مقالات وبحوث مميزة

الفتوى ومسألة الحرية

 
الشيخ الدكتور محمد بن إبراهيم السعيدي
 
1 شعبان1431هـ
 
 
الحرية بدلالتها المصطلحية ماسونية الأصل غربية الولادة والمنشأ، وقد وردت إلينا مثقلة بدلالاتها العقدية والاجتماعية والسياسية بحيث أصبح نقلها إلى دلالات أخر لم يجمعها بها أصل ولا منشأ شبه متعذر إلا إذا قبلنا تشويه المدلولات المعهودة لنا بحشرها تحت مظلة هذا المصطلح الغريب في دلالته على ثقافتنا، وإن لم يكن غريبا من حيث تكوينه اللغوي.
 
جاء إلينا هذا المصطلح كالزيت الساخن الذي يشوه كل ما يغمس فيه، ورغم ذلك فقد سارعنا إلى غمس أجمل ما لدينا داخله دون أن نلتفت إلى حجم ما يلحقه ذلك فيها من أضرار.
أصبحنا نكرر دون أن ندرك تماما ما نقول: حرية العقيدة،حرية الفكر, حرية التعبير, حرية الرأي، حرية المرأة، حرية الاقتصاد .
 
حاول بعض المفكرين منذ مطلع القرن الحديث استغلال هذا البريق المنطلق من هذا المصطلح للدعوة إلى الإسلام فنادوا لأجل ذلك بأن الإسلام دين الحرية أو أن الإسلام جاء بالحرية، لكن هذا النداء لم يكتب له الرواج كأسلوب للدعوة إلى الإسلام، لأن المستهدف بهذه الدعوة يفهم هذا المصطلح على وجه لا يمكن أن ينطبق على الإسلام أبدا.
لن ينطبق على الإسلام حتى لو أضفنا اشتراط الضوابط لتكون الحرية إسلامية، لأن تلك الضوابط سوف تكثر وتكثر حتى لا يمكننا أن نصدق إلا مجاملة لأنفسنا أن الحرية تتفق مع الإسلام.
 
وصل تشويه مصطلح الحرية إلى الفتوى التي هي في الأصل اجتهاد في الإخبار عن مراد الله تعالى من أحكام تكليفية على أفعال العباد، ومع ذلك أصابتها في أيامنا الأخيرة آفة الحرية، فأصبحنا نسمع عن حرية الفتوى، أي حرية القول على الله تعالى، وحرية التقدم بين يدي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكنت أسمع مثل هذه الدعوى من بعض الكتاب في صحافتنا والصحافة العربية ولم أكن أقابلها بأكثر من زم الشفتين والدعاء لهم بالهداية، لكنني اليوم أصبحت أقرؤها في بعض الكتابات التي تنحوا منحى العلمية والتأصيل،وفي كثير من تفاعلات القراء على ما يكتبه العديد ممن ينادون بضبط الفتوى في أيامنا هذه.
 
من هنا بدا لي أن مصطلح الحرية بحمولته الماسونية وصل في فكرنا المعاصر إلى حد ينبغي أن ينتبه إليه، فقد وصل إلى حيث لا ينبغي أن يصل.
إن الحرية لم ترد في مصادر الإسلام إلا في مقابل الرق ولم ترد أبدا في معناها الذي نروجه اليوم لها، بل إن هذا المعنى الذي ندعمه جميعا اليوم للحرية لا يمكن أن ينسجم مع ما جاء به الدين من تفاصيل تقيد حياة العبد من حين يستيقظ إلى أن ينام مرة أخرى، بل حتى في أثناء نومه ربما نقول إن أحكام الشريعة لا تفك مرتبطة به.
 
فالإنسان مستعبد لله تعالى اضطرارا والمسلم مستعبد له اختيارا، هذا هو المعنى الذي ينبغي أن نقرره وننطلق في فهمنا للحياة من خلاله، فالمسلم عبد لله في عقيدته وفكره ورأيه، رجلا كان أم امرأة، لا فكاك للرجل عن عبودية المولى عز وجل كما لا فكاك للمرأة.
 
والفتوى أخص من ذلك فهي في ذاتها عبادة لله عز وجل كالصلاة والزكاة والصوم والحج، وهي فرض عين على من تعينت عليه وفرض كفاية على من تأهل لها وحرام على من ليس كذلك.
إن شأن العبادات أن تستكمل شرائطها وهي لوازم صحتها التي تسبقها، وأركانها وهي لوازم صحتها التي تصاحبها، وواجباتها وهي أجزاؤها التي تتكون منها، ومن تعمد أداء العبادة دون تحصيل الشرائط وإقامة الأركان والواجبات فقد ارتكب إثما ووطئ حراما، كما أن للعبادة أيضا أوقاتها التي لا تصح في غيرها.
 
ولا تختلف الفتوى عن أخواتها من العبادات في شئ من ذلك أبدا، فلها شرائط وأركان وواجبات وسنن وآداب يعرفها كل من درس الفتوى واتقى الله في أدائها.
فمن أداها ولم يستكمل شرائطها فهو كالمصلي على غير طهارة أو الصائمة في وقت العذر لا يحصلان مما فعلا إلا معصية لا يلغيها عنهما إقامتهما لتلك العبادة صحيحة الظاهر في أعين الناظرين.
 
وكل تلك القيود تنافي مقالة اللاهجين بحرية الفتوى، المستطيلين عليها دون قيود أو حدود.
بل ثمة قيد مهم قد يخفى على بعض  المحصلين لشيء من مقومات الفتوى، ألا وهو الحكمة في بيان العلم وحساب مآلات الخطاب ولوازمه، فإذا كان الناس على خير واجتماع على فتوى صحيحة فليس من الحكمة بل ليس من الدين أن تفرق جمعهم وتشيع الفوضى بينهم من أجل رأي رأيته يخالف ما انطوت عليه صدورهم وتقبله سائرهم إلا عند من اختصك بالسؤال وطلب منك المشورة فلك أن تحيله إلى رأي الكافة ولك أن تخبره بما توصل إليه اجتهادك إن كنت من أهل الاجتهاد، دون أن تتكلف إشاعة الفوضى ومصادمة الناس، هذا فيمن استكمل شرائط الفتوى وأركانها، وللسلف في ذلك أخبار عجيبة لعلي أفرد لسردها مقالا خاصا، وقد بلغ من عنايتهم بهذا الملحظ أن يقول علماؤهم: قد يكون من السنة ترك السنة، وقد شرح ذلك ابن تيمية رحمه الله في القواعد النوارنية بأن ترك بعض السنن أولى من فعلها إن رأى المفتي أن في إظهارها شئ من مفاسد الفرقة والضوضاء، قال رحمه الله عند حديثه عن خلاف العلماء في البسملة في الصلاة: (ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات، لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبي تغيير بناء البيت لمارأى في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر، ثم صلى خلفه متما وقال: الخلاف شر).
 
وكما أن الخلاف شر في نص ابن مسعود رضي الله عنه، فإن استبدال الحديث عن تمحيض الاستعباد لله تعالى بالحديث عن الحرية والتغني بها شر أيضا والله المستعان.