مقالات وبحوث مميزة

 

 

وقفاتٌ مع كتاب "ما بعدَ السَّلفيَّة"

الدكتور صالح حسَّاب الغامدي
1 رجب 1436هـ

 

بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم

 


"إنَّ عيبَ الانتقاء هو عيبٌ أيديولوجيٌّ بالأساس، يتَّسم به كلُّ مؤدلج، بين مُقلٍّ ومُستكثِر، بمعنى قيام الفِكر الأيديولوجي في تفسير العالَم على: الإقصاء، والانتقاء، انتقاء ما يخدُم التفسيرَ الضيِّق، وإقصاء ما لا يَخدُمه"
 

ما بعد السلفية/ 595


هل سَلِم كتابُ "ما بعد السلفية" لمؤلِّفَيه أحمد سالم وعمرو بسيوني، من هذا الانتقاءِ أم لا؟
لعلَّ هذه الورقاتِ تُسهِم في إجابةِ هذا السؤال.
بِدايةً أودُّ أنْ أُشير إلى أنَّ هذا الكتاب (696 صفحة) حوى بين دفَّتيه أطروحاتٍ متنوِّعةً ومفيدةً، أرى فيها الحقَّ والخير، وبما أنَّ الكتاب كتابٌ نقديٌّ فإنَّ تلك المواضِعَ لا تكفي للحُكم بصلاحية الكتاب؛ لأنَّ النقدَ عبارةٌ عن كُتلة متَّصلة، يخدُم أولُها آخِرَها، وبالتالي فإنَّ الوقفاتِ الآتيةَ تتناول كتاب "ما بعد السَّلفيَّة" على هذا الأساس؛ فهو من وجهةِ نظري بِناءٌ نقديٌّ، وإنِ اختلفْنا مع طبيعة ذلك النَّقد، وقدْ سِرتُ فيها سَيرَ التحليلِ والتوصيف، بعيدًا عن المناقشةِ التفصيليَّة، والتي أُراها غيرَ مُجديةٍ، وفي الختام سأذكُر السَّبب.

الوقفة الأولى: نظرةٌ عامَّة على الكتاب
العنوان الفرعي لكِتاب "ما بعد السلفية" هو: "قراءة نقديَّة في الخِطاب السلفيِّ المعاصِر"؛ وهي كذلك.. قراءة نقديَّة؛ ولكن السؤال: أيُّ نوعٍ من أنواع القِراءات النقديَّة هي؟
لعلَّ الأسطرَ الآتية تُجيب..
جاء في مُقدِّمة "ما بعد السلفية" «هناك مَن يقرأ (الما بعد) بوصفِه انهيارًا للقِيَم التي خرَج عليها، وهذا قراءةٌ غير حصريَّة أو حتمية تنفي غيرَها من القراءات؛ فـ (الما بعد) يمكن أن نقرأه بوصفه تجليًا جديدًا وتفسيرًا مختلفًا، وليس سالبًا، كما أنَّه لا يعني موتَ الذي تمَّ الخروج عليه»[13]. هذه الفقرة الذكيَّة من الكاتبينِ إنَّما هي مَخرجٌ مبكِّرٌ لهما مِن تَبِعات القراءة النقديَّة التي اعتمَداها، وهي القراءةُ "التفكيكيَّة" أو "القويضيَّة"، والتي ارتبطتْ في الأدبيَّات الفلسفيَّة الغربيَّة بـ"ما بعد الحداثة"، وقد كانتْ في بدايتها الأسلوبَ النقديَّ الذي اتَّبعه الفيلسوف الفرنسيُّ المعاصر "جاك دريدا" لمهاجمةِ الفِكر الغربي الميتافيزيقي (الماورائي)، وسمَّى أسلوبَه ذلك بـ"التقويض"، والذي يُترجِمُه البعضُ بـ"التفكيك"، وهي ترجمةٌ بعيدةٌ عن مراد "دريدا"؛ وهو الذي يصِف الفكرَ الغربيَّ الدِّيني باستمرار بأنَّه "صرْح" أو معمار يجب تقويضُه(1).

يقول عبدالوهاب المسيري -رحمه الله-: «الفلسفة التفكيكيَّة (ما بعد الحداثة) فلسفةٌ تهاجم فِكرة الأساس نفْسها؛ (ولذا يُطلق عليها بالإنجليزيَّة أنتي فونديشناليزم anti-foundationlism)، أي: رفْض المرجعيَّة، وهي تحاول إثباتَ أنَّ النُّظُمَ الفلسفيَّة كافةً تحتوي على تناقُضاتٍ أساسيَّة لا يُمكن تجاوزُها، ومِن ثَمَّ لا تُصبح هذه النظمُ بذاتها طريقةً لتنظيم الواقِع، وإنَّما علامة على عدَمِ وجود حقيقة، بل مجرَّد مجموعةٍ من الحقائق المتناثِرة فقط»(2).
ويُضيف المسيري بأنَّ "جاك دريدا" استخدَم في أُولَى دِراساته الفلسفيَّة اصطلاحَ "تخريب" أو "تقويض" (destruction)، ثم استخدَمَ مصطلح تفكيك (deconstruction) ربَّما ليُخبِّئ الطبيعةَ العَدميَّة لمشروعه الفلسفي(3).
ويقول أيضًا: «وكلمة "تفكيك" تأتي في بعض الأدبيَّات مرادفةٌ لمصطلح "ما بعد الحداثة"، ولكنَّنا نذهب إلى أنَّ التفكيكيَّة إحدى أوجُهِ ما بعد الحداثة، ففِكر ما بعد الحداثة فكرٌ تقويضيٌّ مُعادٍ للعقلانيَّات وللكليَّات، سواء أكانت دِينيَّة أم ماديَّة»(4).
ويرَى محمد البنكي أنَّ العلاقة بين ما بعد الحداثة والتفكيك هي علاقةُ الكلِّ بالجزء(5).
والذي أراه واضحًا أنَّنا بين يدَي تفكيكيَّة/ تقويضيَّة جديدة مُسْتنسَخة؛ تتمثَّل في كتاب "ما بعد السلفية"!
والذي يبدو لي أيضًا أنَّ هذه القراءةَ النقديَّة التقويضيَّة للسلفيَّة انطلقتْ من مُسبَّقات ذِهنيَّة لدَى المؤلفَين؛ والتي ربَّما أفْرَزها الاشتغالُ الفلسفي بعينٍ، والنظر إلى الواقِع بالعينِ الأخرى، وأبرز تِلك الـمُسبَّقاتِ الذِّهنيَّة التي لاحظتُ حضورَ مُخرجاتها بقوَّة في الكتاب ما يلي:
"احتكار الحقِّ"
"لا هيبةَ لأحد" (مُخفَّفة من: لا قَداسةَ لأحد)
"تطور/تعدُّد السلفيَّة"
"تخلُّف السلفية معرفيًّا"
"فشل السلفيَّة واقعيًّا"
"أُفول السلفيَّة"
وبما أنَّ التقويضَ يَستلزمُ القوَّة؛ فإنَّ النَّفَس النقديَّ البعيد عن الهدوءِ والإنصافِ كان هو الحالةَ الطاغية على الكِتاب؛ ولذلك مارس الكاتبانِ ثورةً صادمةً لتقويضِ السلفيَّة، لَبِسَا لها ثوبًا من التعالُم الموسوعيِّ العجيب! وعزَّزاه بقِلَّة الإحالات، وبمحاولةِ تعميق عِبارات الكتاب، وتزيينه بالألفاظ الغربيَّة (أبستمولوجي- جيتو- يوتوبيا... إلخ)، وأضافَا إلى ذلك نوعًا من الحِياد الظاهريِّ المتكلَّف، عَبْرَ تجريدِ الأعلامِ تمامًا عن الألقاب وصِيغ المدْحِ وعِبارات الترحُّم إلَّا فيما ندَر، والواقِعُ أنَّه الأمر الذي يتَّسق تمامًا مع منهجِ التقويضِ الذي اتَّبعاه!
وبعدُ؛ فإنَّ هذه الأمورَ السابقةَ بتفاصيلها الصادِمة في الكِتاب تُشعِرك وكأنَّك تقرأُ تقريرًا لمؤسَّسة راند، أو لمركز المسبار!

الوقفة الثانية: مع عاصِفة التقويض
لم تَمضِ السَّبعون ورقةً الأولى من الكتاب حتى كَسَر (هدَم) الكاتبانِ ما تَوهَّماه مُستَمْسَكًا سلفيًّا لاحتكارِ الحقِّ، وهُما: حديث الفِرقة الناجية، وحديث الطَّائفة المنصورة(6)؛ فتوصَّلَا إلى رأيٍ عجيبٍ في حديثِ الفرقةِ الناجيةِ، وهو أنَّ قولَ المصطفى صلى الله عليه وسلم في آخِر الحديثِ: ((هي ما أنا عليه وأصحابي)) «مَفهومٌ ذهنيٌّ لا يكادُ يتحقَّقُ في الخارج إلَّا في السابقين المقرَّبين..»[56]!، وبَنَيَا على هذا الرأي أنَّ كلَّ فرقةٍ يُمكن أن تدخل جزئيًّا بما معها من الحقِّ في النَّجاة «سواء أكانتْ هذه الفرقةُ هي أهلَ السُّنَّة والجماعة، أو أهل الحديث، أو المعتزلة، أو الأشاعرة، أو الشِّيعة، أو غيرهم»!! [56].
وعلى ذاتِ المنوالِ جرَيَا في حديثِ الطائفة المنصورة؛ فقد خَلَصَا أيضًا إلى فَهمٍ غريبٍ عجيبٍ لهذا الحديث، وهو أنَّ «مِن هذه الطائفة المنصورة مَن يكون مِن أهل الحديث، ومنهم مَن يكون مِن أهل الفِقه، ومنهم مَن يكون من أهل السُّلوك، أو أهل القرآن، ومنهم مَن يكون سلفيَّ الاعتقاد، ومنهم مَن يكون غيرَ سلفيِّ الاعتقاد؛ فهو في كلِّ حال ظاهرٌ على الحقِّ في شيء لا في كلِّ الأشياء»!! [67].

وأمَّا تقويضُ هيبةِ أهلِ العِلم (ورثة الأنبياء) فقدْ بلغَا في ذلك الذُّروةَ!
فزعمَا بعدَ مفهومهما العجيبِ لحديثِ الفرقة الناجية أنَّ الإمام أحمد -رحمه الله- قد يكون من الفرقةِ الناجية في بابٍ، ومن الفرقة المتوعَّدة بالنار في أبوابٍ أخرى حصَل فيها منه الذنبُ المحض !![56]
ووصفَا شيخَ الإسلام ابن تيميَّة -رحمه الله- بالبراجماتية، فزعَمَا «أنَّ كثيرًا من استعمال ابن تيمية لأقوال العلماء في بحْثِه السجاليِّ هو استعمالٌ توظيفيٌّ، ذو طابع براجماتي»! [315].
ووصفَا الشيخ الألبانيَّ -رحمه الله- في غيرِ ما موضعٍ بالراديكاليَّة! [440، 475، 547].
ووصفَا بها أيضًا بعضَ مواقف الشيخ ابن باز -رحمه الله-[472]، وزعمَا أيضًا أنَّه «في فترةٍ سابقةٍ على شُهرته كان مُتَّسمًا بالحميِّة الإسلاميَّة..»! [483].
هذا من الناحية التوصيفيَّة لأهل العِلم، وأمَّا من ناحية التقويمِ فالأمر أشدُّ!
ففقامَا بتخطئةِ الإمامِ أحمد -رحمه الله- في إحدى المسائِل، واعتبرَا رأيَه نوعًا من البغيِ وعدمِ العدلِ! [95]. والإمام أحمدُ ليس بمعصومٍ عن الخطأ، ولكن هذا التوصيفُ منهما مبنيٌّ - كما زعمَا- على المعاملةِ بالمِثل! والواقعُ أنَّه نوعٌ من تقويضِ الهيبةِ.

وأمَّا رموزُ الدَّعوةِ السَّلفيَّة ومشايخُها فقدْ غرِقوا في بحرِ تقويمِهما المتلاطِم (المتعالِم)!
ومِن ذلك -على سبيل المثال- قولهما: «يغلبُ على ابن باز الطابعُ المحافِظ، والترجيحُ في إطار الأدلَّة القريبة»![371]، وابن عثيمين «كان أقربَ إلى المنهج التيميِّ، بمعنى الاجتهاد، الذي لا يَخلو من المحافظةِ، مع جودةِ الأدواتِ الفقهيَّة نسبيًّا»[344]، ويُضيفان بأنَّ «لكلٍّ مِن الشيخينِ اختيارات فِقهيَّة، جمعَها بعضُ تلاميذِه، ولكنَّها ليستْ بالجِدَّة التي تُعدُّ فيها اختياراتٍ تَستأهِلُ الدَّرسَ والاعتناءَ»!! [371]
ولم يكُن الشيخُ الألبانيُّ -رحمه الله- معهما بأسعدَ مِن الشيخينِ، فزَعَما بأنَّ «فقْر أدوات الألبانيِّ الأصوليَّة، والفقهية، وكذلك نَظرتُه الحديثيَّة لم يُتِحْ له ذلك الاقترابَ أكثرَ من مباني ابنِ تيميَّة الفقهيَّة»!! [344]
وزعَمَا أيضًا بأنَّ «أجودَ الشروحِ الفقهيَّة السعوديَّة في ذلك الإطارِ: الشرح الصوتي لمحمَّد المختار الشنقيطيِّ على زاد المستقنع، والذي يكشفُ عن تفقُّهٍ متوسِّط العُمق ومحافِظ مذهبيًّا»! [370]
وأُشير هنا إلى ورقةٍ نقديَّة قيِّمة لهذا الجانبِ التقويضيِّ مِن كتاب " مابعد السلفية " كتبها مشاري بن سعد الشتري  " .
وأما مُسبَّقة "تطوُّر/ تعدُّد السلفيَّة"، والتي كانتْ مِن أسلحتهما للتقويض، فرَغمَ إيرادِهما لمفهومِ وأصولِ وقواعدِ وخصائصِ المنهجِ السلفيِّ [30]، وتأكيدهما على أنَّ هذا يكادُ يكون متَّفقًا عليه بين التيَّارات السلفيَّة المعاصِرة؛ إلَّا أنَّهما جعلَا من الاختياراتِ العلميَّة والمواقِف العمَليَّة مُتَّكأً لإثباتِ أنَّ السلفيَّة مرَّت بمراحلَ تاريخيَّة، ولكلِّ مرحلةٍ طابعُها، ثم تكلَّفَا في محاولة إيجادِ الفوارقِ بين كلِّ مرحلة وَفقَ ما سمَّيَاه بـ"التحقُّقات التاريخيَّة"، والخلاصة بعد ذلك: أنَّ ذلك المفهومَ السلفيَّ وتِلك الأصول والقواعد التي أثْبَتاها تلاشَتْ أمامَ سلفيَّاتٍ مُتشظِّية ينقبضُ منها فؤادُ القارئ!!

وأمَّا عن مُسبَّقتي "التخلُّف السلفي معرفيًّا" و" الفَشَل واقعيًّا" فإنَّ عينَ القارئ لا تكادُ تُخطئ هيمنتَهما على الكِتاب، مِن مبدئِه إلى مُنتهاه، فعلى سبيل المثال: قالَا في بداية الكتاب :«إنَّ أوَّل خُطوات انتزاعِ السلفيَّة المعاصرة من حالة السُّبات الوثوقيِّ التي تعيش فيها: هي أن نُبيِّن للمنتسبين لها حقيقةً صُلبةً، وهي: أنَّ السلفيَّ لم يَحُلَّ مشكلةَ التنازع التأويليِّ للكتاب والسُّنَّة بأنْ يَرُدَّ الناسَ لفَهم السلف» [11]، فانبريَا في سبيلِ هذا البيان إلى تقويضِ وتقزيمِ السلفيَّة (وبخاصَّة المعاصِرة)، ولبِسَا لذلك أولًا لَأْمَةَ "مؤرِّخ الأفكار" فقطَّعَا –كما ذكرت آنفًا- جسدَ السلفيَّة أوصالًا؛ منذُ الصحابةِ إلى يومِنا هذا، حتى لَيظنُّ القارئُ أنَّ السلفيَّة مجرَّدُ تراكُم تاريخيٍّ! كيف لا وقد أَذهبَ رأيُهما العجيبُ حديثَيِ الناجية والمنصورة أدراجَ الرِّياح؟!

