الموسوعة الفقهية

المَبحَثُ السَّادسُ: موضِعُ سجودِ السهوِ قبلَ السَّلامِ أو بَعْدَه؟


اختلَف أهلُ العِلمِ في موضِعِ سجودِ السَّهوِ [2958] قال الماورديُّ: (لا خلافَ بين الفقهاء أنَّ سجود السهو جائز قبل السلام وبعده، وإنما اختلفوا في المسنون والأَوْلَى) ((الحاوي الكبير)) (2/214). ولكن قال ابن تيمية: (ذهَب كثيرٌ من أتباع الأئمَّة الأربعة إلى أنَّ النزاع إنما هو في الاستحباب، وأنه لو سجَد للجميع قبل السلام، أو بعده جاز. والقول الثاني: أنَّ ما شرعه قبل السلام يجب فِعلُه قبله، وما شرَعه بعده لا يفعل إلَّا بعده. وعلى هذا يدلُّ كلام أحمد وغيره من الأئمَّة، وهو الصحيح... فهذا أمر فيه بالسلام ثم بالسجود، وذلك أمر فيه بالسجود قبل السلام، وكلاهما أمرٌ منه يقتضي الإيجاب... ولكن مَن سجَد قبل السلام مطلقًا، أو بعده مطلقًا متأولًا، فلا شيءَ عليه، وإن تبيَّن له فيما بعدُ السنَّةُ استأنف العمل فيما تبيَّن له، ولا إعادة عليه) ((مجموع الفتاوى)) (23/36-37). ويُنظر: ((الإنصاف)) للمرداوي (2/111). على أقوال، أقواها قولان:
القول الأول: إنْ سهَا بنقصٍ، سجَد قبل السلام، أو بزيادةٍ فبَعدَه، وهو المشهورُ عند المالكيَّة [2959] ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/288)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/311 -308). ، وقولٌ عندَ الشافعيَّة [2960] - قال الخطيب الشربيني: (الجديد أنَّ محلَّه- أي: سجود السهو- بين تشهُّده وسلامه.. ومقابل الجديد قديمان: أحدهما: أنَّه إنْ سها بنقصٍ سجد قبل السلام أو بزِيادة، فبعدَه)) ((مغني المحتاج)) (1/213). ، ورِوايةٌ عن أحمد [2961] - قال المرداويُّ: (والأفضل قبله إلَّا إذا سلَّم عن نقص ركعة فأكثر، وإلَّا سجَد قبل السلام.. وعنه ما كان من زيادة فهو بعد السلام، وما كان من نقص كان قبله فيسجد.. اختارها الشيخ تقيُّ الدِّين) ((الإنصاف)) (2/110). ، وهو قولُ ابنِ المنذرِ [2962] - قال ابنُ المنذر: (وإذا قام المرءُ من الركعتين ساهيًا لم يرجعْ إلى الجلوس، وأكمل صلاته، وسجد سجودَ السهو قبل السَّلام، وإذا سلَّم من اثنتين أتمَّ، وسجد سجودَ السهو بعد السلام، وإذا صلَّى خمسًا سجد بعد السلام، وإذا شكَّ بنى على اليقين، وسجَد قبل السلام، ثم ابنِ المسائل في هذا الباب على هذا المثال) ((الإقناع)) (1/98-99). ، واختيارُ ابنِ تيميَّة [2963] - قال المرداوي: (والأفضل قبله إلا إذا سلَّم عن نقص ركعة فأكثر، وإلَّا سجد قبل السلام.. وعنه ما كان من زيادة فهو بعد السلام، وما كان من نقص كان قَبلَه فيسجد.. اختارها الشيخ تقيُّ الدِّين) ((الإنصاف)) (2/110). , وابنِ عُثيمين قال ابن عثيمين: (سجودُ السَّهو يكون قبل السلام: في ما إذا ترك واجبًا من الواجبات، أو إذا شكَّ في عدد الركعات ولم يترجَّح عنده أحدُ الطرفين. وأنه يكون بعدَ السلام: في ما إذا زاد في صلاته، أو شكَّ وترجَّح عنده أحدُ الطرفين) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (14/17). وقال أيضًا: (قوله: "وسجد وسلَّم" ظاهر كلامه رحمه الله: أنه يسجُد قبل السلام، فإن كان هذا مرادَه، وهو مراده، وهو المذهبُ؛ لأنَّهم لا يرون السجودَ بعد السلام إلَّا فيما إذا سلَّم قبل إتمامها فقط، وأمَّا ما عدا ذلك فهو قبل السَّلام، لكن القول الرَّاجح الذي اختاره شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّة: أنَّ السجود للزيادة يكون بعد السلام مطلقًا) ((الشرح الممتع)) (3/343).
الأدلَّة:
الأدلة على السجود قبل السلام للنَّقْصِ:
أوَّلًا: من السُّنَّة
عن عبدِ اللهِ بنِ بُحينةَ، أنه قال: ((صلَّى لنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ركعتينِ، ثم قام فلمْ يجلِسْ، فقام الناسُ معه، فلمَّا قضى صلاتَه وانتظَرْنا التسليمَ كبَّر، فسجَدَ سجدتينِ وهو جالسٌ قبل التَّسليمِ، ثم سلَّمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم )) [2965] رواه البخاري (829)، ومسلم (570).
ثانيًا: لأنَّ الصَّلاةَ لَمَّا كانت فيها هذا النَّقصُ كانَ مِن المناسبِ أن يَسجُدَ للسَّهوِ قبل أن يُسلِّمَ منه؛ حتى يوجدَ الجابرُ قبلَ انتهائها؛ لأنَّ هذا السجودَ يَجبُر النقصَ؛ فكونُ الجابرِ قَبلَ أن يُسلِّمَ إذا نقَصَ منها أَوْلَى من كونِه بعدَ أن يُسلِّمَ ((الموقع الرسمي للشيخ محمد بن صالح العثيمين)).
الأدلة على السجود بعد السلام للزِّيادَةِ:
أوَّلًا: مِن السنَّةِ
1- عن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْه، قال: ((صلَّى بنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خمسًا، فلمَّا انفَتَلَ تَوَشْوَش القومُ [2967] توشوش القومُ: أي: تَحرَّكوا وهمَسوا بعضُهم إلى بعضٍ بكلامٍ مُخْتَلِطٍ خَفيٍّ لا يَكادُ يُفْهَم. ينظر: ((إكمال المعلم)) للقاضي عياض (2/518)، ((النهاية)) لابن الأثير (5/190). بينهم، فقال: ما شأنُكم؟ قالوا: يا رسولَ اللهِ! هل زِيدَ في الصَّلاةِ؟ قال: لا، قالوا: فإنَّكَ قد صليتَ خمسًا، فانفتَلَ ثم سجَدَ سجدتينِ، ثمَّ سَلَّم، ثم قال: إنَّما أنَا بَشَرٌ مثلُكم )) [2968] رواه البخاري (1226)، ومسلم (572).
2- عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه، قال: ((صلَّى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الظهرَ ركعتيْنِ، فقيلَ: صلَّيْتَ ركعتيْنِ، فصلَّى ركعتيْنِ، ثم سلَّمَ، ثم سجدَ سجدتيْنِ )) [2969] رواه البخاري (715)، ومسلم (573).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه زادَ زيادةً قوليَّةً، وهو السلام في أثنائِها؛ فكان السجودُ بعدَ السَّلامِ ((الموقع الرسمي للشيخ محمد بن صالح العثيمين)).
ثانيًا: حتى لا تكون في الصَّلاةِ زيادتانِ - الفعليَّة أو القوليَّة التي وقعتْ سهوًا، وسجدتَا السهوِ - فكان من الحِكمةِ أن تكونَ السجدتانِ بعدَ السَّلامِ, وبهذا لا تجتمعُ فيها زيادتانِ ((الموقع الرسمي للشيخ محمد بن صالح العثيمين)).
القول الثاني: أنَّ محلَّه قبلَ السَّلام، إلَّا إذا سلَّم قبل إتمامِ صلاتِه، أو إذا بنَى على غالِبِ ظنِّه، وهذا مذهبُ الحنابلة [2972] ((الإنصاف)) للمرداوي (2/110)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/409). ، وهو قولُ ابن باز [2973] قال ابن باز: (الأمر واسعٌ في ذلك؛ فكِلا الأمرين جائزٌ، وهما السجود قبل السلام وبعدَه؛ لأنَّ الأحاديث جاءت بذلك عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الأفضل أن يكون السجودُ للسهو قبل السلام إلَّا في صورتين: إحداهما: إذا سلَّم عن نقْصٍ؛ ركعة فأكثرَ.. والصورة الثانية: إذا شكَّ في صلاته فلم يدرِ كم صلَّى.. لكنَّه غلب على ظنِّه أحد الأمرين، وهو النقص أو التمام، فإنَّه يَبني على غالب ظنِّه، ويكون سجودُه بعد السلام) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (11/276).
الأدلَّة من السُّنَّة:
1- عن أبي هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عَنْه، قال: ((صلَّى بنا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الظُّهرَ رَكعتينِ، ثمَّ سَلَّمَ، ثم قام إلى خَشبةٍ في مُقدَّمِ المسجدِ، ووضَع يدَه عليها، وفي القومِ يومئذٍ أبو بكرٍ وعُمرُ، فهابَا أن يُكلِّماه، وخرَج سَرَعَانُ النَّاسِ، فقالوا: قَصُرتِ الصَّلاةُ، وفي القومِ رجلٌ كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدْعُوه ذا اليَدينِ، فقال: يا نبيَّ اللهِ، أنسيتَ أمْ قَصُرتْ؟ فقال: لم أَنْسَ ولم تَقْصُرْ! قالوا: بلْ نَسيتَ يا رسولَ اللهِ، قال: صَدَق ذو اليَدينِ، فقام فَصلَّى ركعتينِ، ثمَّ سلَّمَ، ثمَّ كبَّر، فسجَدَ مِثلَ سجودِه أو أطولَ، ثم رفَعَ رأسَه وكبَّر، ثمَّ وضَعَ مِثلَ سُجودِه أو أطولَ، ثمَّ رفَعَ رأسَه وكبَّرَ )) [2974] رواه البخاري (6051)، ومسلم (573).
2- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسْعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((.. إذَا شَكَّ أحدُكم في صَلاتِه، فلْيَتحرَّى الصَّوابَ فلْيُتمَّ عليه، ثم لْيُسلِّمْ، ثم يسجُدْ سَجدتينِ )) [2975] رواه البخاري (401)، مسلم (572).

انظر أيضا: