مقالات وبحوث مميزة

 

 أسْمارُ "النَّقْدِ التَّارِيخيِّ" ... وزَخارِفُ "البَحْثِ العِلميِّ"
قِراءةٌ نَقْديَّةٌ لِمَقالةِ الأُسْتاذِ عَبْدِ اللهِ الغِزِّيِّ
عن صِفةِ الكَلامِ للباري سُبْحانَه.

(الحَلْقةُ الثانية)
هل نسب الغِزِّيُّ لأحمد القَولَ بقِدَمِ الكَلام؟
الشَّيخُ الدُّكتور بَنْدر بن عبدالله الشُّويقيُّ

 

في الحَلْقةِ الأُولى من هذه السِّلْسلةِ، رجوتُ في مَطْلَعِها أن يُوَفَّق أخي الأُستاذُ عَبدُ اللهِ الغِزِّيُّ "لوَقفةِ مُراجَعةٍ وتأمُّلٍ، وألَّا يَقَعَ في الخَطَأِ الشَّائِعِ الذي تورَّطَ فيه كثيرون قَبْلَه، مِمَّن يُخطِئون ويَغلَطون، ثمَّ لا يَرَونَ في أصواتِ النُّصحِ والنَّكيرِ عليهم إلَّا دلالاتٍ على العَصَبيَّة والجَهْلِ ورَفْضِ الإبداعِ والتميُّزِ".

ذاك ما رجَوته وأمَّلتُه، لكِنْ يبدو أنَّ رجائي إلى الآنَ لم يُصادِفْ محَلًّا لدى أخينا، إذ كتب تعليقًا في حِسابِه على قَناةِ (التِّيليجرام) يؤكِّدُ فيه تميُّزَه وتفرُّدَه. قال -عفا اللهُ عنا وعنه-:

"أنا -واللهِ- مُدرِكٌ شِدَّةَ وَقعِ مُراجَعَتي على السَّاحةِ، ومُتفَهِّمٌ حالَ الوَضعِ العِلميِّ في هذه المباحِثِ مِن المُتخَصِّصينَ، ومُتنَبِّهٌ لغرابةِ طَرْحي في المجتَمَعِ، ومُتقَبِّلٌ -أيضًا- المُخالفةَ لي في المَنهَجِ والنَّتيجةِ فلستُ نبيًّا مُرسَلًا".

هكذا قال الأُستاذُ مُفاخِرًا بشِدَّةِ وَقعِ مُراجعاتِه على مخالِفيه، فأدعو اللهَ أن يَرزُقَنا ويَرزُقَه السَّكينةَ، وأن يَكفيَنا جميعًا شرورَ أنفُسِنا وأَشَرَها وبَطَرَها، وأن يُلهِمَنا مَعرفةَ أقدارِ أنفُسِنا، وأن يَشرَحَ صُدورَنا لقَبولِ الهُدى ممَّن جاء به.

لكِنْ ... بما أنَّ أخانا الأُسْتاذَ يقولُ: إنَّه يتقبَّلُ المخالفةَ، وبما أنَّه -ولله الحمدُ- يُدرِكُ أنَّه ليس نبيًّا مُرسَلًا، ولا ملَكًا مُقرَّبًا، فسوف أواصِلُ نقدَ "إجراءاته البَحْثيَّة"، ولا بُدَّ قبل هذا من وَقفةٍ مع تعليقٍ لا يحسُن تجاهُلُه كتبه الأُسْتاذُ في حسابِه على (التيليجرام)؛ حيث طلب مني هناك الاعتذارَ ممَّا كتبتُه في الحَلقةِ الأُولى؛ لأنِّي -فيما ذَكَر- نسَبْتُ له ما لم يقُلْه.

الاعتذارُ مِنَ الأُستاذِ:

ذكرتُ في الحَلقةِ الأُولى أنَّ الأُستاذَ ينسُبُ للإمامِ أحمد القَولَ (بقِدَمِ كلامِ اللهِ وأزليَّتِه). هذا الكلامُ أثارَ غَضْبةَ أخينا، فنفى أن يكونَ قالَ هذا، وكتب يقولُ: "إنِّي أُطالِبُ الشُّوَيقيَّ بأن يُصدِرَ بيانًا يعتَذِرُ لي فيه عن هذه الإساءةِ البالغةِ التي ارتكَبَها بحَقِّي، وفيها تشويهٌ لطَرْحي العِلْمي، قبل أن يُسَوِّدَ الصَّفحاتِ في الكلامِ في قضايا هو أجنبيٌّ عنها".

هذا مَطلَبُ الأُستاذِ، فهو يريدُ مني الاعتذارَ؛ لأنَّه يرى أني أسأتُ إليه إساءةً بالغةً وشوَّهتُ طرحَه العِلْميَّ حينَ قُلتُ: إنَّه يَنسُبُ للإمامِ أحمدَ القَولَ بأنَّ: (كلامَ اللهِ قَديمٌ أَزَليٌّ).

وأنا أعلِنُ هنا -دون تردُّدٍ-اعتذاري الشَّديدَ ... عن قَبولِ مَطلَبِه!

أقولُ هذا خُضوعًا لقواعِدِ النَّقدِ، واتِّباعًا لأُصولِ البَحثِ العِلْميِّ التي يؤمِنُ بها الأُستاذُ، والتي سبق أن أكَّد لنا أنَّها: "تتطَلَّبُ الصَّرامةَ البَحْثيَّةَ، والدِّقَّةَ العِلْميَّةَ"[1].

مقالةُ الأُستاذِ -غَفَرَ اللهُ لهُ- تَصرُخُ بتأكيدِ ما نسَبتُه له، وعباراتُه وتقريراتُه في هذا صريحةٌ جليَّةٌ، بل إنَّ الفِكرةَ الرَّئيسةَ لِمَقالتِه تقريرُ وتأكيدُ ما ادَّعَيتُه عليه.

مقالةُ الأُسْتاذِ مَنشورةٌ، وسأعرِضُ له وللقُرَّاءِ الكِرامِ ما كتبه هو بيَدِه، مُوَثِّقًا ذلك بأرقامِ الصَّفَحاتِ لِمن أحَبَّ المراجَعةَ والتحقُّقَ.

لكِنْ ما (قد) يُفرِحُني هنا أنَّ الأُسْتاذَ عدَّ من الإساءةِ البالغةِ له، ومِنَ التَّشويهِ لطَرْحِه العِلميِّ، أن يُنسَبَ له هذا التصوُّرُ لمذهَبِ الإمامِ أحمدَ -رحمه الله-. هو لا يعُدُّ ذلك خطأً في فَهمِ كَلامِه وحَسْبُ، بل يعُدُّه إساءةً بالغةً وتشويهًا لطَرْحِه العِلميِّ. فما لم يكُنْ أخونا يحاوِلُ التَّهويلَ والمبالَغةَ في المظلوميَّة، فالذي يُفهَمُ من عباراتِه أنَّ نِسبةَ ذاك المذهَبِ للإمامِ أحمدَ نِسبةٌ مرفوضةٌ علميًّا وتاريخيًّا، وأنَّها مُسيئةٌ لِمَن يدَّعيها ولمن تُلصَقُ به.

هذا ما يُفهَمُ من عبارةِ الأُستاذِ، لكِنْ ما لم يؤكِّدْ لنا هذا المعنى فلن آخُذَ بظاهِرِ كَلامِه؛ لأنَّ ما سأعرِضُه الآن يُثبِتُ أنَّ ثمَّةَ مأزِقًا ومُشكلةً لدى أخينا في وَزنِ عِباراتِه وضَبطِ ألفاظِه، وفي فَهمِ دَلالاتِ الكَلامِ الذي يخطُّه بيَدِه!

مَذهَبُ الإمامِ أحمَدَ في نَظَرِ الأُستاذِ!

بدايةً أقولُ: نصيحتي لِمَن يقرَأُ للأُستاذِ أن يتنبَّه لنَهْجِه في الكِتابةِ، فهو قد لا يَعرِضُ رأيَه كامِلًا صريحًا في صَدرِ البَحْثِ، بل يبدَأُ بتوسيعِ الكَلامِ، فيُشرِّقُ ويغرِّب ويُشقِّقُ، ويحشو تساؤلاتٍ بعضُها في محَلِّه، وبَعْضُها لا محلَّ له، ويتكثَّرُ بذِكرِ نُقولٍ لا مُناسبةَ لها، ويُطيلُ في مَوضِعِ الإيجازِ، ويُوجِزُ في مَوضِعِ التَّطويلِ. أمَّا الفِكرةُ التي يسعى لتقريرِها فتأتي متأخِّرةً بعد أن يكونَ القارئُ العَجولُ فَقَد تركيزَه وأُصيبَ بالسَّآمةِ والمَلَلِ.

لا بأسَ على الأُستاذِ في ذلك كُلِّه، فلتَكُنْ له طريقتُه التي يختارُها ويَستعمِلُها، غَيرَ أنِّي أنبِّهُ هنا إلى السَّبَبِ الذي لأجْلِه خَفِيَ على بَعضِ النَّاسِ ما قرَّره الأُسْتاذُ بوُضوحٍ.

الأُستاذُ -وفَّقه اللهُ- حاول أوَّلَ مقالتِه تحاشِيَ عَرضِ تصوُّرِه لِمَذهبِ الإمامِ أحمدَ، فقال: "نودُّ أن نؤكِّدَ على أنَّنا لَسْنا بمَعْنيِّينَ في هذا المقامِ بالخُروجِ بمَوقِفٍ نِهائيٍّ للإمامِ مِن مسألةِ القِدَمِ النَّوعيِ لصِفةِ الكلامِ، وهل هو يعتَقِدُ بأزَلِيَّةِ القُرآنِ أم بحُدوثِه، بقَدْرِ ما يَعْنينا تَبيينُ القُصورِ البَحْثيِّ الذي وَقَع فيه المُحَقِّقُ"[2].  

هذه العِبارةُ جاءت في توطِئةِ الأُسْتاذِ لِمَقالتِه.
ثمَّ في الصَّفحةِ التَّاليةِ بدأ يلومُ المحَقِّقَ على إهمالِ تحريرِ مَذهَبِ الإمامِ أحمدَ، وهي النُّقطةُ التي قال آنفًا: إنَّه غيرُ مَعنيٍّ بها!

هذه بعضُ عباراتِ الأُسْتاذِ التي انتقد فيها المُحَقِّقَ. قال:

-"إنَّ الإجراءَ العِلميَّ الصَّحيحَ للوُصولِ إلى هذه النَّتيجةِ هو في إثباتِ أنَّ الإمامَ (أحمد) نَفْسَه قائلٌ بهذا الرَّأيِ، بنُصوصٍ ثابتةٍ صَريحةٍ".

-"مطابَقةُ قَولِ الإمامِ (أحمد) لقَولِ الشَّيخِ (ابنِ تيميَّةَ) في القِدَمِ النَّوعيِّ لصِفةِ الكَلامِ، لم يبحَثْه المحَقِّقُ بطَريقةٍ عِلميَّةِ مُعتَبَرةٍ، مع كونِه نُقطةَ الانطِلاقِ الأساسيَّةَ".

-"إنَّ الإجراءَ العِلميَّ الذي يُثبِتُ أنَّ تحريرَ الشَّيخِ (ابنِ تيميَّةَ) في صِفةِ الكلامِ يُعتَبَرُ (تصحيحًا) داخِلَ المذهَبِ الحَنبليِّ، هو في إثباتِ أنَّ الإمامَ (أحمَدَ) قائلٌ بنَفْسِ تقريرِه".

-"لا شَكَّ أنَّه إذا ثبت لنا أنَّ الإمامَ قائِلٌ بالقِدَمِ النَّوعيِّ لصِفةِ الكلامِ على وَفقِ التَّقريرِ التَّيْميِّ، بنُصوصٍ صَحيحةِ الثُبوتِ وقَطعيَّةِ الدَّلالةِ، فعند ذلك لن يَسَعَ القارِئَ إلَّا التسليُم بأنَّ ممارسةَ الشَّيخِ في هذه المسألةِ هي إرجاعُ المذهَبِ العَقَديِّ للحنابلةِ إلى جُذورِه الأُولى في هذه المسألةِ"[3].

(ليَلْحَظِ القارئُ الكريمُ أنَّ هذا الكلامَ المكرورَ اجتمع في قُرابةِ النِّصفِ صَفحةٍ من بحثِ الأُسْتاذِ؛ ليتَّضِحَ ما أشرتُ إليه من تطويلِه العِبارةَ وتَشقيقِه الكلامَ).


نعودُ لمَسألتِنا:

النُّصوصُ التي نقَلْتُها الآن تُبَيِّنُ أنَّ الأُسْتاذَ الذي يقولُ قَبْلَ قليلٍ: "لَسْنا بمَعْنيِّينَ في هذا المَقامِ بالخُروجِ بمَوقِفٍ نِهائيٍّ للإمامِ"، عاد على المحقِّقِ فأشبَعَه نقدًا وهمزًا ولمزًا لأنَّه لم يخرُجْ بموقفٍ نهائيٍّ للإمامِ، فهذه النُّقطةُ -حَسَب عبارةِ الأُسْتاذِ- هي نُقطةُ الانطلاقِ الأساسِ[4]!

غيرَ أنَّ الأُسْتاذَ لَمَّا استغرق في ذِكْرِ اعتراضاتِه ونَقَداتِه لم يستَطِعْ مُواصلةَ التمسُّكِ بهذا الموقِفِ الضَّبابيِّ المتنافِرِ، ففي غَمرةِ المناقَضةِ والجَدَلِ تدفَّقَ من قَلَمِه سَيلُ عباراتٍ وتقريراتٍ واستشهاداتٍ أفصَحَت عمَّا كان يتحاشى ذِكْرَه أوَّلَ المقالةِ.

لا غَرابةَ في هذا، فإذا كان من يدَّعي المطابقةَ بَيْنَ قَولِ أحمدَ وابنِ تيميَّةَ يُطالَبُ بتحريرِ مَذهَبِ أحمدَ أوَّلًا، فكذلك من ينازعُ ويجادِلُ، إن كان يملِكُ تصَوُّرًا لمذهَبِ الإمامِ فسيَجِدُ نَفْسَه مُنساقًا لذِكْرِ هذا التصوُّرِ والانتِصارِ له، وهذا ما فعله الأُسْتاذُ في الثُّلُثِ الأخيرِ مِن بحثِه؛ إذ شرعَ صراحةً في سَردِ الأدِلَّةِ والشَّواهِدِ التي تدلُّ على أنَّ الإمامَ أحمدَ يقولُ بقِدَمِ القُرآنِ.

ففي (ص175)، وضع الأُسْتاذُ هذا العنوانَ:

"أقوالُ أحمَدَ بنِ حَنبَلٍ، ومَواقِفُه المُعارِضةُ لقِراءةِ تَقيِّ الدِّينِ ابنِ تيميَّةَ للقِدَمِ النَّوعيِّ لصِفةِ الكلامِ". وتحتَ هذا العُنوانِ قال الأُسْتاذُ: "نَعَم، يَذكُرُ الشَّيخُ (ابنُ تيميَّةَ) أنَّه لم ينقُلْ عن السَّلَفِ القَولُ بقِدَمِ القُرآنِ. ومع التَّسليمِ بصِحَّةِ هذا النَّفيِ: فإنَّ استنباطَ قِدَمِ القُرآنِ مِن نُصوصِ السَّلَفِ ليس متوقِّفًا على وُرودِ لَفظةِ (قديم) في نُصوصِهم".

ثمَّ شرع الأُسْتاذُ في سياقِ الشَّواهِدِ والأدِلَّةِ التي تدلُّ على قِدَمِ القُرآنِ مِن كَلامِ الإمامِ أحمَدَ، وكلَّما ساق نصًّا أو شاهدًا علَّق عليه ببيانِ وَجهِ الاستِشهادِ والاستِدلالِ به.

فليتأمَّلِ القارِئُ الكريمُ عباراتِ الأُسْتاذِ وتعليقاتِه:

-(ص176) "هذا يكادُ يكونُ تَصْريحًا مِن الإمامِ بأَزَليَّـةِ القُـرآنِ".
-(ص176) "من أَشهَرِ نُصوصِه (أَحمد) التي يُفهَمُ مِنها اعْتِقادُه بأَزَليَّةِ القُرآنِ...".
-(176) "لو كانَ الإمامُ في هذا النَّقْـلِ لا يَعْتقِدُ بأَزَليَّـةِ القُرآنِ، لَما كانَ لِجَوابِه مِن مَعنًى حينَئذٍ".
-(ص176): "كيف يستقيمُ هذا الاحتجاجُ لو كان الإمامُ (أحمدُ) يعتقدُ بحدوث حروف القرآن؟ فلو كان يعتقدُ هذا لما كان من استدلاله من معنى".
-(ص177) "لم يُنقَلْ عن الإمامِ أنَّه وَصَفَ القُرآنَ بالحُدوثِ، بَيْنَما رُوِيَ عنه القولُ بقِـدَمِ القُـرآنِ".
-(ص177): " كيف يَتَأتَّى صِحَّةُ هذا الإلْزامِ لو كانَ (الإمامُ أحمدُ) لا يَعْتقِدُ بأَزَليَّةِ القُرآنِ؟!".
-(ص177): "فلو كان يعتقدُ بحُدوثِ القُرآنِ، وأنَّه ليس بأَزَليٍّ، فلماذا يكونُ جوابُه على الآيةِ هكذا؟".
-(ص177) "رُوِيَ عنه (الإمامُ أحمدُ) هَجْرُ داودَ الأصفهانيِّ لوَصْفِه القُرآنَ بالحُدوثِ... فهل يجوزُ هَجْرُ مُسلمٍ لأجْلِ توهُّمٍ، مع الاتِّفاقِ في المعتَقَدِ ذاتِه؟!".
-(ص177): "إذا كان القَولُ بحُدوثِ القُرآنِ هو الحَقَّ في نَظَرِ الإمامِ، فلماذا لم يُبَيِّنْ هذا المعتَقَدَ الحَقَّ بعبارةٍ واضحةٍ تُزيلُ الاشتباهَ".
-(ص177): "هذه بعضُ نُصوصِ الإمامِ ومَواقِفِه التي نَرى فيها مُعارضةً للتَّقْريرِ التَّيْميِّ، ويُفهَمُ مِنها القَوْلُ بأَزَليَّةِ القُرآنِ".

تلك عَشَرةُ نُصوصٍ كاملةٍ في الاستِدلالِ على نِسبةِ القَولِ بأزَلِيَّةِ القُرآنِ للإمامِ أحمدَ.
وما زال هناك المزيدُ...

ينتهي الأُسْتاذُ مِنَ الإمامِ، ثمَّ ينتَقِلُ إلى الحنابلةِ ليؤكِّدَ ما تقدَّم، فيقولُ:

-(ص178): "لماذا نظَّـرَ الحنابلةُ للقَولِ بقِـدَمِ القُرآنِ على أنَّه هو القَولُ المعَبِّرُ عن المذهَبِ؟".
-(ص178) "ما معنى حكايةِ الاتِّفاقِ على قِدَمِ القُرآنِ وأنَّ الكلامَ صِفـةٌ ذاتيَّـٌة داخِـَل المذهَبِ".
-(ص178) "ما معنى الحُكمِ بالشُّذوذِ على مَـن حَمَل المقولةَ السَّالِفةَ المنسوبةَ للإمامِ على الحُدوثِ! فهل طُمِس هذا القَولُ وكُتِـم مِـن قِبَلِ الحنابلةِ التَّقْليديِّين؟ هل هناك مؤامَـرةٌ؟".
-ثمَّ في (ص181) وضع الأُسْتاذُ هذا العُنوانَ: "الاتِّفاقُ على أزَليَّةِ القُرآنِ"[5].  
-وتحتَ هذا العُنوانِ قال: "مِنَ القضايا التي تؤكِّدُ ما سبق: حكايةُ الاتِّفاقِ داخِلَ المذهَبِ الحَنْبليِّ على كَونِ كَلامِ اللهِ صِفةً ذاتيَّةً، وأنَّ القُرآنَ قَديمٌ...حتَّى إنَّ القاضيَ في كتابِ الرِّوايتَيَنِ والوَجْهَينِ لم يُشِرْ لأيِّ وَجهٍ في أنَّ القُرآنَ حادِثٌ...".
-وقال (ص182): "لماذا لم يتوقَّفِ المحَقِّقُ مع قَولِ ابنِ الزَّاغونيِّ بأنَّ أصحابَه اتَّفَقوا على أنَّ حُروفَ القُرآنِ قَديمةٌ".

هذا (بعضُ) ما جاء في المقالةِ مِنَ الانتِصارِ لنِسبةِ القَولِ بقِدَمِ القُرآنِ وأزليَّتِه للإمامِ أحمدَ.

فإن كان الأُسْتاذُ يزعُمُ أنَّ هذه مجرَّدُ تساؤلاتٍ لا تقريرَ فيها، فلْيُواصِلِ القِراءةَ معي ليُدرِكَ أنَّ تمسُّكَه بهذا الادِّعاءِ يُسيءُ إلى صورتِه ومِصْداقيَّتِه أمامَ القُرَّاءِ.

