مقالات وبحوث مميزة

 

أسمارُ "النَّقدِ التَّاريخيِّ"، وزخارفُ "البحثِ العِلميِّ".

قِراءةٌ نَقْديَّةٌ لمقالةِ الأسْتاذِ عَبْدِ اللهِ الغِزِّيِّ
عن صِفةِ الكَلامِ للباري سُبْحانَه.

الحَلْقةُ الثَّامِنةُ

((الطَّريقُ إلى مذاهِبِ السَّلَفِ وأهلِ الحديثِ))

الشَّيخُ الدُّكتور بَنْدر بن عبدالله الشُّويقيُّ

18 جمادى الثانية 1444هـ

 

كما ذكَرتُ في الحلقةِ السَّابقةِ، فهذا أوانُ الشُّروعِ في الكلامِ عن مذهَبِ أحمدَ وأهلِ الحديثِ في صفةِ الكلامِ للهِ سُبحانه وتعالى. لكنْ قبلَ الدُّخولِ لذلك أودُّ الإشارةَ إلى أمرينِ اثنينِ:

الأمرُ الأوَّلُ:

القارئُ المتابعُ لهذه السِّلسلةِ يتذكَّرُ ما جرى بعدَ نشرِ حلقتِها الأولى، لَمَّا ذكرْتُ فيها أنَّ الأستاذَ الغِزِّيَّ ينسُبُ للإمامِ أحمدَ القولَ بقِدَمِ القرآنِ، حينها كتب الأستاذُ غاضبًا مُنْكِرًا مُهدِّدًا برفعِ دعوى قضائيَّةٍ؛ لأنِّي -بزعمِه- أسأتُ إليه إساءةً بالغةً، وشوَّهتُ طرحَه العِلميَّ! وكان يقولُ آنذاك: إنَّه لم يُقَرِّرْ أيَّ رأيٍ، وإنما كان فقط يطرحُ استشكالاتٍ يطلبُ الجوابَ عنها.

الجديدُ الآنَ: أنَّ الأستاذَ عادَ ليؤكِّدَ ما جحده بالأمسِ! فقد كتب قبلَ أُسبوعينِ منشورًا في قناتِه على (تيليجرام) قال في مَطلَعِه: "قولُ ابنِ تيميَّةَ في (القِدَمِ النَّوعيِّ) لا سلَفَ له فيه من مجتَمَعِه الحَنبليِّ، وهذه حقيقةٌ تاريخيَّةٌ، ولیست مجرَّدَ وِجهةِ نَظَرٍ"!

 يضيفُ الأستاذُ: "ومَن زعَم أنَّ ابنَ حنبلٍ يقولُ بالقِدَمِ النَّوعيِّ فهو -باختصارٍ- شخصٌ يتعمَّدُ الكَذِبَ، أو شخصٌ يجهَلُ ابنَ حَنْبلٍ ونصُوصَه، فيكفي أن تعرِفَ أنَّ ابنَ حَنْبلٍ وصَف داودَ الأصفهانيَّ بـعدوِّ اللهِ؛ لأجلِ قولِه بأنَّ (القرآنَ مُحدَثٌ)، ومجرَّدُ هذه القصَّةِ -وهي ثابتةٌ- تنسِفُ سرديَّةَ مجتَمَعِك التي لا تدُلُّ عليها النُّصوصُ المتقَدِّمةُ، فكيف إذا نظَر إلى بقيَّةِ نصوصِ ابنِ حنبَلٍ الأخرى التي تعارِضُ مذهَبَ ابنِ تيميَّةَ في صفةِ الكلامِ".

هذا ما قاله الأستاذُ -أقال اللهُ عثَراتِه-، فلا يزالُ قلَمُه يتفلَّتُ ليُظهِرَ حقيقةَ ما يَجهَدُ في إمرارِه على القارئِ؛ فهو الآن يُعلِنُ أنَّ الذي ينسُبُ لأحمدَ القولَ بالقِدَمِ النَّوعيِّ: (أنَّ اللهَ لم يَزَلْ يتكلَّمُ متى شاء)، من ينسُبُ لأحمد هذا فهو عندَ الأستاذِ إمَّا مُتعَمِّدٌ للكَذِبِ على أحمدَ، أو جاهلٌ بنصوصِه؛ فالأستاذُ يطرحُ هنا حُكمًا جازمًا، لا مجرَّدَ استشكالاتٍ تُريدُ جوابًا.

ودليلُ الأستاذِ الأكبرُ الذي ذكَره مُستبشِرًا به: أنَّ الإمامَ أحمدَ أنكَر على داودَ الأصفهانيِّ قولَه: (إنَّ القرآنَ محدَثٌ).

سيأتي معنا -بحولِ اللهِ- بيانُ موقِفِ أحمدَ من داودَ، وخطَأِ الأستاذِ في فهمِه، لكِنَّ الغَرَضَ هنا أنَّ صاحبَنا يفهَمُ منه أنَّ أحمدَ -رحمه اللهُ- كان يُنكِرُ القولَ بحدوثِ وتجدُّدِ التَّكلُّمِ من اللهِ سُبحانَه؛ مما يعني بداهةً القَولَ بقِدَمِ الكلامِ، فالقِدَمُ والحدوثُ نقيضانِ لا يرتفعانِ، فمن أبطلَ أحدَهما فهو قائلٌ بالآخَرِ(1)، فلعلَّ الأستاذَ ينظُرُ الآنَ في رفعِ دعوى قضائيَّةٍ ضِدَّ نفسِه التي صارت الآن تشارِكُ في الإساءةِ إليه، وفي تشويهِ طرحِه العِلميِّ المتميِّزِ!

الأمرُ الثَّاني:

قال الأستاذُ في منشورِه: "من زعَم أنَّ ابنَ حنبلٍ يقولُ بالقِدَمِ النَّوعيِّ فهو -باختصارٍ- شخصٌ يتعمَّدُ الكَذِبَ، أو شخصٌ يجهَلُ ابنَ حَنْبلٍ ونصُوصَه".

هذه العبارةُ تعني أنَّ الأستاذَ يرى أنَّ الذي ينسُبُ لأحمدَ (أنَّ اللهَ سُبحانَه لم يَزَلْ متكَلِّمًا متى شاء)، ويأخذُ بظاهِرِ هذه العبارةِ ولا يتأوَّلُها؛ فهو -عندَه- إمَّا شخصٌ يتعمَّدُ الكذبَ على أحمدَ، أو شخصٌ يجهَلُ نصوصَه.

سأُسَلِّمُ للأستاذِ -جَدَلًا- أنْ لا أحَدَ نسب لأحمدَ هذا قبلَ ابنِ تيميَّةَ، فماذا عن ابنِ تيميَّةَ نفسِه؟ وماذا عمَّن جاؤوا بعدَه من الأكابرِ فصرَّحوا بموافقتِه؟ ما موقِعُهم من هذه القاعدةِ الكُلِّيَّةِ التي أطلقها الأستاذُ؟ هل هم كَذَبةٌ فَجَرةٌ؟! أو أنَّهم جَهَلةٌ بنصوصِ الإمامِ أحمدَ؟!

فمِنَ الذين يعرِفُ الأستاذُ أنَّهم يُصَرِّحون بموافقةِ ابنِ تيميَّةَ: ابنُ القَيِّمِ، والذَّهبيُّ، وابنُ كثيرٍ، وابنُ قاضي الجبَلِ، وابنُ رجَبٍ الحنبليُّ، وابنُ المِبْرَدِ، والمَرداويُّ، وغيرُهم كثيرٌ(2). فهؤلاء قطعًا لم يكونوا جاهلين بنصوصِ أحمدَ، فهم لا محالةَ -حسَبَ ميزانِ الأستاذِ- كانوا باختصارٍ "يتعمَّدون الكَذِبَ"!

أتمنى لو يعيدُ الأستاذُ قراءةَ كلامِه هذا في لحظةِ هُدوءٍ وسكينةٍ؛ فربَّما يُوَفَّقُ عندها لإدراكِ أنَّ عامَّةَ مشاكِلِه وخصوماتِه سببُها مثلُ هذه الإطلاقاتِ المتهوِّرةِ؛ فالرَّجلُ يرمي مثلَ هذه المجازفاتِ الرَّعناءِ، ثمَّ إذا رأى ردَّةَ الفعلِ رجَع إلى ارتداءِ ثوبِ المظلوميَّةِ، وأكثَرَ من التَّباكي والتَّشكِّي من مجتَمَعِه الذي يقدِّسُ ابنَ تيميَّةَ، ويجرِّمُ مخالفتَه ولو في أدنى المسائِلِ!

