التنادي بالجهاد

للشيخ محمد الغزالي

في صدر تاريخنا، وعلى امتداده مع الزمن، كان العالم الإسلامي يُعرَف بحبِّه للجهاد، وارتضائه لأشقِّ التضحيات؛ كي يحقَّ الحقَّ ويُبطل الباطل.

كان هذا العالم الرحب عارم القوى الأدبية والمادية، حتى يئس المعتدون من طول الاشتباك معه، فقد كبح جماحهم، وقلَّم أظفارهم، وردَّ فلولهم مذعورة من حيث جاءت، أو ألحق بهم من المغارم والآلام ما يظلُّ بينهم عبرة متوارثة، وتأديبًا مرهوبًا.

ويرجع ذلك إلى أمور عدة:

أولها: أنَّ الحقائق الدينية عندنا لا تنفك أبدًا عن أسباب صيانتها، ودواعي حمايتها، فهي مغلفة بغطاء صلب، يكسر أنياب الوحوش إذا حاولت قضمها.

وذلك هو السرُّ في بقاء عقائدنا سليمة، برغم المحاولات المتكررة لاستباحتها، تلك المحاولات التي نجحت في اجتياح عقائد أخرى، أو الانحراف بها عن أصلها.

ثم إنَّ الإسلام جعل حراسة الحقِّ أرفع العبادات أجرًا. أجل، فلولا يقظة أولئك الحراس وتفانيهم، ما بقي للإيمان منار، ولا سرى له شعاع (قيل: يا رسول الله، ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: لا تستطيعونه! فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثة، كل ذلك يقول: لا تستطيعونه! ثم قال: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صلاة ولا صيام.. حتى يرجع المجاهد في سبيل الله) [رواه البخاري].

وإذا كان فقدان الحياة أمرًا مقلقًا لبعض الناس، فإنَّ ترك الدنيا بالنسبة لبعض المجاهدين بداية تكريم إلهي مرموق الجلال، شهي المنال حتى أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حلف يرجو هذا المصير.

(والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل) [رواه البخاري].

فأي إغراء بالاستماتة في إعلاء كلمة الله ونصره الدين أعظم من هذا الإغراء؟

لقد كانت صيحة الجهاد قديمًا تجتذب الشباب والشِّيب، وتستهوي الجماهير من كلِّ لون، فإذا سيل لا آخر له من أُولي الفداء والنجدة، يصبُّ في الميدان المشتعل. فما تضع الحرب أوزارها إلا بعد أن تكوي أعداء الله، وتلقِّنهم درسًا لا يُنسى.

هل أصبحت هذه الخصائص الإسلامية ذكريات مضت، أم أنَّها محفورة في عقلنا الباطن، تحتاج إلى من يزيل عنها الغبار وحسب؟

إنَّ الاستعمار الذي زحف على العالم الإسلامي، خلال كبوته الأخيرة، بذل جهودًا هائلة لشغل المسلمين عن هذه المعاني، أو لقتل هذه الخصائص النفسية في حياتهم العامة، وذلك ليضمن فرض ظلماته ومظالمه دون أيَّة مقاومة!

وقد توسَّل إلى ذلك بكثير الشهوات أمام العيون الجائعة، وتوهين العقائد والفضائل التي تعصم من الدنايا، وإبعاد الإسلام شكلًا وموضوعًا عن كلِّ مجال، وتضخيم كلِّ نزعة محلية أو شخصية تمزِّق الأُخوَّة الجامعة، وتوهي الرباط العامَّ بين أشتات المسلمين.

وقد أصاب خلال القرن الأخير نجاحًا ملحوظًا في سبيل غايته تلك..

ومِن ثَمَّ لم تنجح محاولات تجميع المسلمين لصدِّ العدوِّ الذي جثم على أرضهم، واستباح مقدَّساتهم.

وما قيمة هذا التجميع، إذا كان الذين ندعوهم قد تحلَّلوا من الإيمان وفرائضه، والقرآن وأحكامه؟!

إن تجميع الأصفار لا ينتج عددًا له قيمة!!

وإنَّ الجهد الأول المعقول يكمن في ردِّ المسلمين إلى دينهم، وتصحيح معالمه ومطالبه في شؤونهم، ما ظهر منها وما بطن..

عندئذ يُدعون فيستجيبون، ويكافحون فينتصرون، ويحتشدون في معارك الشرف، فيبتسم لهم النصر القريب، وتتفتح لهم جنات الرضوان..

إنَّ الرجل ذا العقيدة عندما يقاتل لا يقف دونه شيء.

أعجبتني هذه القصة الرمزية الوجيزة، أسوقها هنا لما تنضح به من دلالة رائعة: (حكوا عن قوم فيما مضى كانوا يعبدون شجرة من دون الله، فخرج رجل مؤمن من صومعته، وأخذ معه فأسًا؛ ليقطع بها هذه الشجرة، غيرة لله وحمية لدينه! فتمثَّل له إبليس في صورة رجل، وقال له: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: أقطع تلك الشجرة التي تعبدون من دون الله، فقال له: اتركها وأنا أعطيك درهمين كلَّ يوم، تجدهما تحت وسادتك إذا استيقظت كلَّ صباح!

فطمع الرجل في المال، وانثنى عن غرضه، فلمَّا أصبح لم يجد تحت وسادته شيئًا، وظلَّ كذلك ثلاثة أيام، فخرج مغضبًا ومعه الفأس؛ ليقطع الشجرة، فلقيه الرجل فقال: ارجع فلو دنوت منها قطعت عنقك.

لقد خرجت في المرة الأولى غاضبًا لله، فما كان أحد يقدر على منعك! أمَّا هذه المرة فقد أتيت غاضبًا للدنيا التي فاتتك، فما لك مهابة، ولا تستطيع بلوغ أربك، فارجع عاجزًا مخذولًا..).

إنَّ الغزو الثقافي للعالم الإسلامي استمات في محو الإيمان الخالص، وبواعثه المجردة، استمات في تعليق الأجيال الجديدة بعرض الدنيا، ولذة الحياة، استمات في إرخاص المثل الرفيعة، وترجيح المنافع العاجلة.

ويوم تكثر النماذج المعلولة من عبيد الحياة ومدمني الشهوات، فإنَّ العدوان يشقُّ طريقه كالسِّكِّين في الزُّبد، لا يلقى عائقًا ولا عنتًا.

وهذا هو السبب في جؤارنا الدائم بضرورة بناء المجتمع على الدين وفضائله، فإنَّ ذلك ليس استجابة للحقِّ فقط، بل هو السياج الذي يحمينا في الدنيا كما يُنقذنا في الآخرة..

إنَّ ترك صلاة ما قد يكون إضاعة فريضة مهمة، واتِّباع نزوة خاصة قد تكون ارتكاب جريمة مخلَّة، لكن هذا أو ذاك يمثِّلان في الأُمَّة المنحرفة انهيار المقاومة المؤمنة، والتمهيد لمرور العدوان الباغي، دون رغبة في جهاد، أو أمل في استشهاد، ولعلَّ ذلك سرُّ قوله تعالى:

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] .

إنَّ كلمة (الجهاد) إذا قيلت- قديمًا- كان لها صدى نفسي واجتماعي بعيد المدى؛ لأنَّ التربية الدينية رفضت التثاقل إلى الأرض، والتخاذل عن الواجب، وعدَّت ذلك طريق العار والنار، وخزي الدنيا والآخرة.

وهذه التربية المغالية بدين الله، المؤثرة لرضاه أبدًا، هي التي تفتقر إليها أمتنا الإسلامية الكبرى، في شرق العالم وغربه.

وكلُّ مؤتمر إسلامي لا يسبقه هذا التمهيد الحتم، فلن يكون إلا طبلًا أجوف!

والتربية الدينية التي ننشدها ليست ازْوِرارًا عن مباهج الحياة التي تهفو إليها نفوس البشر، ولكنها تربية تستهدف إدارة الحياة على محور من الشرف والاستقامة، وجعل الإنسان مستعدًّا في كلِّ وقت لتطليق مُتَعه إذا اعترضت طريق الواجب.

كنت أقرأ مقالًا مترجمًا في أدب النفس، فاستغربت للتلاقي الجميل بين معانيه، وبين مواريثنا الإسلامية المعروفة التي يجهلها للأسف كثير من الناس.

تأمَّل معي هذه العبارة:

(يقول جوته الشاعر الألماني: من كان غنيًّا في دخيلة نفسه، فقلَّما يفتقر إلى شيء من خارجها!).

أليس ذلك ترجمة أمينة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الغِنى عن كثرة العرض، ولكنَّ الغِنى غنى النفس)؟!

عن أبي ذر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ترى كثرة المال هو الغنى؟ قلت: نعم يا رسول الله! قال: فترى قلة المال هو الفقر؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: إنما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب).

واسمع هذه العبارة من المقال المذكور: (النفس هي موطن العلل المضنية، وهي الجديرة بالعناية والتعهد، فإذا طلبت منها أن تسوس بدنك سياسة صالحة فاحرص على أن تعطيها من القوت ما تقوى به وتصح.

هذا القوت شيء آخر غير الأخبار المثيرة، والملاهي المغرية، والأحاديث التافهة، والملذات البراقة التافهة، ثم انظر إليها كيف تقوى بعد وتشتدُّ، إنَّ التافه الخسيس مفسدة للنفس! واعلم أن كل فكرة تفسح لها مكانًا في عقلك، وكل عاطفة تتسلل إلى فؤادك تترك فيك أثرها، وتسلك بك أحد طريقين: إما أن تعجزك عن مزاولة الحياة، وإما أن تزيدك اقتدارًا وأملًا).

أليس هذا الكلام المترجم شرحًا دقيقًا لقول البوصيري:

وإذا حلَّت الهداية نفسًا  نشطت للعبادة الأعضاءُ

وتمهيدًا حسنًا لقول ابن الرومي:

أمامَك فانظرْ أيَّ نهجَيْك تنهجُ  طريقانِ شتَّى مستقيمٌ وأعوجُ

واقرأ هذه الكلمات أيضًا في المقال المترجم: (ربَّ رجلٍ وقع في الحياة، في مثل الأرض الموحلة فكادت تبتلعه، ولكنه ظلَّ يجاهد للنجاة مستيئسًا، وبينا هو كذلك انهارت قواه وشقَّ عليه الجهاد، وأسرعوا به إلى الطبيب.. الطبيب لم يجد بجسده علة ظاهرة. كل ما يحتاج إليه الرجل ناصح يعلمه كيف ينازل الحياة وجهًا لوجه، لا تثنيه عقبة ولا رهبة).

إنَّ هذا الكلام يذكِّرني بما رُوي عن جعفر الصادق: (من طلب ما لم يخلق تعب ولم يرزق! قيل وما ذاك؟ قال: الراحة في الدنيا).

وأنشدوا:

يطلبُ الراحةَ في دارِ الفَنَا   خاب مَن يطلبُ شيئًا لا يكونُ

إنَّ التربية التي ننشدها- نحن المسلمين- ليست بدعًا من التفكير الإنساني الراشد، إنَّها صياغة الأجيال في قوالب، تجعلها صالحة لخدمة الحقِّ، وأداء ضرائبه، واحتقار الدنيا يوم يكون الاستمساك بها مضيعة للإيمان ومغاضبة للرحمن.

والاستعمار يوم وضع يده على العالم الإسلامي، من مائة سنة، صبَّ الأجيال الناشئة في قوالب أخرى، نمت بعدها، وهي تبحث عن الشهوات، وتخلد إلى الأرض، فلما ختلها عن دينها بهذه التربية الدنيئة استمكن من دنياها، فأمست جسدًا ونفسًا لا تملك أمرها، ولا تحكم يومها ولا غدها.

بل إنَّها في تقليدها للعالم الأقوى تقع في تفاوت مثير:

عندما ننقل المباذل ومظاهر التفسخ في الحضارة الغربية ننقلها بسرعة الصوت، أما عندما ننقل علمًا نافعًا، وخيرًا يسيرًا، فإنَّ ذلك يتمُّ بسرعة السلحفاة.

وكثير من الشعوب الإسلامية تبيع ثرواتها المعدنية والزراعية بأكوام من المواد المستهلكة، وأدوات الزينة والترف، مع فقرها المدقع إلى ما يدفع عنها جشع العدو، ونياته السود في اغتيالها وإبادتها!

وظاهر أنَّ هذا السلوك استجابة طبيعية لأسلوب التربية الذي أخذت به منذ الصغر، وأثر محتوم لاتخاذ القرآن مهجورًا، ونبذ تعاليمه وقيمه، وهل ينتج ذلك إلا طفولة تفرح باللعب المصنوعة، والطرف الجديدة، والملابس المزركشة، والمظاهر الفارغة؟ ولا بأس بعد توفير هذا كلِّه من استصحاب بعض الآثار الدينية السهلة!

ولتكن هذه الآثار الاحتفال بذكرى قديمة أو زيارة قبر شهير!

ثم يسمَّى هذا السلوك التافه تدينًا!

لقد جرَّب المسلمون الانسلاخ عن دينهم، واطِّراح آدابه، وترك جهاده، فماذا جرَّ عليهم ذلك؟ حصد خضراءهم في الأندلس، فصفَّرت منهم بلاد، طالما ازدانت بهم، وعنت لهم، وما زال يرنُّ في أذني قول الشاعر:

قلتُ يومًا لدارِ قومٍ تفانَوْا:
 

 

أينَ سكَّانُكِ العزازُ علينا؟
 

فأجابَتْ هنا أقاموا قليلًا
 

 

ثمَّ ساروا ولستُ أعلمُ أينا!
 

أسمعت هذا النغم الحزين يروي في اقتضاب عُقبى اللهو واللعب، عقبى إضاعة الصلوات، واتباع الشهوات.. إنَّ عرب الأندلس لم يتحوَّلوا عن دارهم طائعين، ولكنَّهم خرجوا مطرودين.

أفلا يرعوي الأحفاد مما أصاب الأجداد؟

لقد قرأت أنباء مؤتمرات عربية وإسلامية كثيرة اجتمعت لعلاج مشكلة فلسطين، فكنت أدع الصحف جانبًا، ثم أهمس إلى نفسي: هناك خطوة تسبق كلَّ هذا، خطوة لا غنى عنها أبدًا:

هي أن يدخل المسلمون في الإسلام..

إنَّني ألمح في كلِّ ناحية استهانة بالفرائض، وتطلعًا إلى الشهوات، وزهادة في المخاطرة والتعب، وإيثارًا للسطوح على الأعماق، والأشكال عن الحقائق، وهذه الخلال تهدم البناء القائم، فكيف تعيد مجدًا تهدَّم، أو تردُّ عدوًّا توغَّل..؟

ما أحرانا أن نعقل التحذير النبوي الكريم: (إنَّما أخشى عليكم شهوات الغيِّ في بطونكم وفروجكم، ومُضلَّات الهوى)، فإذا أصغينا إلى هذا النذير ابتعدنا عن منحدر ليست وراءه إلا هاوية لا قرار لها، ثوى فيها قبلنا المفرطون والجاحدون.

------------------------------

اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net

المصدر: كتاب (قذائف الحق) للشيخ محمد الغزالي - دار القلم، دمشق، الطبعة الأولي 1411هـ . ص 249.