قراءة وتعريف

التأول في إباحة الدماء - المفهوم، والحدود، والضمانات الشرعية
book
فهد بن صالح العجلان
عنوان الكتاب: التَّأولُ في إباحة الدِّمَاءِ - المفهوم، والحدود، والضَّمانات الشَّرْعِيَّة
اسـم المؤلف: فهد بن صالح العجلان
النـاشــر: تكوين للدِّارسات والأبحاث - لندن
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: 1436هـ - 2015م
عدد الصفحات: 143

التعريفُ بموضوعِ الكِتاب:
لا يَخْفى ما للدِّماء من حُرْمَةٍ في الشريعة الإسلاميَّة؛ فحِفْظُ الدَّمِ أحدُ المقاصِدِ التي جاءت الشَّريعة بصِيانتها، وقد شدَّدَ الدِّينُ الإسلاميُّ على حُرمة قتْل النَّفْس التي حرَّمها الله تعالى، فجاءتْ نصوصٌ عديدة تؤكِّدُ تلك الحرمة؛ كقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]، وقولِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديثِ الذي أخرجه البخاريُّ من حديثِ عبدِ الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما: ((لَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)).
وصِيانةً لهذا المقْصِد الشَّرعيِّ فَرَضَتِ الشَّريعةُ القِصاصَ على القاتل جزاءً وعدلًا؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]، وقال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179].
ومع هذا جاءت حالاتٌ من قتْل النَّفْس المحرَّمَة أسقطتِ الشَّريعَةُ فيها القِصاصَ عن القاتل، فمع كون الأصْلِ هو القِصاصَ صيانةً للدِّماء، فهناك حالةٌ استثنائيَّةٌ يَسقُط فيها القِصاص؛ بسبب كون القاتِل متأَوِّلًا في القتْل ولم يَفْعَلْه عمدًا وعدوانًا محضًا، وإنما قَتَلَ بناءً على أنَّه اعتقد أنَّ فِعْلَه في هذه الحالة مباحٌ شرعًا، فلم يُعامَلْ في الشَّرْع كما يُعامَلُ القاتل المعتدي، بل كان لتأوُّلِهِ أثرٌ في إسقاط القَصَاص عنه، ولكن كان لا بُدَّ من الحِفاظ على الأصلِ مِن تمدُّد الحالة الاستثنائيَّة.

وكتابُ هذا الأسبوعِ جاءَ مُناقِشًا هذه القضِيَّة، وموضِّحًا الضوابطَ والقيود التي يَنبغي مراعاتُها؛ محافظةً على حُرْمَةِ الدَّمِ، خاصَّة وأنَّ الواقِع يجعل دراسةَ هذه المسألة وبيانها غايةً في الأهمِّيَّة؛ حيث إنَّ المبالَغَةَ في التأوُّل تُسْقِطُ كلَّ ما عظَّمَتْه الشريعةُ من حُرمة الدِّماء، وتَجعل القاتِلَ يفعل فَعْلَتَه وهو مرتاحُ الضمير لظَنِّهِ أن ما يفعله جائز.

فالبحث إذن يتناول جانبًا مُهِمًّا من الجوانب المتعَلِّقَة بعِصْمَةِ الدِّماءِ، وهو الوقوعُ في إزهاقها بناءً على اعتقادِ إباحةِ هذا الفعل؛ فهو ليس خطأً مَحْضًا، ولا عمدًا محضًا، بل هو قتْل عَمديٌّ مبنيٌّ على اعتقادِ صِحَّةِ الفعل وجوازه شرعًا، وهي حالةٌ خاصَّة لا بدَّ من ضبط حدودها الشَّرْعِيَّة لئلَّا تؤدِّيَ إلى انتهاك الأصل الشَّرعيِّ في حفظ الدِّمَاء المعصومة.
وهدفتْ هذه الدراسةُ إلى ثلاثةِ أمورٍ أساسِيَّة، بَيَّنَها المؤلِّفُ في بدايةِ بَحْثه، وتتلخَّص في الآتي:

أولًا: جَمْع الفروعِ الفقهيَّة التي ذكر الفقهاءُ فيها سقوطَ القِصاص فيها بسبب التَّأَوُّل، ووَضْعها في أصول جامعة لها.
ثانيًا: التوصُّل مِن خلال جَمْع تلك الفروع إلى مَعْرِفَة الضَّمانات الشَّرعيَّة، التي تحفظ أصلَ صِيانة الدِّماء من خُطورة التَّوَسُّع في التَّأَوُّل في سَفْكها.
ثالثًا: استخراجُ بعض الأصول الكُلِّيَّة والضوابط المنهجيَّة التي يُسْتَطَاع من خلالها محاكمةُ التَّصَرُّفات الواقعيَّة، التي تتعلَّق بقضايا التأوُّل في الدِّماء.