مدخلٌ في قِدَمِ الكلامِ وحُدوثِه:

"لم يَزَلِ اللهُ مُتكلِّمًا متى شاء" ... هذه المقولةُ المأثورةُ عن الإمامِ أحمدَ تعني أنَّ اللهَ سُبحانَه متى شاء أن يتكَلَّمَ تكلَّم، لم تَزَلْ هذه صفتَه سُبحانَه؛ كلَّم آدَم لمَّا خلَقه، وكلَّم الملائكةَ لمَّا أمرَهم بالسُّجودِ، وكلَّم إبليسَ وطرَده من الجنَّةِ، وكلَّم موسى يومَ الطُّورِ، وسيكلِّمُ أهلَ الجنَّةِ يومَ القيامةِ، ولم يزَلْ سُبحانَه كُلَّما أرادَ شيئًا قال له: (كُنْ)، فيكونُ. هذا معنى (القِدَمِ النَّوعيِّ لصِفةِ الكلامِ) الذي ينسُبُه ابنُ تيميَّةَ لأحمَدَ ولأئمَّةِ السَّلَفِ.

وإذا قُلْنا: إنَّ اللهَ سُبحانه يتكلَّمُ متى شاء باختيارِه وإرادتِه، فمعنى هذا أنَّ صفةَ الكلامِ من نوعِ (الصِّفاتِ الاختياريَّةِ) التي يفعلُها أيَّ وقتٍ يشاءُ، مِثلُها مِثلُ صفاتِ: الخَلقِ والرِّزقِ، والمغفرةِ والرَّحمةِ والهدايةِ، ونحوِ ذلك من الصِّفاتِ المعلَّقةِ بالمشيئةِ، فكما أنَّه سُبحانَه يتكلَّمُ بما يشاءُ متى شاء، فهو كذلك يخلُقُ ما يشاءُ إذا شاء، ويرزُقُ من يشاءُ إذا شاء، ويغفِرُ لمن يشاءُ إذا شاء، ويرحَمُ من يشاءُ إذا شاء، ويهدي من يشاءُ إذا شاء.

هذا المُعتَقَدُ الفِطريُّ السَّهلُ الذي تواترت بإثباتِه أدِلَّةُ القرآنِ والسُّنَّةِ ونصوصُ أئمَّةِ السَّلَفِ، هو الذي يزعمُ الأستاذُ أنَّ نسبتَه للإمامِ أحمدَ جَهلٌ أو كَذِبٌ عليه!

يُقابِلُ هذا القولُ الآخَرُ؛ القَولُ بـ (قِدَم كلامِ اللهِ)، وهو المعتَقَدُ الذي ينتصِرُ الأستاذُ لنسبتِه للإمامِ أحمدَ، وتفصيلُ هذا المعتقَدِ كما قدَّمتُ شرحَه في الحلقةِ الثَّانيةِ: أنَّ اللهَ لا اختيارَ له في كلامِه؛ فهو لا يتكلَّمُ بمشيئتِه، ولا يتكلَّمُ في أوقاتٍ يختارُ الكلامَ فيها، بل ليس له إلَّا كلامٌ واحدٌ قديمٌ أزَليٌّ لا اختيارَ له فيه، وليس له كلامٌ بعدَه!

والمقصودُ بالكلامِ الواحِدِ الأزَليِّ: كلامٌ لا يحدُثُ في وقتٍ بعد وقتٍ، ولا يتركَّبُ من جُمَلٍ وكَلِماتٍ وحروفٍ تصدُرُ من اللهِ سُبحانَه في أوقاتٍ متعاقِبةٍ؛ فاللهُ -بزعمِهم- ليس له كلامٌ يتلوه كلامٌ، بل كلامُه واحدٌ لا ترتيبَ فيه ولا تعاقُبَ؛ جُمَلُه وكَلِماتُه لا يسبِقُ بعضُها بعضًا، فلا يتكلَّمُ سُبحانَه بجُملةٍ قبلَ جملةٍ، ولا بكَلِمةٍ قبلَ كَلِمةٍ، ولا بحرفٍ قبلَ حرفٍ، لم يتكلَّمْ بالتَّوراةِ قبلَ الإنجيلِ، ولا تكلَّم بالإنجيلِ قبلَ القرآنِ، ولا تكلَّم بالآياتِ المكِّيَّةِ قبلَ المدَنيَّةِ، ولا تكلَّم بالمنسوخِ قبلَ النَّاسخِ، ولا بالبَسملةِ قبلَ الفاتحةِ، ولا تكلَّم بـ (الحمدُ للهِ) قبلَ (ربِّ العالَمين)، بل حتى حروفُ الكَلِمةِ الواحدةِ ليس فيها ترتيبٌ في صدورِها عن اللهِ؛ فاللهُ -سُبحانَه- قال قديمًا في الأزَلِ: (بسمِ اللهِ) دونَ أن تتقدَّمَ الباءُ على السِّينِ، ولا السِّينُ على الميمِ!!

هذا المعتَقَدُ المُهلهَلُ الملفَّقُ لم ينشأْ يقينًا عن نظرٍ في نصوصِ القرآنِ والسُّنَّةِ، أو في مرويَّاتِ الصَّحابةِ والتَّابعين، بل أصلُه أنَّ أصحابَه قعَّدوا أصلًا كلاميًّا يقولُ: (إنَّ ذاتَ اللهِ القديمةَ لا يجوزُ أن تقومَ بها الحوادِثُ المرتَبِطةُ بالأزمانِ)، ولمَّا كان الكلامُ مرتبطًا بالزَّمانِ؛ لأنَّه يحدُثُ متتابعًا في وقتٍ بعدَ وقتٍ، تَتابَعُ جُمَلُه وتحدُثُ كَلِماتُه وحروفُه في أزمانٍ متعاقبةٍ، فهو إذَنْ من الحوادثِ التي يستحيلُ قيامُها بذاتِ اللهِ سُبحانَه، لمَّا رأوا هذا لجؤوا إلى اختراعِ وتوليدِ كلامٍ من نوعٍ آخَرَ لا ترتيبَ فيه ولا تعاقُبَ بالصِّفةِ التي قدَّمْنا شَرْحَها؛ كي يَسلَموا من القولِ بحلولِ الحوادِثِ في الذَّاتِ القديمةِ، ثمَّ أُلصِقَ هذا التَّلفيقُ بالإمامِ أحمدَ.

ولأجلِ بيانِ خَطَأِ هذه النِّسبةِ للإمامِ أحمدَ، نبدأُ أوَّلًا ببيانِ المدخَلِ المنهَجيِّ الصَّحيحِ الذي أضاعَه الأستاذُ وهو يبحَثُ عن مذاهِبِ أهلِ الحديثِ في كُتُبِ الكلامِ؛ ليتَّضِحَ بذلك الخَلَلُ الذي أدَّى به إلى حالةِ التِّيهِ في شِعَابِ المذاهِبِ الكلاميَّةِ التي نزَّه اللهُ عنها أئمَّةَ أهلِ الحديثِ وأحمدَ.

قاعدةٌ منهجيَّةٌ في معرفةِ عقائدِ السَّلَفِ.

قبلَ سَوْقِ الشَّواهدِ والأدلَّةِ التي تُثبِتُ أنَّ اللهَ سُبحانَه يتكلَّمُ متى شاء، أنَبِّهُ أوَّلًا إلى أنَّ ما سيُذكَرُ هنا من الشَّواهِدِ مع كثرتِه، إلَّا أنَّه لا يعدو أن يكونَ نماذجَ وأمثلةً يتَّضِحُ بها المرادُ، ذلك أنَّ شواهِدَ هذا الأصلِ تبلُغُ المئاتِ ورُبَّما الألوفَ، فهي أكثرُ وأشهرُ من أن تُحْصَر، لا من جهةِ تقريرِها عقيدةً ودينًا، ولا من جهةِ إثباتِ نسبةِ هذا المعتَقَدِ نِسبةً تاريخيَّةً واضِحةً لأحمدَ ولأهلِ الحديثِ قَبلَه.

ومع كثرةِ هذه الشَّواهِدِ، ومع وضوحِ هذه الصُّورةِ وجلائِها، إلَّا أنَّ الأستاذَ الغِزِّيَّ ظلَّ عاجزًا عجزًا تامًّا عن رؤيتِها، وفي تقديري أنَّ ذلك يرجِعُ لسببَينِ اثنينِ:

السَّبَبُ الأوَّلُ: ما تقدَّم تفصيلُه في الحلقةِ الثَّالثةِ من هذه السِّلسلةِ من تعويلِ الأستاذِ في تحريرِ مذهَبِ أهلِ الحديثِ على كتُبِ التَّجهُّمِ والاعتزالِ.

السَّبَبُ الثَّاني: أنَّ الأستاذَ لَبِسَ ثوبًا ليس له حينَ حَرَصَ على الظُّهورِ بصورةِ الباحِثِ العصريِّ المترفِّعِ عن الدُّخولِ في الخلافاتِ العَقَديَّةِ التي يسَمِّيها: "صراعاتٍ طائفيَّةً"، فصار يؤكِّدُ أنَّه غيرُ معنيٍّ بالبحثِ في صوابِ الأقوالِ وخطئِها دينًا ومعتَقَدًا، وإنَّما يريدُ فقط أن يبحَثَ في التَّاريخِ العَقَديِّ للطَّوائفِ والمقالاتِ! وهذه لَوثةٌ أنتجَتْها قراءاتٌ غيرُ واعيةٍ لمؤلَّفاتِ المُستَشرِقين ومن نسَج على منوالِهم؛ فأبحاثُ المُستَشرِقين ومُقلِّديهم كثيرًا ما تتعاملُ مع العقائدِ على أنَّها (جميعًا بلا استثناءٍ) أقوالٌ أنتجها التَّاريخُ، لا يُفَرَّقُ فيها بين حقٍّ وباطلٍ، ولا بين سُنَّةٍ وبدعةٍ، وليس لأيٍّ منها أصالةٌ ولا امتدادٌ تاريخيٌّ مُتَّصِلٌ بزمنِ الوحيِ الذي لم يؤمِنْ به المُستَشرِقُ أصلًا.

فالأستاذُ لمَّا لَبِسَ هذا الثَّوبَ الذي لا يناسِبُ حقيقتَه، صار يتعامَلُ مع مذهَبِ أحمدَ وأهلِ الحديثِ وكأنَّه مذهبٌ انشقَّت عنه الأرضُ زمَنَ أحمدَ أو قريبًا منه، ولم يحاوِلْ أبدًا أن يرفَعَ رأسَه قليلًا إلى الأعلى لينظُرَ إلى الامتدادِ التَّاريخيِّ لمذهَبِ أهلِ الحديثِ الذي أنجب أحمَدَ وأضرابَه، فحتى يبرَأَ الأستاذُ من وَصمةِ "الرِّساليَّة"، وحتى يكونَ بعيدًا عن "الصِّراعاتِ الطَّائفيَّةِ"، خلا بحثُه التَّاريخيُّ من أيِّ نصٍّ مُتقدِّمٍ، سواءٌ من نصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ، أو من آثارِ الصَّحابةِ والتَّابعين وتابِعيهم.

ومع أنَّه كان يُناقِشُ قولًا ينسُبُه ابنُ تيميَّةَ للسَّلَفِ كُلِّهم لا لأحمدَ وحدَهُ، إلَّا أنَّه لَمَّا أرادَ الاعتراضَ على ابنِ تيميَّةَ قال: "إنَّنا يجبُ أن نفحَصَ عن مدى حُضورِ هذا القولِ في المجتَمَعِ الإسلاميِّ في زَمَنِ الإمامِ". وقال: "عندما نتصفَّحُ كتُبَ المتكَلِّمين الذين يعتَنون برَصدِ الخِلافِ العَقَديِّ في مُصَنَّفاتِهم في تاريخِ المقالاتِ والفِرَقِ في القَرنينِ الثَّالثِ والرَّابعِ، فإنَّنا لا نجدُ ذِكرًا لهذا القولِ، وليس له ذلك الحُضورُ الذي نراه مع الأقوالِ الأخرى في صفةِ الكلامِ"(3). فالبَحثُ كان يدورُ حولَ الأقوالِ الحاضرةِ في القرنَينِ الثَّالثِ والرَّابعِ، وأيضًا من خِلال كتُبِ الكلامِ، مع إعراضٍ تامٍّ عن نُصوصِ الوَحيِ، وعن مُعتَقَدِ الطَّبَقاتِ الأعلى التي تبدأُ بالصَّحابةِ فمَن دونَهم إلى أن تتَّصِلَ بزَمَنِ أحمَدَ.

هذا المسلَكُ زيادةً على كونِه مخالفًا لطريقةِ أهلِ العِلمِ والإيمانِ، فهو أيضًا خَلَلٌ منهجيٌّ في البحثِ التَّاريخيِّ؛ فنصوصُ القرآنِ والسُّنَّةِ وآثارُ الصَّحابةِ  مصدرٌ رئيسٌ في البحثِ التَّاريخيِّ مِثلَما هي مصدرٌ في البحثِ الشَّرعيِّ، فحتى لو نُزِعَت عنها صفةُ الحُجِّيَّةِ والقَداسةِ (تنزُّلًا)، فسوف تبقى وثائقَ وشواهدَ تاريخيَّةً تُعبِّرُ عمَّا كانت تعتَقِدُه تلك الطَّبَقاتُ المتقَدِّمةُ، فإذا عُرِفَت مُعتقداتُهم وتحرَّرت، نُظِرَ بعد ذلك في مبدأِ الأقوالِ الحادثةِ الطَّارئةِ بعدَهم، وبهذا يوضَعُ الإمامُ أحمدُ في مكانِه الصَّحيحِ، في سياقِ المذهَبِ الذي ينتسِبُ له وينتمي إليه، لا في سياقِ مذهَبٍ طارئٍ بُنيَ على أُصولٍ أجنبيَّةٍ عن أُصولِ الإمامِ.

هل يعني هذا أنَّ كلَّ ما يفهَمُه أحدُنا من نصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ في جليلِ المسائِلِ ودقيقِها، فهو لا محالةَ قولُ واعتقادُ السَّلَفِ؟

قطعًا ليس هذا المقصودَ، فلا يمكِنُ لأحدٍ أن يدَّعيَ أنَّ فَهْمَه هو لأيِّ نَصٍّ قرآنيٍّ أو نبويٍّ هو عينُ فَهمِ الأوائلِ، لكِنَّ المقصودَ هنا تلك المعاني الظَّاهرةُ الجليَّةُ في نصوصِ الوَحيِ، التي كان الأوائلُ يتلونها ويتديَّنون بها ويتناقَلونها بينهم، دونَ أن يُنقَلَ عنهم حرفٌ واحدٌ في تأويلِها إلى معانٍ تخالِفُ ظواهِرَها؛ فالباحِثُ التَّاريخيُّ الحقيقيُّ متى عَلِم أنَّ تلك النُّصوصَ كانت تُتلى بين ظَهْرانَيْهم، مع اشتمالِها على إثباتِ معتَقَدٍ إثباتًا صريحًا ظاهرًا لا لَبسَ فيه ولا احتمالَ، فلن يحتاجَ مع هذا إلى نقلٍ آخَرَ؛ كي يحكُمَ أنَّ هذا الظَّاهرَ هو دينهُم ومُعتقدُهم.

فمِن خلالِ أدلَّةِ الوحيِ نستطيعُ في بحثِنا التَّاريخيِّ أن نجزمَ بيقينٍ أنَّ طَبقةَ الصَّحابةِ والتَّابعين كانوا يُؤمِنون بالملائكةِ والأنبياءِ والجنِّ، ولا يتأوَّلون حقائقَهم، ويُؤمِنون بالبعثِ والنُّشورِ والحَشرِ، وبالجنَّةِ والنَّارِ، ويُؤمِنون أنَّ اللهَ خَلَق البشَرَ من ذُرِّيَّةِ آدَمَ، ويُؤمِنون بالوجودِ التَّاريخيِّ لعادٍ وثمودَ، وفِرعَونَ وهامانَ وقارونَ، وقومِ سَبَأٍ وأصحابِ الفيلِ، ويُؤمِنون بحُدوثِ الطُّوفانِ، وبنَومةِ أصحابِ الكَهفِ، وانفلاقِ البحرِ لموسى، وانشقاقِ القَمَرِ لنبيِّنا ﷺ، وطولِ عُمُرِ نبيِّ اللهِ نوحٍ، وأنَّ إبراهيمَ أُلقي في النَّارِ فكانت بردًا وسلامًا، وأنَّ إسماعيلَ ابنُ إبراهيمَ، وإبراهيمَ ابنُ آزَرَ، وأنَّ عيسى ابنُ مريمَ، وأنَّ اللهَ خلَقَه من غيرِ أبٍ، وأنَّه كان يُبرِئُ الأكْمَهَ والأبرَصَ، وأنَّه رُفع ولم يُصلَبْ، وأنَّ اللهَ سخَّر لسُليمانَ الرِّيحَ، وألان لداودَ الحديدَ، وأنزل على بني إسرائيلَ مائدةً من السَّماءِ، وأنَّه أغرَق فرعونَ وقومَه، وأهلك عادًا بالرِّيحِ الصَّرصَرِ، وثمودَ بالصَّيحةِ ... نستطيعُ أن نجزِمَ في بحثِنا التَّاريخيِّ أنَّ هذا مُعتَقَدُ الصَّحابةِ والتَّابعين وإنْ لم يُنْقَلْ لنا عن آحادِهم ما يُثبِتُ ذلك، فعِلْمُنا أنَّهم يُؤمِنون بالقرآنِ المصَرِّحِ بهذه الأمورِ، مع معرفتِنا أنَّه لم يُنقَلْ عنهم ما يَصرِفُ هذه الظَّواهِرَ إلى معانٍ مجازيَّةٍ بعيدةٍ: يكفي في إثباتِ أنَّ هذا مُعتقَدُهم ودينُهم وإيمانُهم، ومن تأوَّل أيَّ شيءٍ من ذلك على غيرِ ظاهِرِه، فلا نقولُ له فقط: إنَّه خالف القرآنَ، بل نقولُ: إنَّه أحدثَ قولًا مناقِضًا لمعتَقَدِ السَّلَفِ.

وهكذا الكلامُ في صفاتِ اللهِ تعالى، فمتى تكرَّرت وتتابَعت نصوصُ الوحيِ على إثباتِ وتأكيدِ صفةٍ للهِ سُبحانَه، ودلَّت عليها دَلالةً ظاهرةً جليَّةً لا احتمالَ فيها؛ فلا نتردَّدُ في بحثِنا التَّاريخيِّ في الجزمِ بأنَّ مدلولَ هذه النُّصوصِ هو مُعتقَدُ من كانوا يتلونها ويُؤمِنون بها ويتديَّنون بما فيها، فإذا جاء بعد ذلك من يزعُمُ أنَّهم كانوا يحمِلونها على معانٍ مجازيَّةٍ بناءً على أنَّ ظاهِرَها تشبيهٌ وضلالٌ وكُفرٌ، فمِثلُ هذا -زيادةً على انحرافِه في معتَقَدِه- فهو أيضًا مخطئٌ في بحثِه التَّاريخيِّ؛ إذ لا يمكنُ أبدًا أن تكونَ ظواهرُ هذه النُّصوصِ المتكاثِرةِ كُفرًا وضَلالًا عندَهم، ثمَّ لا يتكلَّمون بهذا، ويَدَعُونَ النَّاسَ يأخُذون بهذا الظَّاهِرِ ويعتَقِدونه.

فهذا الأصلُ هو الذي تُعرَفُ به سائرُ عقائدِ السَّلَفِ ومن تبِعَهم من أهلِ الحديثِ في مسائِلِ الاعتقادِ الكبرى التي حدثت فيها الفُرقةُ والاختلافُ بعدَ دُخولِ التَّأويلاتِ الكلاميَّةِ المُحدَثةِ، ومن ضيَّع هذا الأصلَ فلن يستطيعَ إثباتَ إجماعِ السَّلَفِ على أيِّ مسألةٍ عَقَديَّةٍ؛ إذ من المُحالِ استيعابُ النَّقلِ عن آحادِهم في إثباتِ شيءٍ مهما كان ظهورُه.

مثالٌ يتبيَّنُ به المرادُ:

إذا أخَذْنا مثالًا مسألةَ عُلُوِّ اللهِ على خَلقِه، فسنجدُ مئاتِ الشَّواهِدِ في الكتابِ وفي السُّنَّةِ تؤكِّدُ وتُثبتُ تلك الصِّفةَ للهِ سُبحانَه، ممَّا كان النَّاسُ عامَّتُهم وخاصَّتُهم يتلونه ويُؤمِنون به؛ مِثلُ قولِه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}، وقولِه: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ}، وقولِه: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا}، وقولِه: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}، وقولِه: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}، وقولِه: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وقولِه: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}، وقولِه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، وقولِه: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}، وقولِه: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}، وقولِه: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}، وقولِه ﷺ: (ألا تأمنوني وأنا أمينُ مَن في السَّماءِ؟)، وقوله ﷺ: (ينزِلُ ربُّنا كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا حينَ يبقى ثُلُثُ اللَّيلِ الآخِرُ)، وقوله ﷺ: (ربُّنا اللهُ الذي في السَّماءِ تقدَّس اسمُك)، وقوله: (ما من رجُلٍ يدعو امرأتَه إلى فِراشِه فتأبى إلَّا كان الذي في السَّماءِ ساخطًا عليها حتى يرضى عنها زوجُها)، وقِصَّةِ مِعراجِ النَّبيِّ ﷺ إلى رَبِّه، وخَبَرِ الجاريةِ لَمَّا سألها ﷺ أين اللهُ؟ إلى أمثالِ ذلك من الشَّواهِدِ والبراهينِ.

فالذي يعرِفُ هذه النُّصوصَ المتكاثرةَ المتواتِرةَ في تأكيدِ عُلُوِّ اللهِ على خَلقِه، ويعرِفُ -مع ذلك- أنَّها كانت بأيدي خاصَّةِ النَّاسِ وعامَّتِهم زمنَ النُّبُوَّةِ، وزمنَ الصَّحابةِ ثمَّ التَّابعين، تَطْرُقُ أسماعَ الكبيرِ والصَّغيرِ، والعالِمِ والجاهِلِ، فتَسكُنُ صُدورَهم وعُقولَهم، يتلونَها في صَلَواتِهم، ويخطُبون بها على المنابرِ، ويَعمُرون بها مجالسَ ذِكرِهم، ويبنون عليها دينَهم وإيمانَهم، دونَ أن يُنقَلَ عنهم حرفٌ يصرِفُها عن ظاهِرِها الصَّريحِ الجَليِّ إلى معنًى مجازيٍّ ... من عرف هذا فلن يبقى لديه ذرَّةُ شكٍّ أنَّهم كانوا يَدينون بظواهِرِها ويعتَقِدون مدلولَها من أنَّ خالِقَهم سُبحانَه في عُلُوِّه فوقَ سمواتِه وعرشِه، فإذا جاء -بعدَ هذا- من ينسُبُ لهم خلافَ ذلك، فيزعُمُ أنَّهم كانوا يرونَ إثباتَ العُلُوِّ تشبيهًا وتجسيمًا، وأنَّهم كانوا يفهَمون من تلك الأدلَّةِ المتواترةِ معنًى مجازيًّا، وأنَّ عُلُوَّ اللهِ على خَلقِه يعني عندَهم علوَّ المكانةِ والمنزلةِ؛ فهذا المدَّعِي سيكونُ هو المطالَبَ بإثباتِ دعواه بالنَّقلِ التَّاريخيِّ، ولن يستطيعَ ذلك، أمَّا الأوَّلُ الذي ينسُبُ لهم إجراءَ تلك النُّصوصِ المتكاثِرةِ على ظواهِرِها الصَّريحةِ، فلن يحتاجَ إلى نقلٍ يُثبتُ به دعواه أكثَرَ من حَشدِ هذه النُّصوصِ الكثيرةِ، ولو باعتبارِها وثائِقَ تاريخيَّةً كانت متداوَلةً معتمَدةً في ذلك الزَّمَنِ.

وهذا كلُّه بحثٌ ونظَرٌ تاريخيٌّ صِرفٌ، غيرَ أنَّه موافقٌ للبحثِ والنَّظَرِ الشَّرعيِّ، لكنَّ النَّظَرَ الشَّرعيَّ سيُضيفُ أمرًا آخَرَ، وهو أنَّ هذه النُّصوصَ لو كان ظاهِرُها غيرَ مقصودٍ مع كثرتِها وتواتُرِها ووضوحِ دلالتِها وشُيوعِها في النَّاسِ، فلا بُدَّ أن يأتيَ الوحيُ ببيانِ ذلك، فلا يمكِنُ أن يَنزِلَ القرآنُ بنصوصٍ متكاثرةٍ ظاهِرُها تشبيهٌ وكفرٌ وضلالٌ، ثم يَترُكَ بيانَ ذلك لقواعِدِ عِلمِ الكلامِ!

هذا الأصلُ الكُلِّيُّ هو الطَّريقُ إلى كلٍّ من المعرفةِ التَّاريخيَّةِ والتَّأصيلِ الشَّرعيِّ لعقائِدِ السَّلَفِ في كثيرٍ مما اختُلِف فيه بعدَهم؛ فالصَّحابةُ وتابِعوهم ليس لهم مُصَنَّفاتٌ يشرحون فيها عقائِدَهم، وإنَّما تُعرَفُ عقائدُهم مِن آثارِهم ومِن المضامينِ الصَّريحةِ للنُّصوصِ التي آمنوا بها وبَنوا عليها دينَهم، وهذه طريقةُ الإمامِ أحمدَ وأهلِ الحديثِ المشهورةُ عنهم في استنباطِ مذهَبِ أسلافِهم؛ فلأجْلِ ذلك نرى كتُبَ أهلِ الحديثِ العَقَديَّةَ تنهَجُ نهجًا واضحًا في حَشدِ الأدلَّةِ من الكتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ المُثبِتةِ لمُعتقداتِهم، ومع أنَّه لا أحدَ منهم يزعُمُ أنَّه استوعَب النَّقلَ عن جميعِ الأوائِلِ في أيِّ مسألةٍ عَقَديَّةٍ، إلَّا أنَّهم مع هذا يحكون الاتِّفاقَ على تلك المُعتقَداتِ بناءً على شُيوعِ تلك الآياتِ والأحاديثِ والآثارِ المُصَرِّحةِ بما يُنكِرُه المخالِفُ. فمن غفَل عن هذا الأصلِ، ثمَّ ذهب يتلمَّسُ عقائدَ تلك الطَّبقاتِ في كتُبِ الكلامِ، فلا غرابةَ أن يَضيعَ فَهمُه وسْطَ ما يُذكَرُ فيها من التَّأويلاتِ والمحامِلِ البعيدةِ الحادثةِ التي يولِّدُها المتكَلِّمون مِن نظَرِهم وفِكرِهم، ثمَّ ينسُبونها للسَّلَفِ.

صفةُ كلامِ اللهِ في أدلَّةِ الوَحيِ.

إذا انتقَلْنا من صفةِ العُلُوِّ، ثمَّ جِئنا لصفةِ كلامِ اللهِ سُبحانَه، وأردنا تنزيلَ القاعدةِ السَّالفةِ عليها، نجِدُ الصُّورةَ واحدةً؛ فهناك مئاتٌ من نصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ التي نعلمُ أنَّ الصَّحابةَ والتَّابعين بنَوا عليها دينَهم وإيمانَهم، ثمَّ شحن بها المحْدَثون مُصَنَّفاتِهم العَقَديَّةَ، وعقَدوا له العناوينَ والأبوابَ، وكلُّها صريحٌ لا خفاءَ في دلالتِه على أنَّ اللهَ سُبحانَه يتكلَّمُ متى شاء، ويكلِّمُ من يشاءُ، في أزمنةٍ مختَلِفةٍ، وأوقاتٍ متعاقبةٍ، على خلافِ عقيدةِ قِدَمِ الكلامِ التي تأبى ذلك وتُنكِرُه.

وسأبدأُ هنا ببعضِ الآياتِ القُرآنيَّةِ التي ساقها الإمامُ أحمدُ في رسالتِه التي أشَرْنا لها في الحلْقةِ السَّابقةِ، أعني الرِّسالةَ التي جمع فيها الإمامُ الآياتِ التي يُحتَجُّ بها على الجَهميَّةِ.

لكنْ ليُتَنبَّهْ هنا إلى أنَّ البحثَ الآنَ ليس في صوابِ المعتَقَدِ أو فسادِه، بل البَحثُ فقط -بناءً على رغبةِ الأستاذِ- في شواهِدَ وإثباتاتٍ تاريخيَّةٍ يُعرَفُ بها معتَقَدُ الطَّبَقاتِ المتقَدِّمةِ من خلالِ نصوصٍ شائعةٍ كانوا يتديَّنونَ ويُؤمِنون بما فيها.

وليُتَنبَّهْ أيضًا إلى أنَّنا لا نتحدَّثُ عن نصٍّ واحدٍ أو اثنينِ، بل عن مئاتِ النُّصوصِ والشَّواهِدِ، كما أنَّنا لا نتحدَّثُ عن استنباطاتٍ خفيَّةٍ أو دَلالاتٍ مُحتَملةٍ يمكنُ أن تتباينَ فيها الفُهومُ، بل الحديثُ كلُّه عن نصوصٍ متواترةٍ صريحةٍ لا يمكنُ أبدًا أن يفهَمَ منها العربيُّ غيرَ ظاهِرِها، ما لم يكُنْ عِندَه أصلٌ كلاميٌّ يقولُ بمنعِ (حُلولِ الحوادِثِ في الذَّاتِ القديمةِ).

فمن ذلك مثلًا قولُه تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ}، فهذا التَّرتيبُ والتَّعاقُبُ بلفظةِ (ثُمَّ) يفيدُ أنَّه سُبحانَه خلَق آدمَ، ثمَّ صوَّره، ثمَّ قال -بعد ذلك- للملائكةِ: {اسجدوا لآدم}، لن يفهَمَ العربيُّ من الآيةِ إلَّا هذا، فأَمْرُ الملائكةِ بالسُّجودِ حدَث بعد خَلقِ آدمَ وتصويرِه، ومَن زعَم أنَّ معنى الآيةِ: أنَّ اللهَ قال قديمًا: {اسجدوا لآدم}، ثمَّ خلَق -بعد ذلك- الملائكةَ وآدَم، فقد ادَّعى ما يُعلَمُ أنَّه لم يخطُرْ ببالِ من أُنزِل عليهم القُرآنُ!

ثمَّ قال سُبحانَه -بعد ذلك-: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ، قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ...}، وهذا خطابٌ من اللهِ سُبحانَه لإبليسَ، مُتعدِّدٌ مُرتَّبٌ مُتعاقِبٌ، لا يفهَمُ منه العربيُّ -فضلًا عن صحابيٍّ- إلَّا أنَّ اللهَ قال لإبليسَ: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} بعدما امتنَع إبليسُ عن السُّجودِ، لم يقلِ اللهُ ذلك قديمًا في الأزَلِ، وأنَّه سُبحانَه قال: {فَاهْبِطْ مِنْهَا} بعدما قال إبليسُ: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}، لم يَقُلْه قديمًا في الأزَلِ، ثمَّ قال: {إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} بعدما قال إبليسُ: {أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، ومن أعظَمِ المُحالاتِ أن يظنَّ أحدٌ أنَّ الذين أُنزل عليهم القرآنُ يفهمون أنَّ هذا كلَّه كلامٌ واحدٌ قديمٌ، تكلَّم به اللهُ قبلَ خَلقِ إبليسَ!

ومن ذلك قولُه تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وهذا صريحٌ في أنَّه سُبحانَه (خلَقه) وصوَّره من ترابٍ، (ثمَّ) قال له: (كُنْ) فكان؛ فالعَرَبيُّ -صحابيٌّ أو غيرُ صحابيٍّ- نجزِمُ أنَّه لن يفهَمَ من هذا إلَّا أنَّ تكَلُّمَه سُبحانَه بلفظةِ (كُنْ) حدَث بعد الخَلقِ من التُّرابِ لا قَبلَه.

وكذلك قولُه: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ}، فالذين أُنزِل عليهم الوحيُ لن يفهَموا من هذا إلَّا أنَّ اللهَ كلَّم موسى بعدما جاء لميقاتِ ربِّه لا قبلَ ذلك، وأنَّ موسى لمَّا طلب رؤيةَ ربِّه أجابه اللهُ فقال: {لَنْ تَرَانِي}؛ فالجوابُ الإلهيُّ جاء وحدثَت ألفاظُه بعدما طلَب موسى الرُّؤيةَ، ولا يمكِنُ للمُخاطَبين بهذا أن يفهَموا أنَّ اللهَ قال لموسى: {لَنْ تَرَانِي} قديمًا قبلَ أن يقولَ موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}، وقبل أن يُخلَقَ موسى نفسُه!

وكذا قولُه تعالى عن موسى والشَّجَرةِ: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}، أخبر أنَّه ناداه (لمَّا أتاها) لا قبل ذلك، هكذا يفهم العربيُّ إذا خوطِبَ بهذا، ولا يمكِنُ أن يَفهَمَ غيرَه؛ لذلك صار أهلُ النَّحوِ يقولون: إنَّ (لمَّا) تُستَعمَلُ لِما "يقعُ لوقوعِ غيرِه"، ذكر ذلك سيبويهِ وغيرُه(4)؛ فوقوعُ (النداءِ) من اللهِ حصل بعدَ وقوعِ (الإتيانِ) من موسى لا قَبلَه. ونظيرُه قولُه: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}، فانتقامه كان بعد الأسَفِ لا قَبلَه، وقولُه: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ}، فالسَّحَرةُ قالوا بعدما جاؤوا لا قبلَ ذلك؛ فالحاصِلُ أنَّ قولَه: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ} لا يُفهَمُ منه أبدًا إلَّا ترتيبُ ندائِه سُبحانَه بعدَ إتيانِ موسى، وهذا حُدوثٌ للنِّداءِ ينافي عقيدةَ القِدَمِ التي تقولُ: إنَّ معنى الآيةِ عندَ الصَّحابةِ والتَّابعين: أنَّ اللهَ نادى موسى قديمًا في الأزَلِ قبلَ أن يأتيَ الشَّجَرةَ، بل قبلَ أن يُخلَقَ هو والشَّجَرةُ!

