مقالات وبحوث مميزة

 

 

الاحتجاجُ بالخِلافِ: ديانةٌ أم مخادعةٌ لله؟!

 الشيخ الدكتور سعد بن مطر العتيبي

 

سألني أحدُ الأشخاصِ عن حُكمِ مسألةٍ ما، فأجبتُه بما يقتضيه الدليلُ، وقرنتُ الجوابَ بدليلِه، فبادرني سائلًا: هل المسألةُ متَّفَقٌ عليها أو أنَّ فيها خلافًا؟ قلتُ، وقد أدركتُ مُبتغاه: وماذا يفيدُك الجوابُ؟ قال: إن كان فيها خلافٌ سيكونُ أسهَلَ عليَّ!

وبالتأكيدِ ليس هذا الشخصُ فريدًا في فكرتِه هذه، بل قد ظهَرَت بين صفوفِ المنتَسِبين للاستقامةِ الظَّاهرةِ فكرةُ البَحثِ عن آراءِ الفُقَهاءِ التي فيها تسهيلٌ في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ بغَضِّ النظَرِ عن مدى ثُبوتِها بالأدِلَّةِ الشَّرعيةِ، بل، ومع العلمِ أحيانًا بكونِها مصنَّفةً ضِمنَ الشُّذوذِ الفِقهيِّ الصَّارخِ! والمؤسِفُ حقًّا أن يتبنى بعضُ هؤلاء العَمَلَ بها، وإن جاءت على خلافِ الدَّليلِ الصَّحيحِ الصَّريحِ، بل وتطبيعَها والدِّفاعَ عنها، كلُّ ذلك استنادًا إلى وجودِ خلافٍ في المسألةِ!

ومن هنا فَتَن هؤلاء بعضَ العوامِّ؛ لظُهورِ الترَخُّصِ في بعضِ الأحكامِ الظَّاهرةِ لدى المطَبِّقين لهذه الفِكرةِ التبريريَّةِ مِن الرِّجالِ والنِّساءِ.. فتسَبَّب هؤلاء في ارتكابِ المخالفةِ بغيرِ دليلٍ مِن الشرَّعِ، وبين صدِّ المتَّبِعين للدَّليلِ الشَّرعيِّ مِن العوامِّ عنه.

وتكمُنُ الخطورةُ المنهجيَّةُ في هذا المسلَكِ في ابتغاءِ الآراءِ بمَعزِلٍ عن أدِلَّتِها، وجَعْلِ الخِلافِ ذاتِه دليلًا على المشروعيَّةِ! وهذا -لا شكَّ- انحرافٌ منهجيٌّ، يقع فيه بعضُ المتفَقِّهةِ فَضلًا عن غيرِهم من الباحثين عن التخفيفِ مِن أيِّ طريقٍ كان. فمِمَّا لا يخفى على صِغارِ طَلَبةِ العِلمِ أنَّ الخِلافَ ليس معدودًا في الأدِلَّةِ الشرعيةِ، لا المتَّفَقِ عليها، ولا ما يُعبَّرُ عنها بالمختَلَفِ فيها. بل النصُّ الشَّرعيُّ ظاهِرٌ واضِحٌ صريحٌ في حصرِ الرُّجوعِ في حالِ النزاعِ إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ، في مِثلِ قَولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}.

بل إنَّ مما اختصَّ به العلماءُ في النصيحةِ لهم، الواردةِ في قولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الدِّينُ النَّصيحةُ. قلنا: لِمن؟ قال: للهِ ولكتابِه ولرَسولِه ولأئمَّةِ المسلمين وعامَّتِهم))، كما يقولُ ابنُ رجبٍ رحمه الله: "ردُّ الأهواء المضِلَّةِ بالكتابِ والسُّنَّةِ على موردِها، وبيانُ دلالتِهما على ما يخالِفُ الأهواءَ كلَّها، وكذلك ردُّ الأقوالِ الضَّعيفةِ من زلَّاتِ العُلَماءِ، وبيانُ دَلالةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ على ردِّها"(1).

وهذا الانحرافُ بجَعلِ الخلافِ في منزلةِ الدَّليلِ الذي أخذ يستشري اليومَ بين بعضِ المتفَقِّهةِ، ليس انحرافًا جديدًا، بل قد نبَّه إلى خطورتِه ومنافاتِه للشَّريعةِ الرَّبَّانيةِ عددٌ من المحقِّقين من أهلِ العِلمِ؛ فقد قال العلَّامة الباجي المالكي -رحمه الله- مُنكِرًا تكَرُّرَ مِثلِ هذا الانحرافِ لدى المستفتِين بسَبَبِ ضَعفِ إنكارِه: "وكثيرًا ما يسألُني من تقع له مسألةٌ من الأيمانِ ونحوِها: لعلَّ فيها روايةً؟  أو لعلَّ فيها رخصة؟ وهم يرون أنَّ هذا من الأمورِ الشائعةِ الجائزةِ! ولو كان تكَرَّرَ عليهم إنكارُ الفُقَهاءِ لمثل هذا، لما طولبوا به ولا طلبوه مني ولا من سِواي، وهذا ممَّا لا خِلافَ بين المسلمين ممن يُعتدُّ به في الإجماعِ أنَّه لا يجوزُ ولا يسوغُ ولا يحلُّ لأحدٍ أن يُفتيَ في دينِ اللهِ إلَّا بالحَقِّ الذي يَعتَقِدُ أنَّه حقٌّ، رَضِيَ بذلك من رَضِيه، وسَخِطَه من سَخِطَه، وإنَّما المفتي مخبِرٌ عن اللهِ في حُكمِه، فكيف يخبِرُ عنه إلَّا بما يعتَقِدُ أنَّه حكَم به وأوجبه، واللهُ تعالى يقولُ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة 49]. فكيف يجوزُ لهذا المُفتي أن يُفتيَ بما يشتهي؟! أو يُفتي زيدًا بما لا يفتي به عَمْرًا؛ لصداقةٍ بينهما، أو غيرِ ذلك من الأغراضِ؟! "(2).

وقال العلَّامةُ الشاطبيُّ رحمه الله، في فَصلٍ عَقَده في الموضوعِ بعد تعقيبِه على كلامِ الباجي: "وقد زاد هذا الأمرُ على قَدرِ الكفايةِ، حتى صار الخلافُ في المسائل معدودًا في حُجَجِ الإباحةِ! ووقع فيما تقدَّم وتأخَّر من الزَّمانِ: الاعتمادُ في جوازِ الفِعلِ على كونِه مختلَفًا فيه بين أهلِ العِلمِ! لا بمعنى مراعاةِ الخِلافِ؛ فإنَّ له نظرًا آخَرَ، بل في غيرِ ذلك، فربما وقع الإفتاءُ في المسألةِ بالمنعِ، فيُقال: لِمَ تمنَعُ، والمسألةُ مختَلَفٌ فيها؟ فيجعَلُ الِخلافَ حُجَّةً في الجوازِ لمجَرَّدِ كونِها مختلفًا فيها، لا لدليلٍ يدلُّ على صِحَّةِ مَذهَبِ الجوازِ، ولا لتقليدِ مَن هو أَولى بالتقليدِ من القائِلِ بالمنعِ، وهو عينُ الخطَأِ على الشَّريعةِ؛ حيث جعل ما ليس بمعتَمَدٍ مُعتَمَدًا، وما ليس بحُجَّةٍ حجَّةً"(3). ثمَّ أورد نقلًا عن الخطَّابي جاء فيه: "وليس الاختِلافُ حُجَّةً. وبيانُ السُّنَّة حُجَّةٌ على المختلفينَ [يعني فيما أورده من المسائِلِ التي اختلف فيها] من الأوَّلِين والآخِرين". ثم قال الشَّاطبيُّ رحمه الله: "والقائِلُ بهذا راجِعٌ إلى أن يتَّبِعَ ما يشتهيه، ويجعَلَ القَولَ الموافِقَ حُجَّةً له ويدرَأَ به عن نفسِه؛ فهو قد أخذ القَولَ وسيلةً إلى اتِّباع هواه، لا وسيلةً إلى تقواه، وذلك أبعَدُ له من أن يكونَ ممتثلًا لأمرِ الشَّارع، وأقربُ إلى أن يكونَ ممَّن اتَّخَذ إلهه هَواه"(4).

وقال الشاطبيُّ رحمه الله مبيِّنًا بعض دعاوى هؤلاء: ((ويقولُ: إنَّ الاختلافَ رحمةٌ، ورُبَّما صرَّح صاحِبُ هذا القَولِ بالتشنيعِ على من لازم القَولَ المشهورَ، أو الموافِقَ للدَّليلِ، أو الرَّاجِحَ عند أهلِ النَّظَرِ، أو الذي عليه أكثرُ المسلمين، ويقولُ له: لقد حجَّرت واسِعًا، ومِلْتَ بالناسِ إلى الحَرَجِ، وما في الدِّينِ مِن حرَجٍ! وما أشبَهَ ذلك. وهذا القولُ خطأٌ كلُّه، وجَهْلٌ بما وُضِعَت له الشريعةُ. والتوفيقُ بيدِ اللهِ"(5).

وقد قسَّم رحمه الله الآخذينَ بهذا المنهجِ المنحرِفِ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:

الأوَّلُ: الحاكِمُ به، والثاني: المفتي به، والثالثُ: المقلِّدُ العامِلُ بما أفتاه به المفتي. ثمَّ بَيَّن حُكمَ كلِّ قِسمٍ؛ إذ قال: "أمَّا الأوَّلُ، فلا يصِحُّ على الإطلاقِ؛ لأنَّه كان متخيِّرًا بلا دليلٍ، لم يكُنْ أحَدُ الخَصمينِ بالحُكمِ أَولى من الآخَرِ؛ إذ لا مُرَجِّحَ عنده بالفَرْضِ إلَّا التشَهِّي...

وأمَّا الثَّاني، فإنَّه إذا أفتى بالقولين معًا على التخييرِ فقد أفتى في النازلةِ على الإباحةِ، وإطلاقِ العِنانِ، وهو قَولٌ ثالِثٌ خارجٌ عن القولينِ، وهذا لا يجوزُ إن لم يكُنْ يبلُغُ درجةَ الاجتهادِ بالاتِّفاقِ، وإن بَلَغها لم يَصِحَّ له القولان في وقتٍ واحدٍ ونازلةٍ واحدةٍ أيضًا، حَسَبَما بسطه أهلُ الأصولِ.

وأيضًا، فإنَّ المفتي قد أقامه المستفتي مقامَ الحاكِمِ على نفسِه، إلَّا أنَّه لا يُلزِمُه المفتي ما أفتاه، فكما لا يجوزُ للحاكِمِ التخييرُ، كذلك هذا.

وأمَّا إن كان عاميًّا، فهو قد استند في فتواه إلى شهوتِه وهواه، واتِّباعُ الهوى عينُ مخالفةِ الشَّرعِ، ولأنَّ العاميَّ إنَّما حكَّم العالِمَ على نفسِه؛ ليخرُجَ عن اتِّباعِ هواه؛ ولهذا بُعِثَت الرُّسُلُ وأُنزِلَت الكُتُبُ؛ فإنَّ العبدَ في تقلُّباتِه دائِرٌ بين لَمَّتين: لَمَّةِ ملَكٍ، ولَمَّةِ شيطاٍن؛ فهو مخيَّرٌ بحكمِ الابتلاءِ في الميلِ إلى أحَدِ الجانبينِ، وقد قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}، {وَهَدَيْنَهُ النَّجْدَيْنِ}...   

ثمَّةَ قَضيَّةٌ أُخرى ينبغي مراعاتُها في هذا الموضوعِ؛ حتى لا تختَلِطَ به، وهي الفَرقُ بين الطرائِقِ الشرعيةِ في الفتوى، التي يَسلُكُها المفتي الناصِحُ، مُراعيًا فَهْمَه للوقائِعِ الخاطِئةِ وطبيعةِ انتِشارِها، والآلياتِ التي تؤدِّي إلى الحُكمِ الصَّحيحِ، وأعني بذلك فِقْهَ التدَرُّجِ في التطبيقِ، لا التدَرُّجِ في التشريعِ؛ إذ إنَّ التدَرُّجَ في التشريعِ قد انتهى زمَنُه بانقطاعِ الوَحيِ، فالحلالُ حَلالٌ والحرامُ حرامٌ منذ نزل به الوحيُ، إلا أنَّ الحرامَ قد يحتاجُ إلى تدَرُّجٍ في سبيلِ الخَلاصِ منه، كالفتوى لمن ابتُلِيَ بالتدخينِ بأن يقَلِّلَ منه في بدايةِ عَزْمِه على التخَلُّصِ منه؛ حتى لا يثقُلَ عليه تركُه، فيَفشَلَ في تركِه والانقطاعِ عنه؛ فهذه السَّبيلُ في الفتوى تُبقي المحرَّمَ محرَّمًا، وتسعى في الخلاصِ منه بالتدَرُّجِ في التخَلِّي عنه؛ لسَبَبٍ يخصُّ المسألةَ محلَّ الفتوى، ويشهدُ للتدرُّجِ في التطبيقِ: نصوصُ التدَرُّجِ في التشريعِ، مع بقيَّةِ أدلَّةِ الأمرِ بالمستطاعِ؛ مِن مِثلِ قَولِ اللهِ تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }، ومن السُّنَّةِ مِن مِثلِ قَولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الصحيحِ: ((دَعُوني ما تركتُكم؛ إنَّما أهلك من كان قَبْلَكم سُؤالُهم  واختِلافُهم على أنبيائِهم، فإذا نهيتُكم عن شيءٍ فاجتَنِبوه، وإذا أمرتُكم بأمرٍ فأْتُوا منه ما استطعْتُم)).

نسألُ اللهَ تعالى الثَّباتَ على الحَقِّ، مهما خالفه الخَلْقُ.

واللهُ تعالى أعلَمُ، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّدٍ وآلِه.

 

--------------------------------------

(1) جامع العلوم والحكم، لابن رجب: 1/97.

(2) نقلًا عن الشاطبي في الموافقات:5/90-91.

(3) الموافقات: 5/ 92-93.

(4) الموافقات: 5/93-94.

(5) الموافقات: 5/94.