البَحْثُ عن أحمَدَ في كُتُبِ المُعتَزِلةِ والأَشْعريَّةِ!

في سياقِ تفنيدِ ما سمَّاه الأُسْتاذُ سَرديَّةً تيميَّةً وَضَع الأُسْتاذُ (ص179) عنوانًا يقولُ: "حُضورُ القِدَمِ النَّوعيِّ لصِفةِ الكَلامِ في المُصَنَّفاتِ الكَلاميَّةِ". وتحتَ هذا العُنوانِ قال الأُسْتاذُ:

"تُعَدُّ كتُبُ المُتَكَلِّمينَ مِن مُختَلِفِ المَذاهِبِ مَصدَرًا مهمًّا لرَصدِ الاتِّجاهاتِ والأقوالِ العَقَديَّةِ التي كانت شائِعةً في عُصورِهم...مع ملاحَظةِ مَوقِعِ صِفةِ الكلامِ في البَحْثِ العَقَديِّ في الإسلامِ، وأنَّها من المَسائِلِ الكُبرى التي وقع فيها امتِحانٌ".

والأُسْتاذُ يريدُ هنا أنَّ صِفةَ الكلامِ مَسألةٌ كبيرةٌ مشهورةٌ، فلو كان ما يحكيه ابنُ تيميَّةَ عن أحمَدَ وأهلِ الحَديثِ صَحيحًا عنهم، فلا يُمكِنُ أن يخفى هذا على مُصَنِّفي كتُبِ الكلامِ التي ترصُدُ الاتِّجاهاتِ والمقالاتِ العَقَديَّةَ.

ثمَّ سَرَد الأُسْتاذُ -وفَّقه اللهُ لِمَرضاتِه- تحتَ هذا العُنوانِ سَبعةَ كُتُبٍ مُؤَلِّفوها ما بَيْنَ مُعتَزليٍّ، وأشعَريٍّ، وماتُريديٍّ، ثمَّ تساءل عن غيابِ ما نَسَبه ابنُ تيميَّةَ لأحمدَ وللسَّلَفِ عن هذه المصادِرِ التي ترصُد المقالاتِ العَقَديَّةَ، لِيَنتهيَ بهذا إلى تَضعيفِ "السَّرديَّة التَّيْميَّة".

فما معنى هذا الاحتجاجِ، وما نتيجتُه؟

هذه المنْهَجيَّةُ في المناقَشةِ والحِجاجِ مَبنيَّةٌ على أنَّ مُعتَقَدَ أحمدَ وأهلِ الحديثِ في صِفةِ الكَلامِ لا بُدَّ أن يكونَ مذكورًا في كتُبِ المتكَلِّمينَ!

فما الذي يوجَدُ في تلك الكُتُبِ مَنسوبًا للإمامِ أحمَدَ وأهلِ الحَديثِ؟

تلك المصادِرُ التي أحال عليها الأُسْتاذُ واحتجَّ بما فيها، إذا ذَكَرت الحنابلةَ وأهلَ الحَديثِ نسَبَت لهم القولَ بقِدَمِ القُرآنِ. فإن كان الأُسْتاذُ يجعَلُ تلك المصادِرَ حُجَّةً على ابْنِ تَيْميَّةَ، فليس لهذا معنًى إلَّا أنَّه يوافِقُ على ما فيها.

فهل اتَّضَحَت الآن مَعالِمُ الصُّورةِ التي يَرسُمُها الأُسْتاذُ الغِزِّيُّ؟

-فمِنَ المصادِرِ التي أحالنا عليها الأُسْتاذُ لنَبحَثَ فيها عن مذهَبِ أحمدَ وأهلِ الحديثِ كِتابُ "تَبصِرةُ الأدِلَّة" لأبي المُعِينِ النَّسَفيِّ، فإذا ذَهَبْنا لذلك الكتابِ وَجَدْناه يقولُ: "قال أهلُ الحَديثِ: "كان مُتَكَلِّمًا في الأزَلِ؛ لأنَّ الكلامَ مِن قَبيلِ صِفاتِ الذَّاتِ"[6].

-وممَّا أحالنا عليه الأُسْتاذُ كِتابُ (زيادات شَرْح الأُصولِ)، لأبي طالِبٍ الهارُونيِّ، فإذا ذهَبْنا إلى الكِتابِ، وإلى الصَّفحةِ التي أحال عليها الأُسْتاذُ، وجَدْناه يقولُ: "اعلَمْ أنَّه يخالِفونَنا في القُرآنِ فرقَتَينِ (كذا): فِرقةٌ تَذهَبُ إلى أنَّ القُرآنَ هو هذه الحُروفُ والسُّوَرُ والآياتُ وأنَّها قديمةٌ (يعني الحنابِلةَ)، وفِرقةٌ أُخرى يقولونَ: إنَّ هذه الحُروفَ والسُّورَ كُلَّها مُكتَسَبةٌ لنا، والقُرآنُ غَيرُها، وهو عندهم معنًى يقومُ بذاتِ الباري تعالى (يعني الأشعَريَّةَ)"[7].

 فكما نرى، ليس هنا إلَّا القَولُ بالقِدَمِ!

-كذلك ممَّا أحالنا عليه الأُسْتاذُ كِتابُ (الرِّياضُ المونقةُ) للرَّازي، فإذا ذَهَبْنا للصَّفحاتِ التي أحال عليها الأُسْتاذُ نجِدُه ذَكَر مَذهَبَ المُعتَزِلةِ والأشعَريَّةِ والكَرَّاميَّة، ثمَّ ذَكَر أنَّ "جماعةً من الأجلافِ الحَشَويَّةِ زَعَموا أنَّ هذه الحُروفَ المتواليةَ قَديمةٌ"[8]. ومرادُ الرَّازي بالحَشَويَّة هنا الحنابِلةُ، كما صرَّح بذلك في تَفْسيرِه[9].

-ومِنَ المصادِرِ التي أحال عليها الأُسْتاذُ كِتابُ (أبكارُ الأفكارِ) للآمِديِّ، وكلامُ الآمِدِيِّ يُشبِهُ كَلامَ الرَّازي، فهو بعدما ذكَرَ مَذهَبَ الكُلَّابيَّةِ والأشعَريَّةِ والمُعتَزِلةِ قال: "وذهَبَت الإماميَّةُ والخوارِجُ والحَشَويَّةُ -أيضًا- إلى أنَّ كلامَ الرَّبِّ تعالى مُركَّبٌ من الحُروفِ والأصواتِ، ثمَّ اختلف هؤلاء؛ فذَهَبت الحَشَويَّةُ إلى أنَّه قديمٌ أزليٌّ، قائِمٌ بذاتِ الرَّبِّ تعالى..." ([10].

لن أطيلَ على القارِئِ الكريمِ بذِكْرِ جَميعِ ما في المصادِرِ السَّبعةِ التي أحال عليها الأُسْتاذُ، فالخُلاصةُ أنَّ هذه المصادِرَ إذا ذَكَرَت مَذهَبَ الحنابِلةِ أو أهلِ الحَديثِ نَسَبَت لهم القولَ بقِدَمِ القُرآنِ، والأُسْتاذُ يحتجُّ بهذا على ابنِ تيميَّةَ، ويقولُ: لو كان ما ذَكَره الشَّيخُ عن أحمَدَ وأهلِ الحَديثِ صَحيحًا لوجَدْناه في هذه المصادِرِ!

فالقارئُ هنا لا يحتاجُ لأن يكونَ عَبقريًّا حتَّى يفهَم من هذه الطريقةِ في الاستِدلالِ أنَّ الأُسْتاذَ يوافِقُ على نِسبةِ القَولِ بقِدَم القُرآنِ لأحمدَ ولأهلِ الحَديثِ؛ لأنَّه لو قال: أنا لا أوافِقُ على هذه النِّسبةِ، وتصوُّري لمذهَبِ أحمدَ (كذا، وكذا)، فسيُقال له كما قال هو لابنِ تيميَّةَ: لو كان تصوُّرُك لمذهَبِ أحمَدَ وأهلِ الحَديثِ صَحيحًا لوجَدْناه مذكورًا في الكُتُبِ الكَلاميَّةِ التي ترصُدُ المقالاتِ!

تزيدُ الصُّورةُ وُضوحًا فوقَ وُضوحِها عندما يَشرَعُ الأُسْتاذُ في مناقَشةِ ابنِ تيميَّةَ في قَولِه: إنَّ المتكَلِّمينَ لا يَعرِفونَ الأقوالَ المأثورةَ عن السَّلَفِ[11]. فيأتي الأُسْتاذُ لِيَقولَ: "الشَّيخُ (ابنُ تَيميَّةَ) نفسُه أدرك هذا الإشكالَ التاريخيَّ على تقريرِه، فذكَرَ أنَّ المتكَلِّمينَ لا يَعرِفونَ قولَ السَّلَفِ"[12]).

 ثمَّ يعتَرِضُ الأُسْتاذُ ويقولُ:

"هذه دَعْوى لا يمكِنُ قَبولُها هكذا بإطلاقٍ، فنحن نتحَدَّثُ عن مجتَمَعاتٍ مُتداخِلةٍ، وإن افترَضْنا جَهْلَ مَعرفةِ قَولٍ فَرعيٍّ، فكيف بأصلٍ كُليٍّ، كالقِدَمِ النَّوعيِّ لصِفةِ الكَلامِ، وفي مسألةٍ ذاتِ وَزنٍ في عِلمِ العقائِدِ"[13].

إذن، حَسَبَ رأيِ الأُسْتاذِ هنا:

دعوى ابْنِ تَيْميَّةَ جَهْلَ المتَكَلِّمينَ بقَولِ أحمدَ وأهلِ الحَديثِ مَرفوضةٌ.
ومَذهَبُ أحمدَ وأهلِ الحَديثِ لا يمكِنُ أن يَغيبَ عن كُتُبِ الكلامِ.
وكتُبُ الكَلامِ تَنسُبُ لهم القَولَ بقِدَمِ القُرآنِ.
فماذا بَقِيَ؟
وهل لا يزالُ عِندَ الأُسْتاذِ جُرأةٌ حتى ينفِيَ ما نسَبْتُه له؟

ومع ذلك ... فلا يزالُ لديَّ المزيدُ.

استِدلالُ الأُسْتاذِ بخِطابِ الخَليفةِ المأمونِ:

كما استنجَدَ الأُسْتاذُ -سَامحَهُ الله- بكُتُبِ الكَلامِ المعتَزِليَّةِ والأشعريَّةِ ليُسقِطَ ما سمَّاه "سَرْديَّةً تَيميَّةً"، ذهبَ ليستنجِدَ بما وردَ في كتابِ الخليفةِ المأمونِ لوُلاتِه في مِحْنةِ خَلْقِ القُرآنِ.

