (4/319)، وأحمد شاكر في تحقيق ((المحلى)) (3/49)، وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1434).

انظر أيضا: