مقالات وبحوث مميزة

 

 

فِقهُ التيسيرِ: الواجِهةُ الخَلفيَّةُ للعَصرانيَّةِ

الشيخ: أحمد بن صالح الزهراني

7 ذو الحجة 1431هـ

 

لا شَكَّ أنَّ العصرانيَّةَ أو الليبراليَّةَ الإسلاميَّةَ أو العلمانيَّةَ في ثَوبِها الجديدِ تتَّفِقُ على أسلوبٍ خطيرٍ في حَربِها للقِيَمِ الشرعيَّة، ألا وهو الحَربُ من داخِلِ صُفوفِ الخَصمِ، بمعنى استنباتِ أو دَعمِ وإبرازِ عَيِّنات في صُفوفِ الإسلاميِّين تبقى منتَسِبةً للصَّفِّ الإسلاميِّ من حيثُ الاسمُ والمظهَرُ، لكِنَّها من حيث الحقيقةُ والمضمونُ لا يُعلَمُ لها وجهٌ من قفًا؛ فهي تتحَدَّثُ عن الإسلامِ وللإسلامِ كثيرًا، لكنَّه كلامٌ وحديثٌ يَصُبُّ في جعبةِ الخَصمِ، وهذه العَيِّناتُ متفاوِتةٌ في السِّماتِ والخصائص، والتخَصُّصات كذلك، لكنَّ أشدَّهم عبثًا ونكايَةً في الشريعةِ هم الشرعيُّون، أعني من كانت بدايتُه وشهرتُه في العلم الشرعي تلقِّيًا وأداءً وإفتاءً.

ولهذا ظهرت في وقتِنا مناهِجُ جديدةٌ للتفَقُّهِ والإفتاءِ عجيبةٌ غريبةٌ، روَّجها أدعياءُ دُخلاءُ على الفِقهِ بمعناه الصَّحيح، الفِقهِ الذي جاء عن صحابةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتابعيهم بإحسانٍ، وعليه تفقَّه الأئمَّةُ الأربعةُ، الفِقهِ القائِمِ على الكِتابِ والسنَّة، والتأمُّلِ فيهما في ضَوءِ مَنهَجِ السَّلَفِ الصَّالح، لا بمنهجٍ مُنفَلِتٍ، يتلمَّسُ الثَّغَراتِ، ويبحَثُ عن هَفَواتِ الأئمَّة، وأخطاءِ الفُقَهاء ليصيِّرَها مذاهِبَ فقهيَّةً، وآراءً علميَّةً يتصدَّرُ بها مجالِسَ الفِقهِ والإفتاءِ، ويزعُمُ التَّجديدَ في الفِقهِ والشَّريعة، «وقد قيل: إنَّما يُفسِدُ النَّاسَ نِصفُ متكَلِّمٍ، ونِصفُ فَقيهٍ، ونِصفُ نحويٍّ، ونِصفُ طَبيبٍ؛ هذا يُفسِدُ الأديانَ، وهذا يفسِدُ البلدانَ، وهذا يفسِدُ اللِّسانَ، وهذا يفسِدُ الأبدانَ».

وهذا الأمرُ نَدَر من يتكلَّمُ فيه، ويبيِّنُ دَخَنَه وزَغلَه، بل يُتَّهَمُ من يتكلَّمُ فيه أنَّه حاسدٌ، وأنَّه منفِّرٌ، وأنّه ضدُّ أيِّ عملٍ ناجح، وأنَّه مثاليٌّ لا واقعيٌّ، ويُقال له: إنَّ الأُمَّةَ بحاجةٍ لكلِّ جهدٍ، وإنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمرَ كُلَّ النَّاسِ بتبليغ الدِّينِ.. إلى آخِرِ هذه التلبيساتِ التي رَوَّجها بعضُ من لا يستطيعُ الحياةَ والعَمَلَ إلَّا تحت أجواءِ السُّكوتِ عن الباطِلِ، والمجاملةِ في الحَقِّ. واللهُ المستعانُ.

قال السَّخاوي -رحمه الله- في ذكْرِه الأماكِنَ التي يجوزُ فيها ذِكرُ المرءِ بما يَكرَهُ: «ويلتَحِقُ بذلك المتساهِلُ في الفتوى أو التصنيف، أو الأحكام أو الشَّهادات، أو النَّقْل أو الوعظ؛ حيث يذكر الأكاذيبَ وما لا أصْلَ له على رؤوسِ العوامِّ».