وقسَّم المؤلِّفُ هذه الدراسةَ إلى ثلاثة مباحِثَ رئيسيَّة:
في المبحث الأوَّل: عرَّف التأوُّلَ في إباحة الدِّماء في الاصطلاحِ الفِقهيِّ، مبَيِّنًا أنَّه قتلُ مَعْصومٍ لِظَنِّ إباحةِ دَمِه، ثم ذكَر الأثَرَ الشرعيَّ المترَتِّبَ على التأوُّل في إباحة الدماء، ووضَّحَ فيه أنَّ الأصْلَ هو ثبوتُ القِصاص على مَن تعمَّد القتل، إلَّا أنه تُوجَد دلائِلُ شرعيَّة تُثْبِتُ وُجُود تأثير للتأويل في أحكام القتل، فلا يجري عليه أحكامُ القتل العَمْد، بل تجري فيه أحكامٌ خاصَّة، وساق المؤلِّفُ من الدَّلائل الشَّرعيَّة سبعةَ أدلَّة على ذلك، وهذان هما المطلبان اللَّذان تَضَمَّنَهُما المبحثُ الأَوَّلُ.

وأمَّا المبحث الثاني: فجعلَه المؤلِّفُ لتَعْدادِ حالات التأوُّل في إباحة الدِّماء عند الفقهاء، وذلك في عشرة مَطالب؛ كُلُّ مطلب أفردَه بحالة مِن الحالات:
فأوَّلُ تلك المَطالِب حالةُ التَّأوُّل بالقتْل الخطأ بناءً على ظنٍّ غالبٍ بإباحة دمِه، وهو أنْ يقع في قتلٍ عَمْدٍ لأحد من الناس بناءً على ظنٍّ غالب بإباحة دمِه؛ نظرًا لقرينة ظاهرة، ثم يَتبيَّن أنه معصومُ الدَّمِ، وساق المؤلِّفُ صُوَرًا لهذه الحالة؛ منها: قتْل المسلمِ في دار الحرب بناءً على أنَّه كافِرٌ حربيٌّ مباح الدم، فهذا تأويلٌ مُعْتَبَر يمنع من القِصاص.

أمَّا المطلب الثَّاني: فكانَ عن حالة التأوُّل بالقتل تبعًا لِمَن يجوز قتلُه، وبيانها أن يَقتُل مسلمًا تبعًا لمن يباحُ قتلُهُم، فلا يتعمَّد قتْل المسلم ابتداءً، إنَّما لا يتوصَّل إلى قتْل مَن يجوز قتلُهُم إلَّا مِن خلال قتْل معصومِي الدَّم، ثم ذكَر خِلافَ العلماء في اعتبارِ هذه الحالة مُجيزةً للقتل، وخلافَهم في حدودِ ما يُجيز هذا الفعل.

المَطلَب الثالث: حالة التَّأوُّل بالجهل بوجودِ سبب العِصْمة استمساكًا بالأصل، مبيِّنًا أنَّ المقصود به: أنْ يَقتُل شخصًا على اعتبار أنَّه في الأصل الظَّاهر مباحُ الدم، ويجهل وجودَ سببٍ لِعِصْمَة دمه، وله صورٌ عدَّدها المؤلِّفُ تِباعًا.

وفي المطلب الرابع: ذَكَر حالة التأوُّل بالإكراه على القتل، وصورتها: أن يُكْرِهَ إنسانٌ آخَرَ على قتْل أحدٍ، فيقتله دفعًا للإكراهِ عن نَفْسِه وليس لقصد القتل، وبيَّن المؤلِّفُ أنَّ فِعْلَهُ حرامٌ بالاتِّفاق، وذكر الخلافَ في كونه معتبرًا أم لا، ورجَّح قول الجمهور أنَّه لا يُعْتَبَرُ تأويلًا مُعتبَرًا.

وفي المطلَب الخامس: تطرَّقَ إلى حالةِ التأوُّل بعفو صاحب الحقِّ عن حقِّه، كما إذا قال شخصٌ لآخَر: اقتلني فقتله، فلا شيءَ عليه عند جمهور الفقهاء، وخالَف المالكيَّةُ في تفصيلٍ عندهم ذَكَرَه المؤلِّف.

أمَّا المطلب السَّادس: فعن التأوُّل مع الشَّوْكة والامتناع، وهو أنْ يكون لقوم شوكةٌ ومَنَعَة ولهم تأويل وخرجوا على الإمام فحَصَل بينهم وبين أهل العدلِ دِماءٌ وأموال؛ نظرًا لأنَّهم متأوِّلون في هذا القتال، يرون أنَّهم على الحقِّ ويُقِيمونَ العَدْلَ ويَسعَوْن لإزاحة الظُّلم، وهو ما يُعرَف في الفقه بأحكام البُغَاة، وذكَر المؤلِّفُ كيفيَّة التعامُلِ معهم من قِبَل الإمام، وحُكم قِتالهم، وتطرَّق إلى مسألة: هل يضمن أهلُ العدل، وهل يضمن البُغاة، وذكر أقوال الفقهاء في المسألة، مُعَرِّجًا على بعض التفاصيل الفقهيَّة والمسائل المتعلِّقة بهذه الحالة.

المطلَب السابع: التأوُّل في القتْل فيما فيه خلافٌ، ويُقْصَدُ به القتْلَ فيما اختلف العلماءُ في جوازه، فإذا ما ارتكبَه بعضُ الناس بناءً على جوازه؛ فهل يُعتبَر مثل هذا التأويل؟ وذَكَر المؤلِّفُ صورًا لهذه الحالة، وأقوال العلماء فيها.

أمَّا المَطلَب الثامن: فكانَ عن حالة التأوُّل فيما لا يَسوغ شَرْعًا، وهو مَن يَقْتُل نفسًا معصومةً بلا تأويلٍ مُعْتَبَرٍ شرعًا، وعدَّد له المؤلِّفُ صورًا مع ذِكْر مذاهب الفقهاء فيها.

وفي المَطلَب التاسع: كان الحديثُ عن تأوُّل المقدور عليه، وبيَّن أنَّ المرادَ هنا الفَرْد المقدور عليه الذي لا شَوْكةَ له حين يرتكبُ جريمةً متأوِّلًا، فيقتل مسلمًا، أو يأخذ مالًا، فإنَّه يَضمَنُ الحقوقَ ولا أثرَ لتأوُّله، وذَكَر مَن قال بهذا من الفقهاء.

والمطلبَ العاشر والأخير في هذا المَبحثِ كان عن حالةِ تأوُّل القاضي في حُكْمِه قتْلَ المعصوم، فما يَنتجُ مِن حُكم القاضي من قَتلٍ لغير المستحِقِّ بناءً على اجتهاد خاطِئٍ، أو اعتبار لشهودٍ غير مُعْتَبَرينَ، فإنَّ ضمانَ هذا التلف لازمٌ، ولا قِصاصَ عليه كما بيَّن المؤلِّفُ؛ لأنَّه لم يتعمَّدْ قتل المسلم بلا حَقٍّ.

ثم جاء المَبحثُ الثالث، وكان موضوعُه الضَّماناتِ الشَّرعيَّةَ لصيانة الدِّماء من التوسُّع في التأوُّل في إباحة الدِّماء، وفي هذا المبحث عدَّد المؤلِّف الضماناتِ الشَّرعيَّةَ التي وضعَها الشارع من أجلِ صِيانة الدِّماء - التي الأصل والمقْصِدُ فيها الحفظ - من التَّوسُّع في التأوُّل في إباحة الدِّماء، وساق ثلاثةَ عَشرَ ضمانًا في مراعاتها تحجيمُ مَوْضِعِ الاستثناء وتقليصُه، بحيث يَظَلُّ للدَّمِ حُرْمَتُه وصيانتُه، وبحيث يكون اعتبار التأويل محصورًا في دائرة ضيِّقةٍ تتطلَّبُ التخفيف، فلا تَؤُول إلى التهاون في الدم والجرأة عليه، وهذه الضَّمانات التي ذكرها المؤلف هي:

1- إثباتُ التأوُّل بالبيِّنة الشرعيَّة.
2- أهميَّةُ قطْع النزاع بالحكم القضائيِّ.
3- العقوباتُ التعزيريَّة الرَّادِعَة للمتأوِّلين.
4- عدمُ الاعتبار لأنواعٍ كثيرة من التأوُّل.
5- انحصارُ التأوُّل في صور ضيِّقة محدَّدة.
6- التَّأثيمُ الأُخْرويُّ.
7- مشروعيَّةُ الصُّلْح.
8- تحريمُ الطَّاعةِ في القتل المحرَّم.
9- تضييقُ صلاحِيَّة إنفاذِ عُقوبات القتْل.
10- الكفَّارةُ والدِّيَة.
11- محاسَبَةُ الأمير لِمَن أخطأ.
12- ضرورةُ الاحتياطِ والتثبُّت ونشْر العِلم.
13- التَّثْبيطُ عن المسارعة في الفِتَن.

بعد هذا ختَم المؤلِّفُ بحثه بخاتمةٍ، لخَّص فيها ما تضمَّنَهُ كتابُه وما توصَّل إليه البحث، ووضَّح فيها أنَّ النُّصوصَ الشَّرْعِيَّة دلَّتْ على اعتبار التأوُّل في إباحةِ الدم وأنَّه يمنع القِصاص، لكن ليس كُلُّ تأويلٍ معتبرًا في الشريعة، بل مساحةُ التَّأويل ضيِّقةٌ في أنواعٍ مُحدَّدة، قَوِيَ فيها جانبُ الإعذارِ والتأوُّل، فخُفِّفَ فيها الحُكمُ عن صاحبِه.
والكتاب جيِّدٌ ونَنصحُ بقِراءتِه.