وأمَّا مفهوم السلفيَّة وأصولها وقواعدها فقدْ كانت بمثابةِ "تَحِلِّة البحث" لا أكثر! إذ لا تأثيرَ لها في الكتاب سِوى عددِ الورقاتِ التي أُثبِتَتْ فيها!!
ولَمَّا شارفَا في نهاية الكتاب على خلْعِ لَأْمَةِ "مؤرِّخ الأفكار" عادَا في ذكاءٍ لا يَخفى، وأكَّدَا بأنَّه «في نظر مؤرِّخ الأفكار يظلُّ الفردُ أو الفصيلُ السلفيُّ الذي يقوم بمراجعاتٍ للتراث الفقهيِّ والعقديِّ والإبستمولوجيِّ..، ضِمنَ إطار السلفيَّة، وتحقُّقًا من تحققاتها؛ طالَما ما زال ملتزمًا بأصولها الإبستمولوجيَّة الأساسيَّة»!! [689]
وفي مرحلةٍ من مراحلِ الكتاب لبِسَا لَأْمَة "العالم الموسوعي"، فصغرتْ دون موسوعيتِهما السلفيَّةُ (منهجًا وأتْباعًا)!! فأصدرَا جُملةً من الأحكام "الهوائيَّة" (الخالية من البُرهان العلمي)، والتي تَجعَلُ من السلفيَّة (وبخاصَّة المعاصرة) عِبئًا على الأمَّة الإسلاميَّة، ولا يُنكَر على مَن سعَى لتقويضِها وتخليصِ الناسِ منها..

ومن تلك الأحكام التقويضيَّة على سبيل المثال:
- في أصول الفقه حَكمَا بأنَّه: «ليس هناك اهتمامٌ سلفيٌّ حقيقيٌّ بأصولِ الفِقه» [289]
- وفي اللغة العربيَّة قرَّرَا بأنَّ: «إهمال السلفيَّة بالتحديد لهذا البابِ غيرُ مفهومٍ، فضلًا عن الخلطِ الكثير الذي يقعُ منهم فيها» [390].
- وأمَّا عن الفكر الإسلامي فزعَمَا أنَّ السلفيِّين «بصِفةٍ غالبةٍ ازدَرْوا هذا الفرعَ المعرفيَّ، وظلوا يُقيمون مقابلةً بينه وبين الشَّرع» [394].
- وفي مجال العلوم الإنسانيَّة حَكمَا بأنَّ «الواقع يشهدُ بأنَّ مجالاتِ العلوم الإنسانيَّة وإمكاناتِ تفعيلها سواء لفهمِ الواقِع أو لخِدمة العلوم الدِّينيَّة = من أبرز وجوه الاشتغالِ العِلميِّ المهجورة عند السلفيَّة» [392].
- وزعمَا بأنَّ «هناك حالةً من الاستعذابِ والالتذاذِ في الأوساط السلفيَّة بمخالفةِ المجتمَع» [599].
- وزعمَا بأنَّ الإشكال الأساسيَّ الذي عادَ على المجتمع إنَّما هو «جرَّاء الطموحِ السياسيِّ والسلطويِّ عند الإسلاميِّين عمومًا، والسلفيِّين محلِّ بحثِنا» [622]
- وزعمَا بأنَّ «كوادر العمل الإسلاميِّ في الخليج أكثرُهم من المتخصِّصين في العلوم الشرعيَّة؛ لأنَّ لها هناك من الوجاهةِ والآثار الدنيويَّة ما يجعلها مقصودةً، ولا يحول بين الرجُل وبينها ضغطٌ أُسريٌّ» [628].
- وزعما أيضًا بأنَّ طلبة العِلم السلفيِّين «يتَّسمون بالفقرِ الكامِلِ في علومِ الآلةِ والفِقه المتْني القديم» [647].
- وفي طرْحهما للبديلِ الإصلاحيِّ زعَمَا بأنَّ «مجال نجاح البديل الأشعريِّ هو في أنَّه اشتَغَل على بعضِ نقاط ضَعْف الخِطابِ المعرفيِّ السلفيِّ، والذي يُعاني ضعفًا في الاشتغالِ بعلوم الآلةِ، والمدوَّنات التراثيَّة الفقهيَّة المذهبيَّة» ]648[
- وقبل الختام حكمَا بأنَّ «السلفية صارتْ بلا أجوبةٍ كليَّة وشامِلة وجاذبةٍ في الوقت نفْسه» [653].
- وفي بدايةِ حديثهما عن أفولِ السلفيَّة المعاصرة قرَّرَا بأنَّ «لزوم بقاء الدِّين الحقِّ في الناس، بضمانةِ الحِفظ الإلهي، لا يستلزمُ استمرارَ تيَّارٍ بعينه بحضورٍ رئيسي» [637].
وأودُّ أن أُشيرَ في خِتام هذه الوقفةِ إلى أنَّ عاصفة التقويض هذه استحالتْ بردًا وسلامًا على الاتجاهات التنويريَّة، وذلك حينما طرحَا البدائل، ومنها "البديل التنويري"! [يُنظر:648-649].

الوقفة الثالثة: مع التُّفاحة المحرَّمة
مَبحث "الإصلاح السِّياسي عند السلفيَّة" هو أطولُ مباحِث الكتاب (مئة صفحة) [406-507]، ولعلَّ في هذا الطول إشارةً إلى مدى اهتمامِ الكاتبين بالجانب السِّياسي، وهو مِن المواضِع التي طرحَا فيه رأيهما؛ ولهذا رأيتُ أن أقِفَ معه هذه الوقفةَ.
استهلَّ المؤلِّفان هذا المبحثَ بكلمةٍ لفريد الأنصاري -رحمه الله– يرَى فيها أنَّ السياسةَ مجرَّد وسيلةٍ لخدمة الدِّين، وليستْ ركنًا فيه، وبالتالي مَن يُراهن على الحلِّ السِّياسيِّ فقد مَسَّ عمَلَه الإسلاميَّ في جوهرِه وخرج عن معنى التعبُّد!! ثم ختمَا المبحثَ بما يُشبه تمامًا هذه النتيجة (العقلية)، ولكن بنوعٍ من التوسُّع والتهويل، فقالَا مثلًا: «السلطة هي التفَّاحة المحرَّمة التي تُحيط بها النارُ مِن كلِّ جانب، وأهليَّةُ الإسلاميِّين لخوض الصِّراع عليها بخُطَّة مفتوحةٍ منقوصةٍ غيرُ كافيةٍ ولا حامية، بل وممسوسة بالغصبيَّة للفِكرة الضيِّقة والأيديولوجيا، فلا سياسةَ حصَّلوا، ولا توسُّعَ مجتمعيَّ طالوا» [502]، وبالتالي رأيَا أنَّ إصلاح السُّلطة ابتداءً بإصلاحِ المجتمَع من الخطأ؛ «لأنه بذلك تتحوَّل الإصلاحيةُ المجتمعيَّةُ إلى وسيلةٍ؛ لتعبيدِ الطريقِ للسلطة، وهو منطقٌ مُعوَّجٌ وفاسدٌ» [503]، «فبقاء السُّلطة أمامَ عينك سيجعَلُ التمدُّدَ المجتمعيَّ مجردَ وسيلةٍ لها، ويُفقده حينئذ مُعظمَ براءته الإيمانيَّة، وصِدْقه العقائديَّ، وروعتهَ الأخلاقيَّة»!! [504].
وبالمقابل أيضًا قرَّرَا أيضًا بأنه: «لم يكُن التهوُّرُ السياسيُّ هو الخيارَ الأفضل، كان التوجُّه للبناء المجتمعيِّ واستغلال مساحة الحريَّة لهدْم العوائق السلطويَّة هو الخيارَ الصائبَ، وإنْ كان لا بدَّ من السياسة، فيَكفي منها ما لا يَجعلك خصمًا مناوئًا» [505]، والنتيجة أنَّ «إقامة الدِّين ليستْ محصورةً في السُّلطة» [505].

وخلاصة رأيهما: أنَّ إصلاحَ المجتمع لا بدَّ وأنْ يتجرَّدَ من النظر إلى السُّلطة، وأنَّ إقامة الدِّين ليستْ محصورةً في السلطة، وأنَّ ضماناتِ الحريَّة تقلُّ وقتَ الصِّراع على الرأس، وبالتالي فإنَّ للنهي عن السِّياسة بالكليَّة وجهًا.
هذا الرأي على ما يبدو كان في غفلةٍ من النصِّ واستغراقٍ عقليٍّ في المقاصد التي امتدحَا أصحابَها قبل ذلك [307]؛ لأنَّه بعدَ مِئة صفحة تقريبًا، وحينما اهتديَا بقبسٍ من الوحي (قصَّتي موسى وعيسى عليهما السلام) كتبَا «وهذا يُثبت فسادَ قولينِ؛ قول مَن يلغي طلبَ إصلاح السلطة من المطالِب الإصلاحيَّة، وأيضًا قولَ مَن يجعل إصلاحَ السلطة هو المركزيَّ أو تحصيل السلطة هو وسيلةَ الدعوة الأساسيَّة، كل ذلك باطل»[613].
والحاصل: أنَّهما بين رأي فريد الأنصاريِّ في بداية المبحث ورأيهما في نهايتِه اشتغلَا تقويضًا لكلِّ رأيٍ واجتهادٍ سلفيٍّ متعلِّق بالسياسة؛ ولا غروَ! فهو الحال المتَّفِق مع بناء الكتاب التقويضيِّ، أولًا؛ ثم مع رُؤيتهما السِّياسية الخاصَّة ثانيًا؛ ولذلك فحتى الرأي السَّلفي الذي يتقاطَعُ معهما في النتيجة (البُعد عن المشاركة السياسيَّة) لم يسلمْ منهما؛ لأنَّ مناطاتِ التحريم عند السلفيِّين -بزعمها- إنما هي «تجسيدٌ للخلل الفقهيِّ السلفيِّ، الذي سبَق الكلامُ حوله، المفتقِر للتحليلِ والتبسيط، المائِل للبَساطة والتسطيح، قليل التَّفْعيـل للنظر المصلـحيِّ»!! [413].
وأكتفى بهذا الاقتباسِ حتى لا أُثقِلَ كاهلَ هذه الورقات بمزيدٍ من الحطِّ مِن آراء أهل العِلم واجتهاداتهم.
وأقول: هنيئًا للتفاحة المحرَّمة بمِثل هذه الأقلام!

الوقفة الرَّابعة: مع السِّياق الزمنيِّ
لا يُجادل مُنصِفٌ في أنَّ أحداث 11 سبتمبر كانتْ منعطفًا تاريخيًّا بالنسبة للدعوة السلفيَّة، فبَعدَ أنْ وُضِعتْ في قفصِ الاتِّهام وأُدِينت ظلمًا بالإرهاب، حُوربت بلا هوادةٍ وضُيِّق عليها في كافَّة أرجاء العالم، وهذا أمرٌ معلومٌ لا يتَّسع هذا المقامُ للتفصيل فيه، والملفِت أنَّ "مؤرِّخ الأفكار" (مُحقِّب السلفيَّة) لم يُلْقِ بالًا لهذا المنعطَف الخطير بالرغمِ مِن مُعايشته له! إلَّا في ورقتينِ وبِضعة أسطُر، وذلك حينما بدءَا الحديثَ عن عوامل أفول السلفيَّة! فجعلَا تلك الورقتينِ تحت عنوان "تحوُّلات السُّلطة"؛ كعاملٍ من عوامل أفول السلفيَّة! وعلى كلِّ حالٍ فإنَّ هاتين الورقتين تُشيران إلى إدراكهما للحالةِ التي تمرُّ بها الدعوة السلفيَّة بعد 11 سبتمبر، وإنْ وظَّفاه هذا الإدراكَ لتعزيزِ قِراءة الكتاب التقويضيَّة.
فإذا كان الأمرُ كذلك بالنسبة لهما، وإذا كان الواقعُ أكثرَ ممَّا ذكرَا بكثير؛ حيث باتتِ الدعوةُ السلفيَّة (الوهابية) هدفًا للحرب الفكريَّة الأمريكيَّة الجديدة، والتي يُشبِّهها ساستُها صراحةً بالحرب الباردة ضدَّ الشيوعيَّة؛ فاستطالتْ إثرَ ذلك رؤوسُ أهل البِدع والضلالة والعلمانيِّين، وانتظموا في سلكِ تلك الحرب علنًا بلا حياء(7)، وبات ذاك العلمانيُّ يَطعُن في الدعوةِ السلفيَّة وهو متِّكئٌ على أريكتِه في الرِّياض، وآخَر يُدندن حولَ ما بعد الصَّحوة، وثالثٌ يُبشِّر بدولة سعوديَّة رابعة (أي: ليبرالية)، ويُسطِّر في ذلك كتابًا! وانتظَم معهم أيضًا ثُلَّةٌ من المنتكسين؛ فأصبحوا أشبهَ بحصان طروادة في جسَد الدعوة السلفيَّة، إلى غير ذلك من صُور المكرِ والتحزُّب والحرب المعلَنة على الدعوة السلفيَّة، وعلى مناشطِها ورموزِها في كلِّ بقاع العالَم الإسلاميِّ، بل في العالم أجمع.
أقول: إذا كان هذا هو الواقِعَ المشاهَدَ، فالسؤال الذي يَشغَل ذِهني طويلًا، ولا أُريد أن أُفلتَ لعقلي الزمامَ في تصوير جوابه، هو: لماذا يَصدُرُ هذا الكتابُ في هذا الوقتِ بالذات؟ ولِمَن يتَّجه مَضمونُه؟ ومَن المستفيدُ منه حقًّا؟!

الخاتمة
وبعدُ، فليس الإشكالُ إذًا في كتاب "ما بعد السلفيَّة" هو أنَّ الكاتبَينِ لا يَعرفانِ السلفيَّة، أو أنهما مِن غيرِ أهلِها؛ فهما يَعرفانها وهما مِن أهلها، بل الإشكالُ هو المنهجُ الغربيُّ النقدي (التقويضيَّة/التفكيكيَّة) الذي أعْمَلاه في الدعوة السلفيَّة، والذي ارتضيَا أن يكونَا طليعتَه في كتابهما هذا؛ فاستبدلَا الذي أدْنَى (الهدم) بالذي هو خيرٌ (البناء)! وأيُّ خيرٍ أعظمُ مِن الإصلاح على هدْي الكِتاب والسُّنة؟! وأيُّ إصلاحٍ أعظمُ من الاشتغال بالبناءِ وتسديدِ الخللِ بالنُّصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟!

وعودًا على ما وعدتُ به في البَدء؛ فإنَّ السَّبب الذي لا أرَى معه جدْوَى مناقشة الكتاب تفصيليًّا هو المنطلَقُ التقويضيُّ للكتاب، وفرْق كبيرٌ بين مناقشةِ الناقِد الناصِح ومناقشةِ الناقِد الناقِض؛ ومن جِهةٍ أخرى أرَى أنَّ الدخول في نقاشات تفصيليَّة لمضمون الكتاب فيه اعترافٌ غيرُ مباشرٍ بأطروحة "تقويض السلفيَّة" المغلَّفة بمُسمَّى "ما بعد السلفيَّة".
هذا، وعلى الرغمِ من الألَم الذي لازَمني طيلةَ قِراءة الكتاب، إلَّا أنِّي لا زلتُ أتوسَّم في كاتبيه الخيرَ والرجوعَ إلى الحقِّ، لا سيَّما وأنَّهما أهلُ سبْق وفضْل، فيما أَحسِب.
أسألُ اللهَ أن يُثبِّتَنا وإيَّاهما على الحقِّ، وأنْ يَستعمِلَنا جميعًا فيما يُرضيه عنَّا؛ إنَّه جوَادٌ كريم.

 

والحمدُ لله ربِّ العالَمين،،

 

 

============================== 

(1) ينظر: دليل الناقد الأدبي، ميجان الرويلي/سعد البازعي، 107
(2) موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، 2/62
(3) يُنظر: المرجع نفسه، 2/62
(4) المرجع نفسه، 2/164
(5) دريدا عربيًّا، محمد أحمد البنكي، 288
(6) أُشير فقط إلى أنَّ الحديثَينِ يَحمِلان في مضمونهما نتيجةَ التمسُّك بكتاب الله وسُنَّة رسوله الكريم  بفَهم السلف الصَّالح؛ من الصحابة وتابعيهم بإحسان رضي الله عنهم أجمعين، ونحسَب أنَّ أهل السُّنَّة والجماعة هم أهلُ هذا الوصف، وهم أهلٌ بإذن الله لتلك النَّتيجة، وهذا ما شقَّ -كما يظهر- على الكاتبين، فجعلَا منه احتكارًا!
(7) للمزيد حول هذه المسألة يُنظر كتاب: عندما يكون العمُّ سام ناسكًا.