قال الأُسْتاذُ وهو يناقِشُ ما نسبه ابْنُ تَيْميَّةَ لأحمَدَ:

"إنَّ مِن أهَمِّ ما يدلُّ على غيابِ هذا القَولِ في تلك الحِقْبةِ -أو على أقَلِّ تَقديرٍ- يكشِفُ عن القَولِ السَّائِدِ بَيْنَ مُجتَمَعِ أهلِ الحَديثِ- خِطابَ المأمونِ في الامتِحانِ في خَلْقِ القُرآنِ"[14].

ثمَّ ساق الأُسْتاذُ الخِطابَ، وفيه قَولُ المأمونِ أنَّ "الجُمهورَ الأعظَمَ والسَّوادَ الأكبَرَ مِن حَشْوِ الرَّعِيَّةِ وسِفْلةِ العامَّةِ...اتَّفَقوا غَيرَ متُعاجمينَ على أنَّه قديمٌ أوَّلٌ لم يخلُقْه اللهُ ويُحدِثْه ويَختَرِعْه".

يُعَلِّقُ الأُسْتاذُ على هذا فيَقولُ:

"هذه الوثيقةُ التَّاريخيَّةُ -التي نقلها ابنُ جريرٍ الطَّبريُّ وِجَادةً- تكتَسِبُ أهميَّةً بالغةً في كَشفِ المَوقِفِ العامِّ الذي كان شائِعًا بَيْـنَ مُجتَمَعِ أهلِ الحديثِ".

ما الذي يُفهمُ من صَنيعِ الأُسْتاذِ هنا؟

المأمونُ يَنسُبُ للجُمهورِ الأعظَمِ ولحشْوِ الرعيَّةِ القَولَ بأنَّ القُرآنَ "قَديمٌ أوَّلٌ".

والأُسْتاذُ يقولُ عن خِطابِ المأمونِ: وثيقةٌ تاريخيَّةٌ تكتَسِبُ أهميَّةً بالغةً في كَشْفِ الموقِفِ العامِّ الذي كان شائِعًا بَيْـنَ مجتَمَعِ أهلِ الحَديثِ.

يقولُ الأُسْتاذُ هذا في سياقِ مُعارضةِ ما ينسُبُه ابنُ تيميَّةَ للإمامِ أحمَدَ ولأهلِ الحَديثِ!

فإن كان الأُسْتاذُ يُدرِكُ ويفهَمُ تركيبَ دليلِه واعتراضَه، فسيكونُ القَولُ الشَّائِعُ في مجتَمَعِ أهلِ الحَديثِ، الذين ينتَسِبُ لهم أحمدُ: القولُ بقِدَمِ القُرآنِ!

لأنَّ الأُسْتاذَ إن كان يوافِقُ على فَهمِ المأمونِ لكلامِ أحمدَ وأهلِ الحَديثِ، ويعطي لخِطابِه (أهميةً بالِغةً!)، فلا معنى لهذا إلَّا موافقتُه على نِسبةِ القَولِ بقِدَمِ القُرآنِ لهم!

أمَّا إن كان لا يوافِقُ المأمونَ فقد سقط اعتراضُه من أصلِه، ولم يَعُدْ لخِطابِ المأمونِ تلك الأهميَّةُ البالِغةُ في كَشْفِ القَولِ السَّائِدِ في مجتَمَعِ أهلِ الحَديثِ.

نأتي -بعد هذا- إلى الأدهى والأوهى والأمَرِّ.

النَّقْدُ التَّاريخيُّ المقلوبُ:

مَذهَبُ أحمدَ وأهلِ الحَديثِ -الذي ينصُرُه ابْنُ تَيْميَّةَ- أنَّ اللهَ: (لم يَزَلْ يتكَلَّمُ متى شاء).

وهذه عِبارةٌ أَثَريَّةٌ مُوجَزةٌ مُرَكَّبةٌ مِن جُزأَينِ: (لم يَزَلْ يتكَلَّمُ)، و(متى شاء).

(لم يَزَلْ يتكَلَّمُ): تعني أنَّه لا أوَّلَ لكَلامِه، كما أنَّه لا أوَّلَ لوُجودِه سُبحانَه.

(ومتى شاء): تعني أنَّه -تقدَّست أسماؤه- يتكلَّمُ أيَّ وقتٍ يشاءُ.

هذا المعتَقَدُ السَّهلُ اليَسيرُ هو ما يُسمَّى اصطِلاحًا: (القِدَمَ النَّوعيَّ لصِفةِ الكَلامِ)، وهو المذهَبُ الذي ينسُبُه ابنُ تيميَّةَ لأحمَدَ ولأئمَّةِ السَّلَفِ -رحمهم اللهُ-، وهو ما يسَمِّيه الأُسْتاذُ: "سَرْديَّةً تَيْميَّةً" يَجهَدُ في نَقْضِ نِسْبَتِها لأحمَدَ ولأهْلِ الحَديثِ.

ورَغْمَ سُهولةِ هذه المُعْتقَدِ ورُغم قُربه من الفهم الفطري، إلا أنَّ الأُسْتاذ لما أراد الاعتراض قال: "مَعلومٌ أن القِدَم النَّوعيَّ لبعض الصفات تَسبِقُه مُقدِّماتٌ كَلاميَّةٌ وفَلْسفيَّةٌ شائِكةٌ، هي غَريبةٌ على مُجْتَمَعِ أهْلِ الحَديثِ في مُنْتَصَفِ القَرْنِ الثَّالِثِ الذين كانت تَنزِعُ تَقْريراتُهم في بابِ الصِّفاتِ إلى الإطْلاقاتِ الكُليَّةِ دونَ الاسْتِرْسالِ في التَّفْريعاتِ!".

قال الأُسْتاذُ هذا بعدما أكد أن: "على الباحِثِ أن يكونَ ذا نَظْرةٍ شُموليَّةٍ، لا لِنُصوصِ العالِمِ المُرادِ دِراسةُ رأيِه فحَسْبُ، بل لسِياقِه التَّاريخيِّ وبيئتِه العِلميَّةِ، وظَرْفِه الاجْتِماعيِّ"[15].

لَمَّا قرأتُ كلامَ الأُسْتاذِ في هذا الموضِعِ تذكَّرْتُ قَولَه في ازدراءِ المحَقِّقِ أحمد الغريب: "يبدو أنَّه كغَيْرِه مِن عُمومِ باحِثي بيئَتِه المَذهَبيَّةِ، واقِعٌ تحتَ تَأثيرِ سَطْوةِ السَّرْديَّةِ التَّيْمِيَّةِ"[16]!

الأُسْتاذُ بعدَ تلك اللُّغةِ الفَوقيَّةِ المتعاليةِ التي خاطب بها ذاك المحَقِّقَ الفاضِلَ، عاد هنا ليكشِفَ لنا أنَّ عَقْلَه أسيرُ سَطْوةٍ سَرْديَّةٍ كلاميَّةٍ متهافِتةٍ. (وأرجو أن يتَّسِعَ صَدرُ الأُسْتاذِ لهذا؛ فأنا لم أزِدْ على مقابَلَتِه بمِثْلِ ما يقولُه عن غَيرِه).

ما ضاق عنه فهمُ الأُسْتاذِ أنَّ الذي يقولُ: إنَّ اللهَ (لم يَزَلْ يتكَلَّمُ متى شاء) -على المعنى الذي شرحتُه-لا يحتاجُ سوى إجراءِ نُصوصِ الوَحْيِ على ظواهِرِها، ولن يفتَقِرَ إلى أيِّ مُقَدِّماتٍ كلاميَّة ولا فلسفيَّةٍ، شائِكةٍ ولا غيرِ شائِكةٍ.

الأُسْتاذُ هوَّلَ وأبهم الكلامَ هنا، ولم يذكُرْ مقصودَه بالمقَدِّمااااات الفَلْسفيَّة الشَّائكة التي يحتاجُها من يقولُ: (إنَّ اللهَ لم يَزَلْ يتكَلَّمُ متى شاء). والظَّاهِرُ أنَّه يقصِدُ مسألةَ (تسلسُل الحوادِثِ) التي تلزمُ مَن يقولُ: "إنَّ اللهَ لم يَزَلْ يتكَلَّمُ متى شاء".

وبعيدًا عن الدُّخولِ في تفصيلاتِ تلك المسألةِ الفَلْسفيَّةِ، فالذي أقولُه: إنَّ الأُسْتاذَ لو تخلَّص وحرَّر عقلَه من سَطوةِ الآراءِ الكلاميَّةِ، ووُفِّقَ لحُسنِ النَّظَرِ، وعَرَف سُهولةَ وبهاءَ عَقائِدِ أهلِ السُّنَّةِ، ومارس نقدًا تاريخيًّا حقيقيًّا، فسوف يُدرِكُ أنَّ الذي يحتاجُ إلى مُقَدِّماتٍ فلسفيَّة شائكةٍ إنما هو المعتَرِضُ على مَقولةِ: (إنَّ اللهَ لم يَزَلْ يتكلَّمُ متى شاء).

تلك المقولةُ الأثريةُ التي يسَمِّيها الأُسْتاذُ (سَرْديَّةً تَيْميَّةً) لم تتولَّدْ عن القَولِ بتسَلْسُلِ الحوادِثِ، بل التَّسْلسُلُ من اعتراضاتِ وإلزاماتِ المخالِفينَ؛ فلذلك ذكَره ابنُ تيميَّةَ والتَزَمه ونَسَبه للسَّلَفِ، نَسَبه لهم بناءً على تلك المقولةِ الأثريَّةِ وما شابهها.

الأُسْتاذُ هنا -كما يُقال- وَضَع العَرَبةَ أمام الحَصان، فخَلَطَ بين دَليلِ القَولِ وبين لوازمِه العقليَّةِ، فمن هنا توهَّم أنَّ ذاك الاعتقادَ المأثورَ لا يمكِنُ الوصولُ إليه إلَّا عَبْرَ قنَطرةِ مَسألةِ تسَلْسُلِ الحوادِثِ.

موضِعُ الطَّرافةِ هنا أن الأُسْتاذَ -أقال اللهُ عَثَراتِه- وهو يحاجُّ ابنَ تيميَّة بالكتُبِ الكلاميَّةِ التي تنسُبُ لأهلِ الحَديثِ القَولَ بـ (قِدَم القُرآنِ وأزليَّتِه) لم يخطُرْ ببالِه وَضْعُ تلك المقولةِ في ميزانِ النَّقْدِ التَّاريخيِّ، رَغْمَ أنَّها مَقولةٌ بُنِيَت على أصلٍ فَلسَفيٍّ بالِغِ التَّعْقيدِ!

 وهذا ما سيَنْقُلنا إلى الكلامِ عن:

النَّقْدِ التَّاريخيِّ الأعوَرِ!

ذكرتُ فيما تقدَّم شواهِدَ كثيرةً تُثبِتُ أنَّ الأُسْتاذَ يَنسُبُ لأحمَدَ القَولَ بقِدَمِ الكَلامِ وأزليَّتِه. ولديَّ هنا ما يَزيدُ في التَّأكيدِ والإيضاحِ.

فالأُسْتاذُ -أقال اللهُ عَثَراتِه، وأيقَظَ غَفَواتِه، وأضحَكَ لَهَواتِه- بَعْدَما اسْتَعملَ النَّظْرةَ الشُّموليَّةَ، وأخَذَ في الاعْتِبارِ (السِّياقَ التَّاريخيَّ، والبيئةَ العِلميَّةَ، والظَّرْفَ الاجْتِماعيَّ) للإمامِ أَحمَدَ، انْتَهى إلى اسْتِبعادِ أن يَعْتقِدَ الإمامُ أنَّ اللهَ سبحانَه لم يَزَلْ يَتَكلَّمُ متى شاءَ؛ لأنَّ هذا المُعْتقَدَ -في رأيِ الأُسْتاذ- يَتَطلَّبُ مُقدِّماتٍ كَلاميَّةً فَلْسَفيَّةً شائِكةً غَريبةً على أَحمَدَ وعلى مُجْتمَعِ أهْلِ الحَديثِ!

أمَّا مَقولةُ (قِدَم القُرآنِ) -التي كانت حاضرةً في اعتراضاتِ الأُسْتاذِ، وفي استِشْهاداتِه بكُتُبِ المُعتَزِلةِ والأشعريَّةِ، وبكُتُبِ متكَلِّمي الحنابلةِ- فوَقْتُ الأُسْتاذِ ومِيزانُه وبَحْثُه ونَقْدُه التاريخيُّ لم يتَّسِعْ للنَّظَرِ في نَسَبِ تلك المقولةِ ومُقَدِّمَتِها الفَلْسفيَّةِ الغريبةِ حَقًّا عن مجتَمَعِ أهلِ الحَديثِ.

ونيابةً عن الأُسْتاذِ سوف أتبرَّعُ بعَرْضِ تلك المقولةِ في مِيزانِ النَّقْدِ التَّاريخيِّ؛ لننظُرَ في مناسبتِها لطريقةِ أهلِ الحَديثِ، وسوف أسمِّيها على لُغةِ الأُسْتاذ: (سَرْدِيَّةَ قِدَمِ الكَلامِ).

سأعرِضُ (سَرْديَّةَ قِدَمِ الكَلامِ) بكامِلِ تَفْصيلاتها؛ لنعرفَ إن كان الأُسْتاذُ الغِزِّيُّ استعمل "النَّظْرةَ الشُّمُوليَّةَ"، وبَحَث في "السِّياقِ التَّاريخيِّ"، و"البيئةِ العِلْميَّةِ"، و"الظَّرْفِ الاجتِماعيِّ" للإمامِ أحمدَ؛ ليُعرِفَ إمكانَ نِسْبَتِها إليه.

وسنعرفُ -بعد ذلك- إن كان الأُسْتاذُ يستعملُ أدواتٍ بحثيَّةً وقواعِدَ نَقْديَّةً، أو أنَّه يُوَظِّفُ زَخارِفَ لَفْظيَّةً لخِدْمةٍ رُؤيةٍ مَذْهَبيَّةٍ تملَّأَ عَقْلُه بها.

تفصيل (سرديَّة قِدَم الكلام):

(سَرْديَّةُ قِدَمِ الكلام وأزليَّته) تقول: إنَّ الإمامَ أحمد -رَحِمَه اللهُ- كانَ مَذهَبُه أنَّ اللهَ لا يَتَكلَّمُ بمَشيئتِه واخْتِيارِه، بل ليس له -سُبحانَه- إلَّا كَلامٌ واحِدٌ قَديمٌ أَزَليٌّ!

فما معنى هذا القَولِ؟
وهل يُمكِنُ أن يكونَ مَذهَبًا لأحمَدَ -رحمه اللهُ-؟!

القديمُ الأزلي في اصطلاح أهل الكلام هو (ما لا أولَ له)، أو: (ما لم يُسبَقْ بغيره)، فإذا قيل إن كلام الله قديمٌ أزليٌّ فالمقصود: أنَّ كلَّ قولٍ لله سبحانه لا يجوزُ أن يُسبَقَ بقولٍ آخر، بل كل كلمةٍ لله لا تسبقها كلمةٌ، وكل حرفٍ لا يُسبَقُ بحرفٍ!

فحسب هذه السَّرديَّة: كلامُ الله كله واحدٌ لا يتقدَّمُ بعضُه على بعضٍ، ولا يحدثُ في أزمانٍ متفاوتةٍ؛ فلا يجوز أن يُقالَ: إن الله -جلَّ وعلا-تكلَّم بهذه الكلمة، ثم تكلَّم بتلك الكلمة، ثم قال كذا، ثم أمر بكذا، ثم نهى عن كذا. بل الكلامُ محالٌ عليه سبحانه بعدما تكلَّم بكلامٍ واحدٍ قديمٍ أزليّ لا ترتيب فيه، ثم لم يكُن له سبحانه كلامٌ بعد ذلك!!

هذه التفاصيلُ ليست مجرَّد لوازِمَ يُجادَلُ بها القائِلونَ بالقِدَم، بل هم -عفا الله عنهم- يُصَرِّحون بذلك كُلِّه في مُصَنَّفاتِهم. وحتى لا نُطيلَ ونذهَبَ بَعيدًا في إثباتِ ذلك، سأعودُ بالقارِئِ إلى قَولِ الأُسْتاذِ في أثناءِ هَجْمَتِه على المحَقِّقِ أحمد الغريب: "لماذا لم يتوقَّفِ المُحَقِّقُ مع قَولِ ابنِ الزَّاغونيِّ بأنَّ أصحابَه اتَّفَقوا على أنَّ حُروفَ القُرآنِ قَديمةٌ؟"[17].

فلْنَذهَبْ إلى ابنِ الزَّاغونيِّ -يغفِرُ اللهُ له- لنعرِفَ صُورةَ هذا القَولِ الذي يتساءَلُ الأُسْتاذُ لماذا لم يتوقَّفِ المحقِّقُ عنده، ولربَّما -بعد مَعرفةِ الصُّورةِ كاملةً- نكونُ أمامَ سُؤالٍ أهَمَّ: لماذا لم يتوقَّفِ الأُسْتاذُ بنَقْدِه التَّاريخيِّ، ولمْ يوظِّفْ نَظْرَتَه الشُّمُوليَّةَ؛ ليرى هل يتَّفِقُ ذاك المذهَبُ الكَلاميُّ مع "السِّياقِ التَّاريخيِّ"، و"البيئةِ العِلْميَّة"، و"الظَّرفِ الاجتِماعيِّ" للإمامِ أحمَدَ؟!

ابنُ الزَّاغونيِّ الذي قال: "اتَّفَق أصحابُنا على أنَّ الحُروفَ في القُرآنِ قَديمةٌ". مهَّد لبيانِ هذا القَولِ وشَرَح معناه فقال فيها:
"له (سُبحانَه) كلامٌ واحدٌ قديمٌ أزليٌّ".
"كلامُ اللهِ لم يَدخُلْه الترتيبُ في وُجودِه وثُبوتِه صِفةً للهِ تعالى"
"يَستحيلُ أن يتقدَّمَ بَعْضُه على بَعضٍ في الوُجودِ".
"لم توجَدْ سُورةٌ منه قَبْلَ سُورةٍ، ولا آيةٌ قَبْلَ آيةٍ، ولا حَرفٌ قبْلَ حَرفٍ"[18].

هذا معنى القَولِ بقِدَمِ كلامِ اللهِ وأزليَّتِه، وهذه التفصيلاتُ التي ذكرها ابنُ الزَّاغونيِّ موجودةٌ أيضًا في كَلامِ أبي يَعلى، وفي كلامِ ابنِ عَقيلٍ[19].

فهل يَقبَلُ السِّياقُ التَّاريخيُّ نِسبةَ هذا القَولِ للإمامِ أحمَدَ؟

هذا المذهَبُ يعني أنَّ اللهَ تكلَّم بكلامِه كُلِّه في الأَزَلِ قَبْلَ أن يخلُقَ الخَلْقَ، ثمَّ صار الكلامُ محالًا عليه، وعليه فكُلُّ آيةٍ أو حديثٍ يُفهَمُ منها أنَّ اللهَ تكلَّم بعد كلامِه الأوَّلِ، فلا بُدَّ مِن تأويلِ الكلامِ فيها وصَرْفِه عن ظاهِرِه؛ ليُصبِحَ معناه إسماعَ الكلامِ. فإذا قال اللهُ: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} فالمعنى: وإذ أسمَعَ رَبُّك موسى كلامَه القديمَ الذي قاله قَبْلَ أن يَخلُقَ موسى!

فهل يَقبَلُ السِّياقُ التَّاريخيُّ نِسبةَ هذا القَولِ النَّشازِ للإمامِ أحمَدَ، ولأهْلِ الحَديثِ؟

هذا المذهبُ الرَّديءُ الذي أُلصِقَ بمذهبِ الإمام أحمدَ يتناقضُ مع قولِ الإمامِ نفسِه: إنَّ اللهَ لم يزَلْ يتكلَّمُ إذا شاء، فلذلك وجَدْنا أبا يعلى -غفر اللهُ له- يتأولُ كلامَ الإمامِ ويقولُ: "لم يزل متكلِّمًا إذا شاء، معناه. إذا شاء أن يُسمِعَه"[20].

ووجَدناهُ -أيضًا- يقولُ في موضِعٍ آخَرَ:

"فإنْ قيل: فقد رُوي أنَّ اللهَ تعالى يتكلَّمُ في وقتٍ بعد وقتٍ، نحوَ ما روي إنَّ اللهَ تكلَّم بعد ما خلق ذُريةَ آدمَ[21]، وتكلَّمَ لَمَّا خلق ذريةَ آدمَ وأخذ الميثاقَ عليهم، وتكلَّم بعد أن بعث إبراهيمَ، وبعد أن بعث أيوبَ وداودَ؟ قيل: معناه: أنه يُفْهِمُ خَلْقَه ويُسمِعُهم كلامَه وقتًا بعد وقتٍ، أو شيئًا فشيئًا. وكذلك الجوابُ عمَّا رُوِيَ أنَّ الله يكلِّمُ عبادَه بعد قيامِ القيامةِ، فقال: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ}، وقوله: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ}، وقول أهلِ الجنَّةِ له: (يا ربِّ ألم تغفِرْ لنا؟ فيقولُ: بلى)، معناه ما تقدَّم من الإفهامِ والإسماعِ لكلامه القديم".

هكذا تأوَّل أبو يعلى كلامَ الإمامِ أحمدَ، وتأوَّلَ معه نصوصَ الكِتابِ والسُّنَّةِ.

نرجعُ بعد هذا إلى أخينا الأُسْتاذِ الغِزِّيِّ -أصلَحَ الله قلبَه-،، فنراه يذكُرُ أنَّ ابنَ تيميَّةَ وأتباعَه "يرفضون توجيهَ عامَّةِ فُقَهاءِ المذهَبِ لها بأنَّ المشيئة متعلِّقةٌ بإسماع ِالكَلامِ الأزَليِّ، لا بالكلامِ نَفسِه".

وبعد ما نازع الأُسْتاذُ في ثبوتِ مقولة الإمام: "إنَّ اللهَ لم يزلْ يتكلَّمُ إذا شاء"، وجدناه ينازعُ في دلالتها، فيقول: "هذه المقولةُ (إنَّ اللهَ لم يَزَلْ متكَلِّمًا إذا شاء)، يمكِنُ أن تفسَّر بــ:

أ-أنَّ الأزَليَّةَ هنا هي أزليَّةَ القُدرةِ على الكلامِ....
ب-أنَّ المشيئةَ هنا متعلِّقةٌ بالإسماعِ لا بالكلامِ، كما فهم ذلك عددٌ من فُقهاءِ المذهَبِ الحَنبليِّ المتقَدِّمين".
ثمَّ في الصَّفحةِ التالية أسقط الاحتمالَ الأوَّلَ، وأبقى الثانيَ[22].

الأُسْتاذُ الناقِدُ الباحِثُ، البريءُ من الرساليَّة، المستغرِقُ في قواعِدِ النَّقدِ التاريخيِّ، المتشَبِّعُ بأصولِ البحثِ العِلميِّ، لم يتوقَّف أبدًا عند الإشكالِ التاريخيِّ الهائل الذي يمنع من نسبةِ تأويلِ الكلامِ بالإسماعِ للإمامِ أحمدَ؛ ولو فعلَ لأبصر السدَّ المنيعَ الذي يمنَعُ مِن نِسبةِ سَرْديَّةِ القِدَمِ للإمامِ أحمدَ، وما يتبعُ ذلك من تسليطِ التأويلِ البعيدِ على مِئاتِ النُّصوصِ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ.

وربما يكونُ في سياقِ المزيدِ مِنَ الشَّواهِدِ ما يشرحُ ضَعْفَ تلك السَّرديَّةِ:

حسَبَ هذه السَّرديَّةِ: فإن مَذهَبَ الإمامِ أَحمَدَ: أنَّ اللهَ سبحانَه لم يَخلُقْ آدَمَ، ثُمَّ قالَ للمَلائِكةِ: اسْجُدوا له، بل إنَّ اللهَ قالَ: (اسْجُدوا لآدَمَ) قَديمًا في الأزَلِ قَبْلَ أن يَخلُقَ آدَمَ، وقَبْلَ أن يَخلُقَ المَلائِكةَ، وقَبْلَ أن يَخلُقَ السَّمَواتِ والأرْضَ والخَلائِقَ كلَّها!

واللهُ سبحانَه -حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ- قالَ للمَلائِكةِ قَبْلَ أن يُخلَقُوا، وقبل أن تخلق الأرض: (إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَليفةً)، فلمَّا خَلَقَ الأرضَ والملائكة-بَعْدَ ذلك-أَسمَعَهم كَلامَه الذي كانَ خاطَبَهم به قَديمًا في الأَزَلِ، فلمَّا سَمِعوا ذلك قالوا: (أَتَجعَلُ فيها مَنْ يُفسِدُ فيها ويَسفِكُ الدِّماءَ)!

وبَعْدَما قالَتِ المَلائِكةُ هذا، لم يَقُلِ اللهُ لهم: (إنِّي أَعلَمُ ما لا تَعلَمونَ)، بل إنَّ اللهَ كانَ قد قالَ هذا -أيضًا- قَديمًا في الأَزَلِ، قَبْلَ أن تقول الملائكة: (أَتجعَلُ فيها من يُفسِدُ فيها)!

حسَبَ هذه السَّرديَّةِ: إذا قالَ اللهُ: (فلمَّا جاءَ موسى لميقاتِنا وكَلَّمَه رَبُّه، قالَ: رَبِّ أَرِني أَنظُرُ إليك، قال: لن تَراني، ولكنِ انْظُرْ إلى الجَبَلِ)، فليس مَعْنى هذه الآيةِ أنَّ موسى جاءَ لميقاتِ رَبِّه، ثُمَّ قالَ: (أَرِني أَنظُرْ إليك) فقالَ اللهُ له: (لن تَراني). هذا التفسير للآية منكرٌ ومحالٌ على الله، بل معناها الصحيح أنَّ اللهَ سبحانَه قالَ لموسى قَبْلَ أن يَخلُقَه، وقبل أن يخلق الجبل: (لن تَراني، ولكنِ انْظُرْ إلى الجَبَلِ)، ثُمَّ لمَّا خَلَقَ اللهُ الجبلَ، وخلق آدَمَ، وتَناسَلَتْ ذُرِّيَّتُه، ثُمَّ وُلِدَ موسى وكَبِرَ وجاءَ لميقاتِ رَبِّه، وقالَ: (رَبِّ أَرِني أَنظُرْ إليك)، عندَ ذاك أَسمَعَه اللهُ الكَلِمةَ القَديمةَ الأزَليَّةَ التي قالَ فيها: (لن تَراني، ولكنِ انْظُرْ إلى الجَبَلِ)!

لسْتُ هنا أُطالِبُ الأسْتاذَ بالاسْتِدلالِ على صِحَّةِ هذا المُعْتقَدِ، فهو -كما عرفنا من قبلُ- (لا يكترثون بهذا)، بل أُطالِبُه فقط أن يستثمر نصائح وتعاليم عبدالرحمن بدوي، فينظُر في إثبات، -أو حتى إمكان إثبات-نسبة هذا الهزلَ للإمامِ أَحمَدَ ولأهل الحديث معه!

وإن كانَ الأُسْتاذُ يرى معقوليَّة هذه النسبة، أو أنَّ هناك احتمالًا ولو ضئيلًا في صحتها عن أحمد وأهل الحديث، فرُبَّما يكونُ في سَرْدِ المَزيدِ مِن الأمْثِلةِ ما يَشرَحُ الإشْكالَ التَّاريخيَّ الضَّخمَ الذي سيَعتَرِضُ طريقه؛ فهناك المِئاتُ مِن النُّصوصِ في القُرآنِ وفي السُّنَّةِ، سيكونُ على الأُسْتاذِ أن يَسْتنفِرَ قُدراتِه النَّقْديَّةَ التَّاريخيَّةَ كلَّها، ويُنقِّبُ في كُتُبِ التَّفاسيرِ والشُّروحِ؛ ليُثبِتَ أنَّ أَحمَدَ -أو غَيْرَه مِن ألوف المحدثين- فَسَّروا ولو واحِدًا مِنها بهذه الطَّريقةِ، ولن يَسْتطيعَ ذلك!

فحسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: فإنَّ اللهَ قالَ: (وإنَّ عليك اللَّعْنةَ إلى يومِ الدِّينِ) قَبْلَ أن يَسْتَكبِرَ إبْليسُ عن السُّجودِ لآدَمَ، بل قَبْلَ أن يُكلَّفَ بالسُّجودِ لآدَمَ، بل قد قالَ اللهُ هذا قَبْلَ أن يَخلُقَ إبْليسَ وآدَمَ والمَلائِكةَ!

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: فإنَّ اللهَ قالَ في الأَزَلِ قَبْلَ أن يَخلُقَ إبْليسَ والجَنَّةَ: (اهبِطْ مِنها، فما يكونُ لك أن تَتَكَبَّر فيها)، ثُمَّ إنَّه خَلَقَ الجَنَّةَ بَعْدَ ذلك، وخَلَقَ إبْليسَ، وأَسكَنَه الجَنَّةَ، ثُمَّ أمَرَه بالسُّجودِ لآدَمَ، فلمَّا اسْتَكبَرَ أَسمَعَه قولَه الذي قاله في الأزل: (اهْبِطْ مِنها)!

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: فإنَّ اللهَ قال لآدَمَ وحوَّاء: (ألمْ أنهَكْما عن تِلْكما الشَّجَرةِ)، قبل أن يَسْمَعا نَهْيَه عنها، وقبل أن يخلُقَ الشَّجَرةَ، وقبل أن يأكُلَ آدمُ وحوَّاءُ منها!

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: فإنَّ اللهَ لم يَقُلْ: (اهْبِطا مِنها جَميعًا) بَعْدَما أكَلَ آدَمُ وحَوَّاءُ مِن الشَّجَرةِ، بل قد قالَ اللهُ: (اهْبِطا مِنها جَميعًا) قَبْلَ أن يَأكُلا مِن الشَّجَرةِ، وقَبْلَ أن يَسكُنا الجَنَّةَ، وقَبْلَ أن يُخلَقا، وقَبْلَ أن تُخلَقُ الشَّجَرةُ والجَنَّةُ كلُّها!

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: فإنَّ اللهَ قالَ لنوحٍ: (واصْنَعِ الفُلْكَ) قَبْلَ أن يَخلُقَ نوحًا! وقالَ: (احْمِلْ فيها مِن كُلٍ زَوْجَينِ اثْنَينِ وأَهلَكَ) قَبْلَ أن يَصنَعَ نوحٌ فُلْكَه، وقَبْلَ أن يكونَ له أهْلٌ!

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: فإنَّ قولَ اللهِ: (إنَّه ليس مِن أَهْلِك إنَّه عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) كانَ قَبْلَ أن يقولَ نوحٌ: (رَبِّ إنَّ ابْني مِن أَهْلي)، وقَبْلَ أن يَغرَقَ ابنُه، بل قَبْلَ أن يكونَ له ابنٌ، وقَبْلَ أن يكونَ هناك طُوفانٌ، وقَبْلَ أن يكونَ قَوْمُ نوحٍ!

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: فإنَّ اللهَ قالَ للنَّارِ: (كوني بَرْدًا وسَلامًا على إبْراهيمَ) قَبْلَ أن يُلقَى إبرْاهيمُ في النَّارِ، بل قَبْلَ أن يكونَ ثَمَّةَ نارٌ وإبْراهيمُ!

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: إذا قالَ اللهُ عن أصْحابِ السَّبْتِ: (فلمَّا عَتَوا عَمَّا نُهُوا عنه قُلْنا لهم كونوا قِرَدةً خاسِئينَ)، فمَعْنى الآيةِ أنَّ اللهَ قالَ لهم قَبْلَ أن يَخلُقَهم بَشَرًا: (كونوا قِرَدةً خاسِئينَ)!

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: فإنَّ قولَ اللهِ: (يا زَكَرِيَّا إنَّا نُبَشِّرُك بغُلامٍ اسْمُه يَحْيى) كانَ قَبْلَ أن يُخلَقَ زَكَرِيَّا، وقَبْلَ أن يقولَ: (هَبْ لي مِن لَدُنْك وَلِيًا يَرِثُني ويَرِثُ مِن آلِ يَعْقوبَ)!

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: فإنَّ اللهَ قالَ لموسى وهارونَ: (اذْهَبا إلى فِرْعَوْنَ إنَّه طَغى) قَبْلَ أن يَطْغى فِرْعَوْنُ، وقَبْلَ خَلْقِ موسى وهارونَ!

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: فالله قال لموسى (ألق عصاك) قبل أن يخلق موسى والعصا!

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: فإنَّ اللهَ قالَ لفِرْعَوْنِ قَبْلَ أن يَغرَقَ: (فاليَوْمَ نُنَجِّيك ببَدَنِك لتَكونَ لِمَن خَلْفَك آيةً)!

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: فإنَّ اللهَ قالَ لموسى: (فاخْلَعْ نَعْلَيك إنَّك بالوادِ المُقَدَّسِ طُوًى) قَبْلَ أن يَأتيَ موسى للوادي، وقَبْلَ أن يَلبَسَ نَعْلَيه، وقَبْلَ أن توجَدَ النِّعالُ والأوْدِيةُ!

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: فإنَّ اللهَ قالَ لبَني إسْرائيلَ: (إنِّي مُنزِّلُها عليكم) قَبْلَ أن يَطلُبوا إنْزالَ المَائِدةِ عليهم!

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: فإنَّ اللهَ قالَ قَبْلَ أن يَخلُقَ عيسى وأمَّه: (يا عيسى اذْكُرْ نِعْمَتي عليك وعلى والِدتِك إذ أَيَّدْتُك برُوْحِ القُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ في المَهْدِ وكَهْلًا)!

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: فإنَّ اللهَ قالَ: (عَبَسَ وتَوَلَّى أنْ جاءَه الأَعْمَى) قَبْلَ أن يَجيءَ الأَعْمى، وقَبْلَ أن يُعْبَسَ في وَجْهِه، وقبل أن يُبعث النبي ﷺ!

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: فإنَّ اللهَ قالَ قَبْلَ أن يولَدَ النَّبيُّ ﷺ، وقَبْلَ أن يكونَ له أزْواجٌ: (يا أيُّها النَّبيُّ لِمَ تُحرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لك تَبْتَغي مَرْضاتَ أزْواجِك)!

حسَبَ هذه السَّرديَّةِ: فإنَّ اللهَ قالَ ورسول الله ﷺ في العَدَمِ: (يا أيُّها النَّبيُّ إنَّا أَرسَلْناك شاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذيرًا)! وقال: (يا أيُّها المدثر قم فأنذر)، وقال: (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلًا)!

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: فإن الله قال قبل أن يخلق الناس، وقبل أن تقوم القيامة: (هذا يومُ الفصل جمعناكم والأولين)!

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: فإنَّ قولَ اللهِ تَعالى: (يَوْمَ نَقولُ لجَهَنَّمَ هلِ امْتَلَأْتِ وتَقولُ هلْ مِن مَزيدٍ) مَعْناه: أنَّ اللهَ قالَ هذا لجَهَنَّمَ قَبْلَ أن تَمْتلِئَ، وقَبْلَ أن يَدخُلَها أحَدٌ!

حسَبَ هذه السَّرديَّةِ: فإنَّ أهْلَ النَّارِ إذا اسْتَغاثوا وقالوا يَوْمَ القِيامةِ: (رَبَّنا أَخرِجْنا مِنها فإن عُدْنا فإنَّا ظالمِونَ)، فإنَّ اللهَ لا يَقولُ لهم في ذلك الوَقْتِ: (اخْسَؤوا فيها ولا تُكَلِّمونِ)؛ لأنَّه سَبَقَ أن قالَ هذا قَديمًا في الأَزَلِ قَبْلَ أن يَخلُقَهم، وقَبْلَ أن يَسْتَغيثوا، وقَبْلَ أن يَدخُلوا النَّارَ، بل قبل أن يكونوا ظالمين!

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: فاللهُ لم يَتَكلَّمْ بالتَّوْراةِ قَبْلَ الإنْجيلِ، ولم يَتَكلَّمْ بالإنْجيلِ قَبْلَ القُرآنِ!

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: فاللهُ لا يَتَكلَّمُ بالآيةِ المَنْسوخةِ قَبْلَ الآيةِ النَّاسِخةِ!

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: لم يَتَكلَّمِ اللهُ بسورةٍ قَبْلَ سورةٍ، ولا بآيةٍ قَبْلَ آيةٍ!

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: لم يَقُلِ اللهُ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) قَبْلَ: (اللَّهُ الصَّمَدُ)!

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: لم يَتَكلَّمِ اللهُ قَطُّ بكَلِمةٍ قَبْلَ كَلِمةٍ.

حسَبَ هذه السَّرْديَّةِ: لم يَتَكلَّمِ اللهُ بحَرْفٍ قَبْلَ حَرْفٍ؛ فقولُه: (بِسْمِ اللَّهِ) لا يَجوزُ أن يُقالَ: إنَّ اللهَ تَكلَّمَ بالباءِ قَبْلَ السِّينِ، ولا بالسِّينِ قَبْلَ الميمِ!

وهكذا يجبُ أن تفسَّرَ المِئونَ مِن الآياتِ والأحاديثِ التي يردُ فيها كلامٌ لله سبحانه، ومَن خالف ففسَّرها على ظاهِرِها فقد شبَّه اللهَ بخَلْقِه، ونسب له ما يُنزَّهُ عنه!

فالسُّؤالُ الآن: من أين جاء هذا القولُ المُحْدَثُ العُجابُ؟
هل استخرجه المُحَدِّثون من مَصاحِفِهم وصَحائِفِهم؟

إنْ وُفِّق الأُسْتاذُ للإنصافِ ولحُسنِ النَّظَرِ، فسيُدرِكُ أنَّ هذا القولَ لا يمكنُ بأي حالٍ أن تُنبِتَه بيئةُ أهلِ الحديثِ، أو يقبَلَه نهجُ أحمدَ. ولو رُزقَ العدلَ في نَقْدِه التاريخيِّ وبحثِه العِلميِّ، لتوجَّهَت غَضْبَتُه (النقديَّة لا الدينيَّة) للإجراءاتِ البحثيَّةِ التي يسلكُها من ينسُبُ لأحمدَ مِثلَ هذا القَولِ الرَّكيكِ الذي لا يستطيع أحدٌ أن يدَّعيَ نشأتَه في بيئةِ أهلِ الحَديثِ.

هذا القَولُ لا يمكِنُ الوصولُ إليه إلَّا عبرَ أصلٍ فلسفيٍّ يُسمَّى: (دليلَ الحُدوثِ).
وهو أصلٌ علاقتُه بالمحَدِّثينَ تُشبِهُ علاقةَ الأُسْتاذِ بالنَّقْدِ التاريخيِّ.
هو دليلٌ فلسفيٌّ كان المتكلّمون يحاجُّون به الفلاسفةَ في إثباتِ الصَّانعِ ونَفيِ قِدَمِ العالَمِ.

وبعيدًا عن الاستغراقِ في تفصيلاتِ ذاك الأصلِ الفَلسفيِّ، سأحاول - مُتَجَرِّعًا الغُصَصَ- تلخيصَ ما يعنينا منه، مع أنَّ له مقدِّماتٍ أكثَرَ تعقيدًا مما سيُذكَر هنا:

فمن فروعِ وثمارِ (دليلِ الحُدوثِ):

1-أنَّ ذاتَ اللهِ سبحانه قديمةٌ منزَّهةٌ عن أن تقومَ بها الحوادِثُ.
2-(الكلامُ) من جملةِ الحوادِثِ؛ لأنه يتركَّبُ من حروفٍ وأصواتٍ متعاقبة، تحدثُ شيئًا بعد شيءٍ، جملةً بعد جملةٍ، وكلمةً بعد كلمةٍ، وحرفًا بعد حرفٍ، فوجودُ الكلامِ مرتبطٌ بالأزمانِ والأوقاتِ، وما كان كذلك فهو حادثٌ لا يمكِنُ أن يقومَ بالذَّاتِ القديمةِ.
3-لما تقلَّدت المعتَزِلةُ دليلَ الحُدوثِ لإثباتِ الصانِعِ، وعَرَفوا -مع ذلك- طبيعةَ الكلام بحروفه المرتَّبة المتعاقِبة، أبَوا أن يكونَ لله كلامٌ من حروفٍ وأصواتٍ تقوم بذاتِه؛ لأنهم لو قالوا بهذا لأثبتوا قيامَ الحوادِثِ بالذَّاتِ القديمة، وبهذا ينهدمُ دليلُ الحدوثِ عليهم! فمن هنا تحوَّلوا إلى القولِ بأنَّ كلامَ الله مخلوقٌ منفَصِلٌ لا يقومُ بالذَّاتِ القديمةِ.
4-جاءت الأشعريَّةُ، وبسبب دليلِ الحُدوث أيضًا أبَوا أن يكونَ لله سبحانه كلامٌ من حروفٍ وأصواتٍ متعاقبةٍ تقومُ بذاتِه، لأنَّه -كما يقولُ الباقِلَّاني-: "ما تقدَّم بعضُه عن بعضٍ، فهو صِفةُ الخَلقِ لا صِفةُ الحَقِّ"[23]). فمن هنا ذهبت الأشعريةُ إلى القَولِ بالكلامِ النَّفسي، وقالوا: إنَّ كلامَ الله حقيقةً ليس حروفًا وأصواتًا، وإنما هو معنًى قائِمٌ بذاتِ اللهِ سبحانه!
5-ثمَّ جاء متكَلِّمو الحنابلةِ في آخِرِ القَومِ، لكنَّهم واجهوا معضلةً لم تواجِهْها المعتزلةُ والأشعريَّةُ، فإمامهم الأجلُّ أحمدُ بنُ حنبلٍ -بسبب معاصرتِه لمحنةِ خَلقِ القُرآنِ- له نصوصٌ كثيرةٌ في إثباتِ أنَّ الله يتكلَّمُ بحرفٍ وصوتٍ، فلم يجدوا أمامهم إلا ابتكارَ نوعٍ جديدٍ من الكلامِ لا يعرِفُه العقلاءُ: كلامٌ واحدٌ قديمٌ أزليٌّ، لا يرتبطُ بالأزمانِ، حروفُه لا ترتيبَ فيها ولا تعاقُبَ، لا تتقدَّمُ فيه كلمةٌ على كلمةٍ، ولا حرفٌ على حرفٍ!

ابتكروا هذا النوعَ من الكلامِ؛ لأنَّ دليلَ الحدوثِ يمنعهم من إثباتِ كلامٍ بحروفٍ مرتَّبةٍ متعاقبةٍ تقومُ بالذَّاتِ الإلهيَّةِ!

فمِن هذا المنبَعِ جاء القولُ بقِدَمِ كلامِ اللهِ سُبحانه وأزليَّتِه!
وأؤكِّدُ أنَّ هذا تلخيصٌ وتبسيطٌ، وإلَّا فدليلُ الحدوثِ وإشكالاتُه أعقَدُ ممَّا ذُكر.

نرجعُ الآن للأستاذِ الذي كان يعظُ بحرارةٍ في أصولِ البحثِ والنقدِ التاريخيِّ، ويؤكِّدُ على النَّظَرِ في البيئةِ العِلميَّةِ، والظَّرفِ الاجتماعيِّ للعالِم قبل نِسبةِ القَولِ إليه.

الأُسْتاذُ الذي كان يُعلنُ -بنظرته الشمُوليَّة-أنَّ مقولة: (لم يَزَلْ يتكَلَّمُ متى شاء) تتطلَّبُ مقدماتٍ فلسفيَّةً شائكةً غريبةً على مجتَمَعِ أهلِ الحديثِ، لم يتحرَّك حِسُّه النقديُّ وهو ينزحُ شواهِدَه واعتراضاتِه من كُتُبِ الكلامِ التي تَنسُبُ قِدَمَ الكلامِ للإمامِ أحمَدَ أو لأهلِ الحديثِ!

فرُغْمَ تبرؤ الأُسْتاذ من المذهبيَّة وتَنزُّههِ من الرساليَّة، إلَّا أن نظرتَه الشمُوليَّةَ عندما جاء القول بـ (قِدَم القُرآنِ وأزليَّته) ذهبت في سُباتٍ عميقٍ منعها من التوقُّفٍ عند المقدِّماتِ الفلسفيَّة الشَّائكة التي بُني عليها هذا القَولُ!

فالذي يقولُ بقِدَمِ كلامِ الله وأزليَّته سيبدأ أولًا بإثباتِ حُدوثِ العالَم وقِدَم الصَّانِعِ عن طريق دليل ِالحدوث، لينتقِلَ بعد ذلك إلى القَولِ بنَفيِ حُلولِ الحوادِثِ بذاتِ الله سبحانه، قبل أن ينتهيَ إلى القَولِ بقِدَمِ القُرآنِ، ثم سيحتاجُ بعد هذا إلى العودةِ على مِئاتِ النُّصوصِ القُرآنيَّةِ والنَّبَويَّة؛ ليتأوَّلها على تلك الطريقةِ التي شُرِحَت آنفًا.

الأُسْتاذُ لم يتوقَّف عند هذا الإشكالِ..
مع أنَّه كان يمارسُ نَقْدًا تاريخيًّا، لا زخرفةً لفظيَّةً!

سؤالٌ في خاتِمةِ هذا الحَلقةِ:

رغم ما رأينا من دلائِلَ وبراهينَ تُثبِتُ أنَّ الأُسْتاذ نسبَ للإمام أحمد القَولَ بقِدَمِ القرآنِ وأزليَّته، إلَّا أنَّ الأُسْتاذَ -غفر الله له- يتوجَّعُ من هذا الادِّعاءِ، ويقولُ إنِّي قوَّلتُه ما لم يقُلْ!

لكِنْ ما لحظْتُه أن الأُسْتاذ لم يقُلْ إِّني نَسَبْتُ له ما يخالِفُ تصوُّرَه وقناعتَه العلميَّةَ، هو ينكِرُ فقط أن يكونَ قال ذلك في مقالتِه التي أنتَقِدُها!

فأقولُ لأخي الأستاذِ الغزيِّ -أنارَ الله بصِيرتَه-:

نحن الآن لا نبحثُ في تحريرِ قَولِ رَجُلٍ في عالمِ الأمواتِ.
نحن نختَصِمُ في تصَوُّرِك -سلَّمك الله- أنتَ لمذهَبِ الإمامِ أحمَدَ.
وأنت حيٌّ، قادرٌ، مريدٌ، سميعٌ، بصيرٌ، وناقدٌ تاريخيٌّ كبيرٌ.
فاكتُبْ لنا تصوُّرك لمذهَبِ الإمامِ لنفْهم عنْك.
لستُ هنا أسائِلُك عن دينِك ومعتَقَدِك وإيمانِك.
سؤالي فقط عن تصوُّرك لمذهَبِ الإمامِ أحمدَ في الكلامِ: أقديمٌ أم مُحْدَثٌ؟

أنت في كلامِك مع الغريب تقول: لستُ مَعْنيًّا بالخروجِ بتصَوُّرٍ نهائيٍّ لمذهب الإمامِ.
أمَّا الآن فهناك شخصٌ ترى أنه يفتري وينسُبُ لك ما لم تَقُلْ، وتطالِبُه بالاعتذارِ.

فأبرِزْ ما يوضِّحُ كَذِبَ هذا المفتري، وبيِّنْ رأيَك العِلميَّ؛ حتى لا ينجَحَ المفترون في الإساءةِ إليك، وفي تشويهِ طَرْحِك العِلمِّي! ولن تحتاجَ بعد هذا لأيِّ اعتذارٍ من أحدٍ.

إلَّا أن تقولَ: إنَّك متحيِّرٌ لم يتحرَّرْ لك مذهَبُ أحمدَ في هذه المسألةِ، وما زِلْتَ في مرحلةِ تساؤُلٍ وبحثٍ، فلْتُعلِنْ هذا -أيضًا- ولا تثريبَ عليك.

لكِنْ سيكون عليك وقتها التخفيفُ مِن نَبرةِ التعالي والازدراءِ، والانتقالُ إلى أدَبِ الباحِثِ أو المُدارِسِ الذي يطرَحُ استِشْكالاتٍ بين يَدَيْ شُرَكائه في التخَصُّص ليَخرُجَ معهم بجوابٍ.

أليس من مثيراتِ العَجَبِ -أيُّها الأُسْتاذ- أن تهجُمَ على المحَقِّقِ وتُسيءَ إليه، وتسَوِّدَ بحثًا كاملًا في لَومِه ونَقْدِه، لمجرَّدِ أنَّه لم يناقِشْ إشكالاتٍ طويلةً -عندك أنتَ وليست عنده- تتعلَّقُ بتصَوُّرِ مَذهَبِ أحمدَ، بينما أنت تمتَنِعُ مِن عَرضِ تصَوُّرِك لمذهَبِ الإمامِ؟!

(أقولُ هذا كلَّه تنَزُّلًا مع دعوى أنَّك لم تنسُبْ لأحمَدَ القَولَ بالقِدَمِ).

للحديث بقيَّةٌ ...
الحلقة الثالثة

 

([1])  قاله الأستاذ في ورقته: "رسالة لمن أراد الفهم من المتَّصفين بالأخلاق الحسنة"، (ص5).       

([2])  القراءة المذهبيَّة للتاريخ العقدي (ص164).                                               

([3])  القراءة المذهبيَّة للتاريخ العقدي (ص165).                                               

([4])  المحقق الفاضل كان يكتب مقدمة تحقيق موجزة، فيأتي الأستاذُ ليشُن عليه هجمته واتهاماته (ونقدَه التاريخي!)، ويطالبه بتحرير مذهب أحمد، ومناقشة الاعتراضات، والنظر في السياق التاريخي، وفي مجتمع أهل الحديث، و...و...و...، كل هذا يطالب الأستاذ بمناقشته في مقدمة تحقيق، ثم يأتي هو ليكتُب بحثاً مستقلاً عن المسألة، ثم يقول بعد ذلك: "لسنا بمعنيين بالخروج بموقفٍ نهائي للإمام"!

([5])  يقصد اتفاق الحنابلة.                                                                    

([6])  تبصرة الأدلة في أصول الدين (ص308).                                                 

([7])  شرح الزيادات على الأصول (ص169).                                                  

([8])  الرياض المونقة في آراء أهل العلم (ص119).                                              

([9])  تفسير الرازي (14/353).                                                               

([10])  أبكار الأفكار (1/355).                                                              

([11])  درء تعارض النقل والعقل (2/307)                                                    

([12])  القراءة المذهبيَّة للتاريخ العقدي (ص180).                                             

([13])  القراءة المذهبيَّة للتاريخ العقدي (ص181).                                             

([14])  القراءة المذهبيَّة للتاريخ العقدي (ص169).                                             

([15])  القراءة المذهبيَّة للتاريخ العقدي (ص167).                                             

([16])  القراءة المذهبيَّة للتاريخ العقدي (ص166).                                             

([17])  القراء المذهبية للتاريخ العقدي (ص182).

([18])  انظر هذه النقول مرتبةً في الإيضاح في أصول الدين، لابن الزاغوني (ص433)، (ص350)، (ص358)، (ص357).

([19])  مختصر المعتمد في أصول الدين (ص180)، (ص234)، إبطال التأويلات (ص542-548) للقاضي أبي يعلى، الإيضاح في أصول الدين، لابن الزاغوني (ص350)، الإرشاد في الاعتقاد، لابن عقيل (189-190).                     

([20])  ذكر هذا في كتابه (إيضاح البيان في مسألة القرآن)، كما نقله عنه ابن تيمية في الفتاوى (6/159).

([21])  كذا وقع في النسخة المطبوعة من (إبطال التأويلات)، وكذلك رأيتُه في النسخة الخطية (ل268/أ)، والظاهر أن صواب العبارة: (بعدما خلق آدم)، كما يدل عليه السياق.

([22])  القراء المذهبيَّة للتاريخ العقدي (171-172).

([23])  الرسالة الحرة (ص94).