مقالات وبحوث مميزة

 

 

حتَّى لا نَعرِضَ مشاريعَنا للتقبيلِ

 الشيخ عبد اللطيف الثبيتي


 

لم يَعُدْ مُلفِتًا أن نرى محلًّا قد عُلِّق عليه إعلان (للتقبيل)، فقد كثُرَت هذه الإعلاناتُ حتى صار من يعَلِّقُها يتمثَّل ببيت الخنساءِ الشهير:

وَلَوْلا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي ......... عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي

هذا الإعلانُ في حقيقتِه يمَثِّلُ ترجمةً مهَذَّبةً أو مراوغةً لكلمةِ "فشل"، ولا يغيِّر من ذلك أن تلحَقَ به العبارةُ المعتادة (لعدم التفَرُّغ)!

والواقِعُ أنَّ ظاهرة (عروض) التقبيل، أو الفشل، لم تَقِف عند حدودِ التِّجارة، بل تجاوزَتْها إلى سائِر المجالاتِ؛ سواءٌ كانت عِلميَّةً أو اجتماعيَّةً أو غيرهَا، وإن كانت فرصةُ التقبيل لا تتوفَّرُ إلَّا في سوقِ التجارةِ، فهناك مشاريعُ زواجٍ فاشلةٌ، ومشاريعُ استشفاءٍ فاشلةٌ، ومشاريعُ طَلَب عِلمٍ فاشلةٌ، والقائمةُ طويلةٌ!

والسؤالُ هنا: لماذا فَشِل هؤلاء؟

الأسبابُ متنوِّعة، لكن هناك سببٌ يتكرَّر في أكثَرِ الصُّوَر، إنَّه عدمُ احترامِ مبدأِ التدَرُّجِ.

قِلَّةٌ هم الذين يلتزمون بهذا المبدأ، أمَّا البقيَّةُ فيعتبرونه ترفًا وتضييعًا للوقتِ، ولذلك تكثُرُ المشاريعُ المعَطَّلة، أو التي هجرها أصحابُها، وأحيانًا إلى النقيضِ!

وتلك نتيجةٌ حَتميَّةٌ لمن يسعى لبناءِ دورٍ خامسٍ لبنايةٍ لم يُكمِلْ بَعْدُ دورَها الأوَّلَ!

جنونٌ لا يمارسه أحدٌ في الماديَّات، لكِنَّه يمارَسُ بكثرةٍ في التفكيرِ، وينعَكِسُ بعد ذلك فشلًا على الأرضِ.

سُنَنُ الكون تؤكِّدُ على قيمة التدَرُّجِ؛ فالتحَوُّلُ بين الفصولِ، وبين اللَّيلِ والنَّهارِ، وبين حالاتِ المادَّةِ -على سبيلِ المثال- يقومُ على التدَرُّجِ، وانتقالُ الإنسانِ عَبْرَ المكان وعَبْرَ الزَّمان لا يتمُّ بدونِه.

ولا تكادُ تجِدُ مجالًا لا يُحتَرَمُ فيه هذا المبدأُ، لكِنَّك تجد في المقابلِ من يظُنُّ أنَّ بإمكانِه حَرْقَ كُلِّ محطاتِ التدَرُّجِ، والوصولَ لِما يريدُ في طرفةِ عَينٍ!

أغلَبُنا يحترم مبدأَ التدَرُّجِ في رياضةِ بناء الأجسامِ -على سبيل المثال- لكِنْ كم هم الذين يحترمونه في رياضةِ النَّفسِ؟!

التدرجُ وسيلةٌ ذكيَّةٌ للوُصولِ إلى الهَدَفِ، وبدونه نصطَدِمُ بواقعٍ نَعجِزُ عنه.

في التغييرِ من السَّيِّئ للحَسَن، سواءٌ على مستوى الفَردِ أو الأُسرةِ أو المجتَمَعِ- يولِّد القرارُ الحادُّ رِدَّةَ فِعلٍ حادةً، قد تكون نتيجتُها إيقافَ مشروعِ التغييرِ؛ لذلك لا بُدَّ من تخفيفِ الشُّعورِ بالتغييرِ عن طريقِ التدَرُّجِ.

لا توضَعُ الرُّؤيةُ مَوضِعَ التنفيذِ دفعةً واحدةً، وإنما يؤخَذُ المجتَمَعُ بالترَقِّي تدريجيًّا.

وواقعُنا المعاصِرُ حافِلٌ بمشاريعَ ناجحةٍ كان من ضِمنِ المبادئ التي التزمَتْها التدرُّجُ في العَمَلِ، والسيرُ بخُطواتٍ محسوبةٍ؛ كالصِّرافةِ الإسلاميَّةِ، والإعلامِ الإسلاميِّ.

وفي مقابِلِ الاستفادةِ من مبدأ التدَرُّجِ ينبغي التنبُّهُ لمنعِ أيِّ مشروعٍ إفساديٍّ من تمريرِ نَفْسِه تحت غطاءِ التدَرُّجِ، وذلك بكَشْفِه وعرقلتِه مع أوَّلِ خُطوةٍ.

والتاريخُ المعاصِرُ يشهدُ أنَّ دُعاةَ التغريبِ قد استفادوا من التدَرُّجِ في تمريرِ كثيرٍ من مشاريعِهم عن طريقِ خلخلة الوَضعِ القائِمِ، وإزالته شيئًا فشيئًا، وتوطينِ النموذَجِ المستورَدِ مكانَه.

فالحجابُ مثلًا كان يشمَلُ تغطيةَ الوَجهِ في كلِّ العالمِ الإسلاميِّ إلى ما قبل عام 1924م - 1342هـ(1)، ثم بدأ الضَّغطُ العلمانيُّ عليه تدريجيًّا إلى أن كُشِفَت دائرةُ الوجهِ، ثم أُسقِطَ الحجابُ كُليًّا، وها نحن اليومَ نرى الأمرَ قد تحوَّل في بَعضِ البلدانِ العربيَّةِ من الدِّفاعِ عن التبَرُّجِ إلى إعلانِ الحرب صراحةً على الحِجابِ!

 

------------------------------

[1] هل يكذب التاريخ، عبد الله الداود، ص 64.