التساهُلُ في الفتوى له عند صاحبه مسوِّغاتٌ عديدة، ولعلَّ أسوَأَها وأشَدَّها خطرًا ما يسمَّى عند أصحابه (فقه التيسير)، أو الفقه المتسامِح، ومَصدَرُ خُطورتِه أنَّه تجاوز مَرحلةَ خَطَأِ المسلَكِ الفرديِّ، بل أصبح منهجًا ومقصَدًا بذاته، ثمّ أصبح بعد ذلك واجهةً خَلفيَّةً شرعيَّةً ومرجعًا علميًّا لكُلِّ الدَّعَواتِ العلمانيَّة والعَصرانيَّة والليبراليَّة، وغيرِها من تشكُّلاتِ النِّفاقِ المعاصِرِ!

وأصبحت الجرأةُ على الفتوى المخالفةِ للنُّصوص سمةً بارزةً لرموز هذا المنهَجِ، مدَّعِين بذلك التيسيرَ على النَّاسِ، حتى أبطلوا شرائِعَ، وأحدثوا في دينِ الله أمرًا جَلَلًا، استغلَّه أفراخُ العصرانيِّين ومُدَّعُو الاستنارةِ في تقنينِ التَّفَلُّتِ من الدِّينِ وتشريعه؛ ليكون فقهًا عصريًّا يناسِبُ المرحلةَ الرَّاهنةَ، وهي -للأسف- هرطَقةٌ تتلَبَّسُ بلباس المصلحة، وتتَّخِذُ من المنهَجِ التيسيريِّ مركبًا تركَبُه، ووِطاءً تطَؤُه، فيُفضي ذلك إلى تحريفِ الشَّريعةِ. قال ابن القيِّمِ في سَبَبِ تحريفِ شريعة النصارى: «وانضاف إلى هذا السَّبَبِ ما في كتابِهم المعروف عندهم "بافر كسيس" أن قومًا من النصارى خرجوا من بيت المقدِسِ وأتوا أنطاكيَّةَ وغيرها من الشَّامِ، فدَعَوا النَّاسَ إلى دين المسيحِ الصَّحيحِ، فدَعَوهم إلى العَمَلِ بالتَّوراةِ، وتحريمِ ذبائِحِ من ليس من أهلِها، وإلى الخِتانِ وإقامةِ السَّبتِ، وتحريمِ الخنزير وتحريمِ ما حرَّمَته التوراةُ، فشَقَّ ذلك على الأُمَمِ، واستَثقَلوه، فاجتمع النَّصارى ببيتِ المقدِسِ وتشاوَروا فيما يحتالون به على الأُمَمِ ليحبِّبوهم إلى دينِ المسيحِ، ويَدخُلوا فيه، فاتَّفَق رأيُهم على مداخَلةِ الأُمَمِ والترخيصِ لهم والاختلاطِ بهم، وأكْل ذبائِحِهم، والانحطاطِ في أهوائِهم، والتخَلُّق بأخلاقِهم، وإنشاءِ شريعةٍ تكونُ بين شريعةِ الإنجيل وما عليه الأُمَمُ» [هداية الحيارى ص(266 ـ 267)].

ولهؤلاء (التيسيريِّين) طُرُقٌ شتَّى في تطبيقِ هذا المنهَجِ؛ منها:

1 ـ التوسُّعُ في قاعدةِ الضَّروراتِ.

فيسوِّغون مخالفةَ النُّصوص الشَّرعيَّة بكلِّ ما يعتَبِرونَه ضرورةً، وإن كان ليس كذلك، ولو لم تنطَبِقْ على الحالةِ شُروطُ الضَّرورةِ المعتَبَرة عند الفُقَهاءِ والعُلَماء الذين بيَّنوا متى يمكِنُ اعتبارُ الحالِ ضرورةً يَسوغُ معها الاستثناءُ من النَّصِّ.

كمن يُفتي بجوازِ سَفَرِ المرأة إلى ديارِ الكُفرِ للدِّراسة للضَّرورة، فأين هي الضَّرورةُ المسَوِّغة لمخالفة النَّهيِ عن سَفَرِ المرأةِ بلا مَحْرَمٍ وإقامتِها في بلادِ الكُفَّار؟!

2 ـ التوسُّعُ في القَولِ بالمصلَحةِ.

وهذه من بِدَعِ العَصرِ الحاضر؛ إذ كان القَولُ بالمصلحة والتَّوسُّعُ فيها مسوِّغًا ليس فقط للقَولِ على اللهِ بلا علمٍ وتشريعِ ما لم يأذَنْ به اللهُ، بل كان بابًا يَلِجُ منه كلُّ من أراد التَّصدُّرَ للفتوى؛ ولهذا دخل في القَولِ في مسائِلِ الشَّرعِ بعضُ من لا يَفقَهُ؛ إذ تصوَّر هؤلاء أنَّه بمجرَّدِ عِلمِه ونَظَرِه في المصالحِ يستطيعُ الاجتهادَ في مسائِلَ شرعيَّة، مستدِلًّا بأقوالٍ من مِثلِ مقالةِ ابن القيِّم «حيثما وُجِدَت المصلحةُ فثَمَّ دِينُ اللهِ»، ونَسِيَ أو جهل هؤلاء أنَّ هذا يَسوغُ في حالةِ فِقدانِ النَّصِّ العامِّ أو الخاصِّ، والحاجةِ إلى الاجتهادِ في المصلحةِ والموازنةِ، أمَّا الوُلوجُ إلى الكلامِ في المسائل الشَّرعيَّة دون عِلمٍ بما في النُّصوصِ والآثارِ خُصوصًا من الأحكامِ فيها وفي مِثْلِها؛ فهذا في الحقيقةِ تقديمٌ بين يَدَيِ اللهِ ورَسولِه، واللهُ تعالى نهى عنه، وقد تقدَّم الكلامُ فيه عند الكلامِ في الاستصلاحِ فيما مَرَّ.

3 ـ تتبُّعُ الرُّخَصِ والأقوالِ الضَّعيفةِ والشَّاذَّةِ.

فإذا ضاق بهؤلاء الأمرُ لجؤوا إلى التفتيشِ عن الأقوالِ والمذاهِبِ الشَّاذَّة والضَّعيفة المخالِفةِ للنُّصوصِ، فأفتَوا بها مع عِلْمِهم بمخالفتِها للنُّصوصِ، وحجَّتُهم في هذا أنَّ لهم سَلَفًا في قَولِهم، وهذا ليس بسائغٍ في الحقيقةِ، بل إذا جاء النَّصُّ فبراءةً إلى اللهِ وإلى رَسولِه من كلِّ قَولٍ يخالِفُ الكِتابَ والسُّنَّةَ، ولو قال به من قال، فكيف إذا كان القَولُ محكومًا عليه بالشُّذوذِ والضَّعفِ؟!

4 ـ التَّلاعُبُ بالألفاظِ الشَّرعيَّةِ.

كلُّنا يعلَمُ أنَّ دَلالاتِ الألفاظِ في اللُّغةِ أوسَعُ منها في الشَّرعِ؛ لأنَّ الاصطلاحَ الشَّرعيَّ استخدم اللَّفظَ العَربيَّ وقيَّده، فيأتي الواحِدُ من هؤلاء ليأخُذَ دلالةَ اللَّفظِ بكلِّ سَعته اللُّغويَّة، ممَّا يعني إدخالَ عناصِرَ جديدةٍ لم يشمَلْها الاصطلاحُ الشَّرعي.

فلفظ الحِجابِ مثلًا يمكِنُ أن يشمَلَ كُلَّ ما تحتَجِبُ به المرأةُ، مهما كان لونُه أو صفتُه، المهِمُّ أنَّه حجابٌ للجِسمِ، فيتوسَّعُ بعضُ المفْتِين ليسَوِّغوا للمرأةِ أيَّ نوعٍ من الألبِسَةِ التي تستُرُ الجِسمَ، وهذا خطَأٌ بلا ريبٍ.

بل الحِجابُ الشَّرعيُّ هو الذي فعله وطبَّقه نِساءُ المؤمنين عندما نزلت آيَةُ الحِجابِ، فهو الحِجابُ الذي فيه من الشُّروطِ ما يجعَلُه يحقِّقُ الحِكمةَ من مشروعيَّة الحِجابِ، وهو بُعدُ المرأةِ عن الشُّبهة وإثارةِ الفتنةِ ولَفْتِ النَّظَرِ.

فإذا توسَّعْنا كما توسَّع فقهاء التَّيسيرِ قُلْنا بمشروعيَّةِ الحِجابِ الأحمَرِ المزركَشِ بالأصفَرِ اللَّافِتِ للنَّظَرِ الذي جمَّل المرأةَ وزاد من لَفْتِ الأنظارِ إليها.

أقول: إنَّ هذا المنهَجَ بملامحه البيِّنةِ هو منهَجٌ بعيدٌ عن السُّنَّة، والكلامُ فيه من أصعَبِ الأمورِ لدِقَّةِ مسائِلِ الفِقهِ، بخلاف قضايا العقيدةِ الكبرى. قال العلَّامةُ الشَّاطبي رحمه الله: «جاء في بعضِ رواياتِ الحديثِ [أي: حديث الافتراقِ]: «أعظَمُها فتنةً الذين يَقيسون الأمورَ برَأْيِهم، فيُحِلُّونَ الحَرامَ، ويحَرِّمون الحلالَ» [أخرجه الطبراني في الكبير (18 / 50 ـ 51) (ح90)، والحاكم (3 / 547) و (4 /430)، وهو منكَرٌ لا أصل له، وحديثُ الافتراقِ مَشهورٌ صحيحٌ]، فجَعَل أعظمَ تلك الفِرَق فتنةً على الأمَّةِ أهلَ القياسِ، ولا كلُّ قياسٍ، بل القياسُ على غيرِ أصلٍ؛ فإنَّ أهلَ القياسِ مُتَّفِقون على أنَّه على غير أصلٍ لا يصِحُّ، وإنَّما يكونُ على أصلٍ من كتابٍ أو سنَّةٍ صحيحةٍ أو إجماعٍ معتَبَر، فإذا لم يكُنْ للقياسِ أصلٌ -وهو القياسُ الفاسِدُ- فهو الذي لا يصحُّ أن يوضَعَ في الدِّين؛ فإنَّه يؤدِّي إلى مخالفة الشَّرع، وأن يصيرَ الحَلالُ بالشَّرع حرامًا بذلك القياسِ، والحرامُ حلالًا، فإنَّ الرَّأي من حيث هو رأيٌ لا ينضَبِطُ إلى قانونٍ شرعيٍّ إذا لم يكن له أصلٌ شرعيٌّ، فإنَّ العُقولَ تستحسِنُ ما لا يُستحسَنُ شرعًا، وتستقبِحُ ما لا يُستقبَحُ شرعًا، وإذا كان كذلك صار القياسُ على غير أصلٍ فتنةً على النَّاسِ.

ثم أخبر في الحديث أنَّ المعلِّمين لهذا القياسِ أضرُّ على النَّاس من سائِرِ أهلِ الفِرَق، وأشدُّ فتنةً، وبيانُه أنَّ مذاهِبَ أهلِ الأهواء قد اشتهرت الأحاديثُ التي تردُّها واستفاضت، وأهلُ الأهواءِ مقموعون في الأمرِ الغالِبِ عند الخاصَّةِ والعامَّةِ، بخِلافِ الفُتيا، فإنَّ أدِلَّتَها من الكتابِ والسُّنَّة لا يَعرِفُها إلَّا الأفرادُ، ولا يميِّزُ ضَعيفَها من قويِّها إلَّا الخاصَّةُ، وقد ينتصب للفتيا والقضاء ممَّن يخالِفُها كثيرٌ».

قلتُ: صدق رحمه الله؛ ولذلك فإنَّ من أصعبِ الأمورِ اليومَ أن تبيِّنَ للعامَّةِ بل لكثيرٍ مِن طلابِ العِلمِ زَيفَ دَعوةِ بعض فقهاء الرُّخَص من المشهورين الآن، والسَّبَبُ دِقَّة المآخِذِ عليهم ممَّا لا يحسِنُه ولا يعيه أكثَرُ النَّاسِ.

ثم قال الشاطبي: «وقد جاء مِثلُ معناه محفوظًا من حديثِ ابن مسعودٍ أنَّه قال: «ليس عامٌ إلَّا والذي بعده شرٌّ منه، لا أقول: عامٌ أمطَرُ من عامٍ، ولا عامٌ أخصَبُ من عامٍ، ولا أميرٌ خيرٌ من أميرٍ، ولكن: ذهابُ خياركم وعُلَمائِكم، ثم يَحدُثُ قومٌ يقيسون الأمورَ برأيِهم، فيُهدَمُ الإسلامُ ويُثلَمُ».

وهذا الذي في حديثِ ابنِ مسعودٍ موجودٌ في الحديثِ الصَّحيح؛ حيث قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «ولكِنْ ينتَزِعُه منهم مع قبض العُلَماءِ بعِلْمِهم، فيبقى ناسٌ جُهَّالٌ يُستفتَون فيُفتون برأيِهم، فيَضِلُّون ويُضِلُّون» [متفق عليه].

وقد تقدَّم في ذمِّ الرأي آثارٌ مشهورةٌ عن الصَّحابة -رضي الله عنهم- والتابعين، تبَيَّن فيها أنَّ الأخذَ بالرَّأي يُحلُّ الحرامَ ويحرِّمُ الحلالَ.

ومعلومٌ أنَّ هذه الآثارَ الذامَّة للرَّأي لا يمكِنُ أن يكون المقصودُ بها ذمَّ الاجتهاد على الأصولِ في نازلةٍ لم توجَدْ في كتابٍ ولا سُنَّةٍ ولا إجماعٍ، ممَّن يعرف الأشباهَ والنَّظائر، ويَفهَمُ معانيَ الأحكامِ، فيقيسُ قياسَ تشبيهٍ وتعليلٍ، قياسًا لم يعارِضْه ما هو أَوْلى منه؛ فإنَّ هذا ليس فيه تحليلٌ وتحريمٌ ولا العكس، وإنَّما القياسُ الهادِمُ ما عارض الكتابَ والسُّنَّة، أو ما عليه سَلَفُ الأمَّةِ، أو معانيها المعتَبَرة.

ثم إنَّ مخالفةَ هذه الأُصولِ على قِسمَينِ:

أحَدُهما: أن يخالِفَ أصلًا مخالفةً ظاهِرةً من غير استمساكٍ بأصلٍ آخَرَ، فهذا لا يقعُ من مُفتٍ مشهورٍ، إلَّا إذا كان الأصلُ لم يبلُغْه، كما وقع لكثيرٍ من الأئمَّةِ؛ حيث لم يبلُغْهم بعضُ السُّنَنِ، فخالفوها خطأً، وأمَّا الأصولُ المشهورةُ فلا يخالِفُها مسلمٌ خلافًا ظاهرًا من غير معارَضةٍ بأصلٍ آخَرَ، فضلًا عن أن يخالِفَها بعضُ المشهورين بالفُتيا.

والثَّاني: أن يخالِفَ الأصلَ بنَوعٍ من التَّأويلِ هو فيه مخطئٌ، بأن يضَعَ الاسمَ على غيرِ مَوضِعِه، أو على بعضِ مواضِعِه، أو يراعي فيه مجرَّدَ اللَّفظِ دونَ اعتبارِ المقصودِ، أو غير ذلك من أنواعِ التَّأويلِ.

والدَّليلُ على أنَّ هذا هو المرادُ بالحديثِ وما في معناه: أنَّ تحليل الشَّيء إذا كان مشهورًا فحرَّمه بغير تأويلٍ، أو التَّحريم مشهورًا فحلَّله بغير تأويلٍ؛ كان كفرًا وعنادًا، ومثلُ هذا لا تتَّخِذُه الأمَّةُ رأسًا قط، إلَّا أن تكونَ الأمَّةُ قد كَفَرت، والأمَّةُ لا تَكفُرُ أبدًا.

وإذا كان التحليلُ أو التحريمُ غيرَ مشهورٍ فخالفه مخالِفٌ لم يبلُغْه دليلُه، فمِثلُ هذا لم يَزَلْ موجودًا من لَدُن زمانِ أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، هذا إنَّما يكونُ في آحادِ المسائِلِ، فلا تضِلُّ الأمَّةُ، ولا ينهَدِمُ الإسلامُ، ولا يُقالُ لهذا: إنَّه مُحدَثٌ عند قَبضِ العُلَماءِ.