ومن ذلك قولُه: {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}، فأخبر أنَّه قال لهما: {لَا تَخَافَا} بعدما قالا: {إِنَّنَا نَخَافُ}، وهذا لا يَفْهَم منه العربيُّ إلَّا أنَّه ترتيبٌ زَمَنيٌّ وحدوثٌ للتكلُّمِ يناقِضُ سرديَّةَ الكلامِ القديمِ الواحِدِ الأزَليِّ.

وكذلك قَولُه سُبحانَه: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}. فهذا كلُّه ممَّا ليس له معنًى إلَّا أنَّ اللهَ يكلِّمُ عيسى فيذَكِّرُه بنعمةٍ سابقةٍ، فهو سُبحانَه يتكلَّمُ بهذا التَّذكيرِ بعدما أكرمَه فجعلَه يَتكلَّمُ في المهدِ، وبعدما علَّمه الكِتابَ والحِكمةَ والتَّوراةَ والإنجيلَ، ومن المُحالِ أن يظُنَّ أحدٌ أنَّ الذين أُنزِل عليهم القُرآنُ فهِموا من هذا أنَّ اللهَ تكلَّم بهذا التَّذكيرِ قبلَ أن يتكلَّمَ عيسى في المَهدِ، وقبلَ أن يُعَلِّمَه التَّوراةَ والإنجيلَ!

ومثلُه قولُه: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ}، فلمَّا قالوا ذلك: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ}، فبعد هذا قال اللهُ لهم: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}، هذا ما لا يُفْهَمُ من الآيةِ غيرُه، بينما أُحدوثةُ القُرآنِ القديمِ الأزَليِّ، تقولُ: إنَّه سبحانه قال قديمًا في الأزَلِ: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} قبَل أن يَطلُبَ الحواريُّون وعيسى إنزالَ المائدةِ، وقبل أن يُخلَقَ الحواريُّون وعيسى!

ومن ذلك قولُه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى}؛ فالمخاطَبون بالآيةِ لن يَفهَموا منها إلَّا أنَّ إبراهيمَ بعدما قال هذا، قال اللهُ له: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ}، وبعدها قال إبراهيم: {بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، وبعدَ ذلك قال اللهُ: (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا}، لا يمكِنُ أن يُفهَمَ من الآيةِ غيرُ هذا التَّرتيبِ للكلامِ.

ومن أوضَحِ الدَّلالاتِ وأظهَرِها قولُ اللهِ تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وقد تكرَّرَ هذا المعنى في ستَّةِ مواضِعَ من كتابِ اللهِ، وهو صريحٌ في أنَّ اللهَ سُبحانَه -في خَلقِه وتدبيرِه للأمرِ- إذا أرادَ شيئًا من الحادثاتِ، قال له: {كُنْ} فيكونُ، فهو لم يقُلْ: (كُنْ) مرةً واحدةً قديمًا في الأزَلِ، بل يقولُها ويكرِّرُ قولَها كلَّما أرادَ أن يُحدِثَ شيئًا.

ولذلك لمَّا أُلقِيَ إبراهيمُ في النَّارِ قال اللهُ: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}، قال هذا بعدَ إلقاءِ إبراهيمَ في النَّارِ لا قَبلَه قديمًا في الأزَلِ، لا يُفْهَمُ من الآيةِ إلَّا هذا.

ومنه قولُه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا}؛ فالفاءُ في قولِه: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ} حرفُ عطفٍ يفيدُ التَّرتيبَ والتَّعقيبَ؛ فهو سبحانَه إنَّما قال لهم: {مُوتُوا} بعدما {خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ}، لا قديمًا في الأزَلِ.

ومن أعظَمِ الدَّلالاتِ على المرادِ: ما جاء في القرآنِ ممَّا سوف يُكَلِّمُ به اللهُ عبادَه يومَ القيامةِ، مثلُ قولِه تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}، فاستُعمِل هنا ظرفُ الزَّمانِ (يومَ)؛ لأنَّه إنَّما سينادي بهذا يومَ القيامةِ؛ فهو لم ينادِ قديمًا في الأزَلِ، ونداؤه لم يحدُثْ بعدُ، بل سيحدُثُ مُستقبَلًا، لا يمكِنُ أن يَفهَمَ الذين أُنزِلَ عليهم القرآنُ غيرُ هذا.

ومِثلُ هذا قولُه: {حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}؛ فالصَّحابيُّ العربيُّ لا يفهَمُ من هذا إلَّا أنَّ اللهَ لم يقُلْ بعدُ: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي}، وإنَّما يقولُ لهم ذلك {إِذَا جَاؤُوا} يومَ الحَشرِ.

وهكذا سائِرُ الآياتِ التي تذكُرُ كلامَ اللهِ للنَّاسِ يومَ البعثِ والحَشرِ، مِثلُ قَولِه:

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}.

وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}.

وقوله: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}.

وقوله: {الْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}.

وقوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ}.

وقوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ}.

وقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ}.

وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ}.

وقوله: {قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ}.

وقوله: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}.

وقوله: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ * يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ}.

فهذه الآياتُ لا يفهَمُ منها العربيُّ المخاطَبُ بها غيرَ أنَّ اللهَ يتكلَّمُ بذلك كُلِّه (يومَ يحشُرُهم)، فقَولُه وتكلُّمُه سيحدُثُ مستقبَلًا، لم يحدُثْ قديمًا في الأزَلِ!

فالحاصِلُ أنَّ الشَّواهِدَ في كتابِ اللهِ على هذا المعنى الظَّاهِرِ كثيرةٌ وفيرةٌ يعسُرُ للغايةِ تتبُّعُها. والتَّطويلُ في الكلامِ عن دلالتِها بحثٌ في الواضِحاتِ لم تكُنْ له حاجةٌ لولا ما أثمرَتْه المُحْدَثاتُ الكلاميَّةُ من فهومٍ وتأويلاتٍ بعيدةٍ فاسِدةٍ ما كانت لِتَخطُرَ ببالِ أحدٍ من الصَّحابةِ والتَّابعين ومن سار على طريقتِهم من أئمَّةِ أهلِ الحديثِ.

فإذا جِئْنا بعدَ هذا للسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ، وجَدْنا بحرًا آخرَ من الشَّواهِدِ التي لا يمكنُ أبدًا أن يفهَمَ العربيُّ المخاطَبُ بها إلَّا أنَّ اللهَ يتكلَّمُ متى شاء، وكيف شاء، يُكلِّمُ من يشاءُ من ملائكتِه ورسُلِه، ويكلِّمُ مَن يريدُ من عبادِه وخَلقِه، وسيُكَلِّمُ أهلَ المحشَرِ، وسيُكَلِّمُ أهلَ الجنَّةِ بالبشاراتِ والكراماتِ، وسيُكَلِّمُ أهلَ النَّارِ بالملامةِ والتَّقريعِ، كُلُّ هذا على خلافِ عقيدةِ الكلامِ الواحِدِ القديمِ الأزليِّ.

ففي حديثِ زيدِ بنِ خالدٍ الجُهَنيِّ أنَّ النَّبيَّ ﷺ لمَّا صلى بأصحابِه على إثرِ سماءٍ كانت من اللَّيلِ، قال لهم: "ألم تسمعوا ما قال ربُّكم اللَّيلةَ؟..."(5)، فأخبرهم ﷺ أنَّ الجليلَ سُبحانَه قال وتكلَّم تلك اللَّيلةَ، لا قديمًا في الأزَلِ.

وممَّا أجمع أهلُ النَّقلِ على صحَّتِه، وامتلأت به كتُبُ العقائدِ ما في الصَّحيحينِ أنَّه ﷺ قال: "يَنزِلُ ربُّنا تبارك وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا، حين يبقى ثلُثُ اللَّيلِ الآخِرُ، يقولُ: من يدعوني فأستجيبَ له؟ من يسألُني فأعطيَه؟ من يستغفِرُني فأغفِرَ له؟"(6). فأخبر أنَّ نزولَه وتكلُّمَه يحدُثُ كلَّ ليلةٍ، في الثُّلُثِ الآخِرِ منها، على خلافِ قولِ من يأبى إثباتَ كلامٍ مُعلَّقٍ بزمَنٍ.

وفي صحيحِ مُسلمٍ أنَّه ﷺ قال: "قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصَّلاةَ بيني وبينَ عبدي نصفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: (الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ)، قال اللهُ تعالى: حمِدَني عبدي، وإذا قال: (الرَّحمنِ الرَّحيمِ)، قال اللهُ تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: (مالِكِ يومِ الدِّينِ)، قال اللهُ: مجَّدني عبدي، وإذا قال: (إيَّاكَ نعبدُ وإيَّاك نستعيُن)، قال اللهُ: هذا بيني وبينَ عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: (اهْدِنا الصِّراطَ المستقيمَ * صراطَ الذين أنعَمْتَ عليهم غيرِ المغضوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ)، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل"(7)؛ ففي هذا كلِّه ترتيبُ تكلُّمِ الخالِقِ وحُدوثِه إثرَ تلاوةِ العبدِ آياتِ الفاتحةِ في صلاتِه، وأنَّه سُبحانَه يقولُ ذلك ويُكَرِّرُه مع كُلِّ مُصَلٍّ تالٍ للفاتحةِ، ومِن المجزومِ به أنَّ النَّبيَّ ﷺ إنما أخبر أصحابَه بهذا؛ كي يستحضِروا في صلواتِهم أنَّهم يناجون اللهَ، وأنَّ اللهَ يجيبهم كلَّما تلَوا آيةً من الفاتحةِ، فكيف يمكِنُ لأحدٍ أن يفهَمَ من هذا أنَّ اللهَ قال قديمًا في الأزَلِ مرَّةً واحدةً: (حَمِدني عبدي)، (مجَّدني عبدي)، قبلَ أن يكونَ هناك عبدٌ يتلوَ الفاتحةَ؟!

وفي الصَّحيحينِ من حديثِ أبي سعيدٍ أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: "إنَّ اللهَ تبارك وتعالى يقولُ لأهلِ الجنَّةِ: يا أهلَ الجنَّةِ، فيقولونَ: لبَّيك ربَّنا وسَعدَيك، فيقولُ: هل رَضيتُم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتَنا ما لم تُعطِ أحدًا من خَلقِك؟! فيقولُ: أنا أعطيكم أفضَلَ من ذلك، قالوا: يا ربِّ، وأيُّ شيءٍ أفضلُ من ذلك؟! فيقولُ: أُحِلُّ عليكم رِضواني فلا أسخطُ عليكم أبدًا"(8). فهذا كلُّه يكونُ ويَحدُثُ يومَ القيامةِ لا قَبلَ ذلك في الأزَلِ.

وعندهما من حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: "إنَّ اللهَ إذا أحبَّ عبدًا دعا جبريلَ فقال: إني أحِبُّ فلانًا فأحِبَّه، قال: فيُحبُّه جبريلُ، ثمَّ ينادي في السَّماءِ فيقولُ: إنَّ اللهَ يحبُّ فلانًا فأحبُّوه، فيُحبُّه أهلُ السَّماءِ، قال: ثمَّ يوضَعُ له القَبولُ في الأرضِ. وإذا أبغَض اللهُ عبدًا دعا جبريلَ فيقولُ: إنِّي أبغِضُ فُلانًا فأبغِضْه، قال: فيُبغِضُه جبريلُ، ثمَّ ينادي في أهلِ السَّماءِ: إنَّ اللهَ يُبغِضُ فلانًا فأبغِضوه، فيُبغِضونه، ثمَّ توضَعُ له البَغضاءُ في الأرضِ"(9). فأخبر أنَّه يقولُ ذلك إذا أحبَّ وإذا أبغَض، ويقولُه بعدما يدعو جبريلَ، لا قديمًا في الأزَلِ قبلَ أن يكونَ هناك جِبريلُ، وقبلَ أن يكون ثمَّةَ آدَميٌّ يُحَبُّ أو يُبغَضُ!

ولهما من حديثِ أبي هُريرةَ رضي الله عنه أيضًا أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: "يتعاقبون فيكم ملائكةٌ باللَّيلِ وملائكةٌ بالنَّهارِ، ويجتَمِعون في صلاةِ الفجرِ وصلاةِ العصرِ، ثمَّ يعرُجُ الذين باتوا فيكم، فيسألُهم -وهو أعلمُ بهم-: كيف تركتُم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يُصَلُّون، وأتيناهم وهم يُصَلُّون"(10)، فهل يمكِنُ أن يفهمَ المخاطَبون بهذا إلَّا أنَّه سُبحانَه يسألُ ملائكتَه كُلَّ يومٍ بعدَ عُروجِهم إليه؟!

وعنه  أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: "إنَّ عبدًا أصابَ ذنبًا فقال: ربِّ أذنبتُ فاغفِرْ لي. فقال ربُّه: أَعَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يغفرُ الذَّنبَ ويأخُذُ به؟ غفَرْتُ لعبدي. ثمَّ مكثَ ما شاء اللهُ، ثمَّ أصاب ذنبًا، فقال: ربِّ أذنَبْتُ آخرَ فاغْفِرْه. فقال: أعَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يغفِرُ الذَّنبَ ويأخُذُ به؟ غفَرْتُ لعبدي. ثمَّ مكث ما شاء اللهُ، ثمَّ أذنبَ، قال: ربِّ أذنبتُ آخَرَ فاغفِرْه لي. فقال: أعَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يغفِرُ الذَّنبَ ويأخُذُ به؟ غفَرتُ لعبدي ثلاثًا، فلْيَعمَلْ ما شاء"(11).

ولهما من حديثِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: "يدنو أحدُكم من رَبِّه، حتَّى يَضَعَ كنَفَه عليه، فيقولُ: عَمِلتَ كذا وكذا؟ فيقولُ: نعم. ويقولُ: عَمِلتَ كذا وكذا؟ فيقولُ: نعم. فيقرِّرُه، ثمَّ يقولُ: إني سترتُ عليك في الدُّنيا، فأنا أغفِرُها لك اليومَ"(12).

وفي حديثِ عبدِ اللهِ بنِ أُنيسٍ رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: "يحشُرُ اللهُ العبادَ، فيُناديهم بصوتٍ يسمَعُه مَن بعُدَ كما يسمعُه من قَرُبَ: أنا المَلِكُ، أنا الدَّيَّانُ"(13). فقولُه: (يحشُرُ اللهُ العبادَ، فيُناديهم) لا يُفهَمُ منه إلَّا أنَّ النِّداءَ يكونُ بَعدَ الحَشرِ.

وفي حديثِ أبي هُريرةَ رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: "يلقى إبراهيمُ أباهُ آزَرَ يومَ القيامةِ، وعلى وَجهِ آزرَ قَتَرةٌ، فيقولُ له إبراهيمُ: ألم أقلْ لك: لا تعصِني؟! فيقولُ أبوه: فاليومَ لا أعصيك، فيقولُ إبراهيمُ: يا ربِّ، إنَّك وعدْتَني ألَّا تخزيَني يومَ يُبعثون، فأيُّ خِزيٍ أخزى من أبي الأبعَدِ؟! فيقولُ اللهُ تعالى: إنِّي حرَّمتُ الجنَّةَ على الكافِرين"(14)، يقولُ اللهُ ذلك لإبراهيمَ يومَ القيامةِ.

وفي البُخاريِّ عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: "يجيءُ نوحٌ وأمَّتُه، فيقولُ اللهُ تعالى: هل بلَّغتَ؟ فيقولُ: نعم، أيْ ربِّ، فيقولُ لأمَّتِه: هل بلَّغَكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نبيٍّ! فيقولُ لنوحٍ: من يشهدُ لك؟ فيقولُ: محمَّدٌ ﷺ وأمَّتُه، فنشهَدُ أنَّه قد بلَّغ"(15).

فها هي السُّنَّةُ تجري متواترةً مع القرآنِ في إثباتِ هذا المعنى، وهذه الأحاديثُ المذكورةُ هنا لها نظائرُ أكثرُ من أن يُحاطَ بها، ومدلولُها أوضحُ وأصرحُ من أن يَلتبِسَ على المخاطَبينَ بها؛ فالأمرُ فيها كما قال ابنُ الوزيرِ رحمه اللهُ: "العِلمُ الضَّروريُّ يقتضي في كُلِّ ما شاع مِثلُ هذا في أعصارِهم، ولم يَذْكُرْ أحدٌ منهم له تأويلًا البتَّةَ: أنَّه على ظاهِرِه على حسَبِ ما يليقُ بجلالِ اللهِ، من غيرِ تشبيهٍ...فتأمَّلْ هذه القاعدةَ التي ذكَرْتُها لك فيما استفاض على عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ استفاضةً متواترةً شائعةً، ولم يُذْكَرْ له تأويلٌ البتَّةَ؛ فإنَّها تميِّزُ لك الصَّحيحَ من العقائِدِ من المبتَدَعِ الفاسِدِ"(16).

وما نبَّه عليه ابنُ الوزيرِ هنا ممَّا يلتقي فيه البحثُ التَّاريخيُّ والبحثُ الشَّرعيُّ العَقَديُّ، ذلك أنَّه من أعظَمِ المُحالاتِ أن تكونَ هذه النُّصوصُ كلُّها -مع كثرتِها وتواتُرِها وشيوعِها- مجازاتٍ لها معانٍ باطنةٌ، وأن يكون الصَّحابةُ والتَّابعون وأئمَّةُ أهلِ الحديثِ يعتَقِدون أنَّ ظواهِرَها تشبيهٌ وضلالٌ، وأنَّ كلامَ خالِقِهم -الذي هو من أظهَرِ أوصافِه- على الضِّدِّ ممَّا تُبَيِّنُه هذه النُّصوصُ، وأنَّه جلَّ وعلا ليس له إلَّا كلامٌ واحدٌ قديمٌ أزليٌّ ليس له كلامٌ بعدَه، من المُحالِ أن يعتَقِدَ الصَّحابةُ والتَّابعون هذا، ثمَّ لا يتكلَّمون به، ولا يَنطِقون بحرفٍ ينفي هذا الضَّلالَ، حتى يأتيَ أهلُ الكلامِ ليُعلِّموا أهلَ الإسلامِ ما فرَّط في بيانِه المصطفى ﷺ وصحابتُه وتابِعوهم: من أنَّ الذَّاتَ القديمةَ لا تحُلُّها الحوادِثُ، وأنَّ ربَّهم ليس له إلَّا كلامٌ واحدٌ قديمٌ أزَليٌّ!

هذه الحقيقةُ الشَّرعيَّةُ والصُّورةُ التَّاريخيَّةُ الكبرى هي التي عَمِيت عنها عينُ الأستاذِ (المتخَصِّصِ المشهودِ له بالتَّميُّزِ، البَريءِ من أيِّ نزَعاتٍ مَذهبيَّةٍ)، فنحن حتَّى لو سَلَّمْنا له دعواه أنَّه كان يبحَثُ بحثًا تاريخيًّا صِرفًا لا بحثًا شرعيًّا، فالفصلُ التَّامُّ بينَ هذينِ المسارَينِ غيرُ ممكِنٍ؛ لأنَّ الحقيقةَ التَّاريخيَّةَ النَّاصعةَ الكبرى التي يتَّفِقُ عليها أهلُ الإسلامِ قاطبةً في مِثلِ هذه المسائِلِ: أنَّ هناك قولًا أصيلًا ممتدًّا إلى زمَنِ النُّبوَّةِ، وهناك بالمقابِلِ أقوالٌ طارئةٌ نشأت في أزمانٍ متأخِّرةٍ؛ فالذي يبحثُ في التَّاريخِ العَقَديِّ يُفتَرَضُ أن يبدأَ بحثَه من الأعلى قبلَ حُدوثِ الاختلافِ والتَّفرُّقِ، ثمَّ يَنزِلَ بعدَ ذلك للنَّظرِ في مبدأِ الأقوالِ الطَّارئةِ، كيف نشأت، ومَن ابتدأ القولَ بها، وعلى أيِّ أصلٍ بُنِيتْ؟ ليَعْرِفَ بعدَ هذا إن كان من المُمكِنِ نِسبةُ الإمامِ أحمدَ رأسِ أهلِ الحديثِ وإمامِهم لقولٍ حادثٍ يناقِضُ نصوصَه وأصولَه وأصولَ المذهَبِ الذي أنجبَه وأنجَب شيوخَه من قَبلُ.

الأستاذُ (الباحِثُ المتخَصِّصُ، المشهودُ له بالتَّميُّزِ!) أغفل هذا كلَّه، ولم يفكِّرْ قطُّ في رَفعِ رأسِه إلى الطَّبَقاتِ الأولى وهو يبحَثُ في (التَّاريخِ العَقَديِّ)، لكنَّه مع ذلك لم يَنْسَ رَسْمَ زخارِفِه وأسمارِه حين كتَب يقولُ:

 "الذي ينبغي على الباحثِ أن يكونَ ذا نظريَّةٍ شُموليَّةٍ، لا لنُصوصِ العالمِ المرادِ دراسةُ رأيِه فحَسْبُ، بل لسياقِه التَّاريخيِّ وبيئتِه العِلميَّةِ، وظَرفِه الاجتماعيِّ كذلك"(17). "طبيعةُ نشأةِ الآراءِ وتطَوُّرِها تفرِضُ علينا أن ننظُرَ في مدى تجَلِّي هذا الرَّأيِ أو ذاك في الحِقَبِ التَّاريخيَّةِ المتقَدِّمةِ، مستعينين في ذلك بالمناهِجِ البحثيَّةِ المعروفةِ"(18).

كتب الأستاذُ هذه الأسمارَ، ورسَم هذه الزَّخارِفَ، ثمَّ نبَذ "النَّظرةَ الشُّموليَّةَ"، وأعرَض عن النَّظَرِ في "الحِقَبِ التَّاريخيَّةِ المتقَدِّمةِ"، وخرَق "المناهِجَ البحثيَّةَ"، وانطَلق إلى أسوأِ مصدرٍ يمكِنُ أن يؤخَذَ عنه مذهَبُ أهلِ الحديثِ؛ كُتُبِ الجهميَّةِ والمُعتَزِلةِ وأهلِ الكلامِ!

في خاتمةِ هذه الحَلْقةِ: أنَبِّهُ إلى أنَّ التَّأصيلَ المذكورَ في هذه المقالةِ لا يعني أنَّه لا يوجَدُ نُصوصٌ عن أحمدَ وأهلِ الحديثِ في إثباتِ أنَّ اللهَ (لم يَزَلْ يتكلَّمُ متى شاء) على خلافِ عقيدةِ قِدَمِ الكلامِ، فما ذُكِر هنا لم يكُنْ سوى مدخلٍ يُعيدُ ضَبطَ المسألةِ، ليُعرَفَ البابُ الذي يُدخَلُ منه إلى بيتِ أهلِ الحديثِ؛ فالبيوتُ إنَّما تؤتى من أبوابِها، وسنرى في الحَلْقةِ القادِمةِ -إن شاء اللهُ- مُسرَدًا بالنُّصوصِ والشَّواهِدِ التي غيَّبها الأستاذُ في قراءتِه للتَّاريخِ العَقَديِّ، وسنرى فيها ما غيَّبه عَمدًا وإصرارًا، زيادةً على ما غيَّبه جَهلًا وقُصورًا.

 

ألقاكم في الحَلْقةِ التَّاسِعةِ إن شاء اللهُ تعالى ...

-----------------------------------------

(1) إلَّا أن يرتجلَ الأستاذُ -في خِضَمِ تقلُّباتِه- موقفًا جديدًا، فيزعُمَ أنَّ أحمدَ لا رأيَ له في المسألةِ لا بالقِدَمِ ولا بالحُدوثِ، فإن قال الأستاذُ هذا فسيكون كمن يردُّ على نفسِه في حُجَجِه التي ساقها في مقالةِ (القراءةُ المذهبيَّةُ للتَّاريخِ العَقَديِّ)، ومن أحبَّ تفصيلَ حُجَجِ الأستاذِ هناك، فليرجِعْ -غيرَ مأمورٍ- للحلْقةِ الثَّانيةِ من هذه السِّلسلةِ.

(2) يُنظَرُ أقوالُ أكثر هؤلاء في مقدِّمةِ أحمد الغريب لكتاب (الطَّريقة الأثَريَّة)؛ حيث خصَّصَ مبحثًا سرَد فيها أسماءَ طائفةٍ ممَّن وافقوا ابنَ تيميَّةَ فيما ينسُبه لأحمدَ من القولِ بالقِدَمِ النَّوعيِّ لكلامِ اللهِ سُبحانَه.

(3) القراءة المذهبيَّة للتاريخ العقدي (ص167)، (ص168).

(4) الكتاب (4/234)، والأصول في النحو، لابن السراج (3/179)، وانظر: مغني اللبيب (ص369).

(5) رواه -بهذا اللفظ- معمر في الجامع (21003)، والحُميدي في المسند (832)، وأصله في الصحيحين من حديثِ زيدِ بن خالدٍ الجُهنيِّ.

(6) رواه مسلم في صحيحه (395) من حديث أبي هريرة .

(7) رواه البخاري (1145)، ومسلم (758) من حديث أبي هريرة .

(8) رواه البخاري (6549)، صحيح مسلم (2829).

(9) رواه البخاري (7485)، ومسلم (2637).

(10) رواه البخاري (555)، ومسلم (632).

(11) رواه البخاري (7507)، ومسلم (2758).

(12) رواه البخاري (6070)، ومسلم (2768).

(13) رواه البخاري (7480).

(14) رواه البخاري (3350).

(15) رواه البخاري (3339).

(16) العواصم والقواصم (4/355).

(17) القراءة المذهبية للتاريخ العقدي (ص167).

(18) القراءة المذهبية للتاريخ العقدي (ص189).