فظهر أنَّ المرادَ إنَّما هو استحلالُ المحَرَّمات الظَّاهرة أو المعلومة عنده بنوعِ تأويلٍ، وهذا بيِّنٌ في المبتَدِعةِ الذين تركوا مُعظَمَ الكِتابِ، والذي تضافرت عليه أدِلَّتُه، وتواطأت على معناه شواهِدُه، وأخذوا في اتِّباعِ بَعضِ المتشابِهاتِ وتَرْكِ أمِّ الكِتابِ.

فإذَن هذا -كما قال الله تعالى- زيغٌ وميلٌ عن الصِّراط المستقيمِ، فإن تقدموا [أي تصدروا] أئمة يُفتون ويُـقتدى بهم بأقوالِهم وأعمالِهم سكنت إليهم الدَّهماءُ، ظنًّا أنَّهم بالَغوا لهم في الاحتياطِ على الدِّين، وهم يُضِلُّون بغيرِ علمٍ، ولا شيءَ أعظَمُ على الإنسانِ من داهيَةٍ تقع به من حيث لا يحتَسِبُ، فإنَّه لو علم طريقَها لتوقَّاها ما استطاع، فإذا جاءته على غِرَّةٍ فهي أدهى وأعظَمُ على من وقعت به، وهو ظاهِرٌ، فكذلك البِدعةُ؛ إذا جاءت العامِّيَّ من طريقِ الفُتيا؛ لأنَّه يستَنِدُ في دينه إلى من ظهر في رتبةِ أهلِ العِلمِ، فيَضِلُّ من حيث يطلُبُ الهدايةَ». [الاعتصام ص534]

وذكر -رحمه الله- أيضًا قصَّةً طريفةً تطابق ما هو مشهورٌ عن بعضِ من يُشارُ لهم بالفتوى في عصرنا هذا من متتَبِّعي سَقَطاتِ ورُخَصِ الفُقَهاءِ بدعوى التيسير؛ قال رحمه الله: «ذكروا عن محمَّدِ بنِ يحيى بن لبابة -أخي الشيخ ابن لبابة المشهور- فإنَّه عُزِل عن قضاء ألبيرة، ثم عُزِل عن الشورى لأشياءَ نُقِمَت عليه، وسجَّل بسخطتِه القاضي حبيب بن زيادة، وأمر بإسقاطِ عدالتِه وإلزامِه بَيْتَه، وألَّا يُفتيَ أحدًا.

ثم إنَّ النَّاصِرَ [أي: الأمير] احتاج إلى شراءِ مـجشَرٍ [حوض لا يُستقى فيه لجشره أو لوسَخِه وقَذَرِه، المعجم الوسيط (ص124)] من أحباس المرضى بقرطبةَ بعَدوةِ النَّهر، فشكا إلى القاضي ابن بقيٍّ ضرورتَه إليه لمقابلتِه منزهه، وتأذيه برؤيتِهم أوان تطلُّعِه من علاليه، فقال له ابن بقيٍّ: لا حيلةَ عندي فيه، وهو أولى أن يُحاطَ بحُرمةِ الحَبسِ، فقال له: تكلَّمْ مع الفقهاءِ فيه وعرِّفْهم رغبتي، وما أجزِلُه من أضعافِ القيمةِ فيه، فلعلَّهم أن يجدوا لي في ذلك رخصةً، فتكلَّم ابنُ بقيٍّ معهم فلم يجدوا إليه سبيلًا، فغَضِبَ النَّاصِرُ عليهم وأمر الوزراءَ بالتَّوجيه فيهم إلى القَصرِ، وتوبيخِهم، فجرت بينهم وبين بعضِ الوُزَراءِ مكالَمةٌ، ولم يَصِلِ الناصِرُ معهم إلى مقصودِه.

وبلغ ابنَ لبابة هذا الخَبَرُ، فدفع إلى النَّاصِرِ بَعضًا من أصحابِه الفُقَهاءِ، ويقول: إنَّهم حجَّروا عليه واسعًا، ولو كان حاضرًا لأفتاه بجوازِ المعاوضة، وتقلَّد حقًّا وناظر أصحابَه فيها، فوقع الأمرُ بنفسِ النَّاصِرِ، وأمر بإعادةِ محمَّدِ بنِ لبابة إلى الشُّورى على حالتِه الأولى، ثمَّ أمر القاضي بإعادةِ المشورةِ في المسألةِ، فاجتمع القاضي والفقهاء وجاء ابنُ لبابة آخِرَهم، وعرَّفهم القاضي ابنُ بقيٍّ بالمسألة التي جمعهم من أجْلِها وغِبطةِ المعاوَضةِ.

فقال جميعُهم بقولِهم الأوَّلِ من المنعِ من تغييرِ الحَبسِ عن وَجهِه، وابن لبابة ساكتٌ، فقال له القاضي: ما تقولُ أنت يا أبا عبد الله؟ قال: أمَّا قولُ إمامِنا مالك بن أنسٍ فالذي قاله أصحابُنا الفُقَهاءُ، وأمَّا أهلُ العراقِ فإنَّهم لا يُجيزون الحَبْسَ أصلًا، وهم علماءُ أعلامٌ يقتدي بهم أكثَرُ الأمَّةِ، وإذا بأميرِ المؤمنين من الحاجة إلى هذا المجشر ما به، فما ينبغي أن يُرَدَّ عنه، وله في السُّنَّةِ فُسحةٌ، وأنا أقولُ بقَولِ أهلِ العِراقِ، وأتقلَّدُ ذلك رأيًا.

فقال له الفُقَهاءُ: سبحان الله! تترُكُ قَولَ مالكٍ الذي أفتى به أسلافُنا ومَضَوا عليه واعتقَدْناه بَعْدَهم وأفتَيْنا به لا نحيدُ عنهم بوَجهٍ، وهو رأيُ أمير المؤمنين ورأيُ الأئمَّةِ آبائه؟! فقال لهم محمَّدُ بن يحيى: ناشَدْتُكم اللهَ العظيمَ! ألم تنـزِلْ بأحدٍ منكم مُلِمَّة بلغت بكم أن أخَذْتُم فيها بغيرِ قَولِ مالكٍ في خاصَّةِ أنفُسِكم، وأرخَصْتُم لأنفُسِكم في ذلك؟ قالوا: بلى! قال: فأميرُ المؤمنين أَولى بذلك، فخُذوا به مأخَذَكم، وتعلَّقوا بقولِ من يوافِقُه من العُلماءِ، فكلُّهم قدوةٌ، فسكتوا، فقال للقاضي: أنْهِ إلى أميرِ المؤمنينَ فُتيايَ.

فكتب القاضي إلى أمير المؤمنين بصورةِ المجلِسِ، وبَقِيَ مع أصحابِه بمكانِهم إلى أن أتى الجوابُ بأن يُؤخَذَ له بفُتيا محمَّد بن لبابة، وينفذ ذلك، ويعوِّض المرضى من هذا المجشر بأملاكٍ ثمينةٍ عجيبةٍ، وكانت عظيمةَ القَدْرِ جِدًّا، تزيد أضعافًا على المجشر، ثم جيءَ بكتابٍ من عند أمير المؤمنين منه إلى ابن لبابة بولايَةِ خطَّة الوثائِقِ؛ ليكونَ هو المتولِّي لعَقدِ هذه المعاوَضةِ، فهُنِّئَ بالولاية، وأمضى القاضي الحُكمَ بفتواه وأشهَدَ عليه وانصرفوا، فلم يَزَلِ ابنُ لبابة يتقلَّدُ خطَّةَ الوثائق والشُّورى إلى أن مات سنة ست وثلاثين وثلاثمائة».

قال الشاطبي: «فتأمَّلوا كيف اتِّباعُ الهوى، وأولى أن ينتهيَ بصاحِبِه، فشأنٌ مِثلُ هذا لا يحلُّ أصلًا من وجهينِ: ... الثاني: أنَّه إن سلَّمنا فلا يصِحُّ للحاكِمِ أن يرجِعَ في حُكمِه في أحَدِ القولينِ بالمحبَّةِ والإمارةِ أو قضاءِ الحاجةِ، إنَّما الترجيحُ بالوُجوهِ المعتَبَرة شرعًا، وهذا متَّفَقٌ عليه بين العلماء، فكلُّ من اعتمد على تقليدِ قَولٍ غيرِ مُحقَّقٍ، أو رجَّح بغيرِ معنًى فقد خلع الرِّبقةَ، واستند إلى غيرِ شَرعٍ، عافانا اللهُ من ذلك بفَضْلِه.

فهذه الطَّريقةُ في الفُتيا من جملةِ البِدَعِ المحْدَثاتِ في دينِ اللهِ تعالى، كما أنَّ تحكيمَ العقلِ على الدِّينِ مُطلقًا مُحدَثٌ». [الاعتصام (ص450)].

قلتُ: تأمَّلْ -بارك الله فيك- ما في وَصفِ الشاطبيِّ لهذا الصَّنيعِ باتِّباعِ الهوى، وهو صنيعٌ -واللهِ- بهذا الوَصفِ حقيقٌ، وكم في عَصْرِنا هذا من نماذِجَ وصُوَرٍ لهذا المفتي، فأصبح كثيرٌ من المتكَلِّمين في مسائِلِ الفقهِ غايَةُ مَرامِه أن يحكي أقوالَ الفُقَهاءِ، حتى الشاذَّ منها، ثم يُمَيِّع قضيَّة الفتوى ويدَعَ للسَّائِلِ الحريَّةَ في اختيار ما يهواه قَلْبُه دون تنبيهٍ إلى الكِتابِ والسُّنَّة وما يفيدانِه في هذه المسألةِ محَلِّ السُّؤالِ، وهذا يفعَلُه إمَّا لجَهْلِه بالقَولِ الحَقِّ الذي دلَّ عليه النَّصُّ، وإمَّا لأنَّه من المبتَدِعة الذين لا يرفَعونَ بالسُّنَّةِ والاتِّباعِ رأسًا. نسألُ اللهَ العافيَةَ.

وهو ما يعبَّرُ عنه الآن بالتَّيسيرِ، فأصبح قضاءُ حوائِجِ النَّاسِ كبارِهم وصغارِهم مَقصَدًا بارزًا أمامَ من يريدُ الفتوى من فُقَهاءِ مَنهَجِ (التَّسليك) المسمَّى: بالتيسيرِ، وفي هذا اعترافٌ ضِمنيٌّ منهم أنَّ الكتابَ والسُّنَّةَ جاءا بالعُسرِ والمشَقَّةِ على النَّاسِ، وهذا خِلافُ مَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ في الفتوى؛ فالتيسيرُ الحقيقيُّ هو تطلُّبُ دَلالاتِ النُّصوصِ الشرعيَّة، والرُّخصةِ التي جاء بها النَّصُّ الشَّرعيُّ، لا التمَلُّصُ من النُّصوصِ بحجَّةِ التيسيرِ على النَّاسِ، فضلًا عن أصحابِ الجاهِ، كما فعل هذا المفتي الذي حكى عنه الشَّاطبيُّ، ولو تأمَّلْنا ما فعله ابنُ لبابة مع الأميرِ لعرَفْنا أنَّه يَحدُثُ الآن لكن لصالحِ وُجَهاءَ آخَرينَ؛ كالأُمَراءِ وأصحابِ القَنَوات الفضائيَّة والأثرياءِ من مُلَّاكِ الشَّرِكاتِ، وكذلك بعض الأنظِمَة الحاكِمةِ والوُزَراء، كلُّ هؤلاء أصبحوا لا يَعدَمون فقيهًا أو جِهةً مُعَيَّنةً مُهِمَّتُها (تبليع) النَّاسِ ما لا يُبلَعُ من الأقوالِ الشَّاذَّةِ والفتاوى المخالِفةِ للنُّصوصِ بل الإجماعِ أحيانًا، فقط لأنَّ شَخصًا في أعماقِ التاريخِ قال بقولٍ يخالِفُه هو معذورٌ فيه؛ لأنَّه لم يبلُغْه نصٌّ، أو لعَلَّه مخالِفٌ لهواه، فيكونُ هذا حُجَّةً على كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأقوالِ المئات من أئمَّةِ العِلمِ والدِّينِ على مَرِّ العُصورِ!

 

واللهُ المستعانُ، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ.